في كتابهما " ألف هضبة "، يقدم المفكران الفرنسيان جيل دولوز وفيليكس جاتاري مفهومًا جذريًا لجغرافيا الفلسفة: جيولوجيا الأخلاق، حيث ينظران إلى الفكر كتربة خصبة للمفاهيم. فالفلسفة، بالنسبة لهما، ليست تأملاً مجردًا في حقائق جاهزة، بل هي فن إبداعي لخلق المفاهيم. هذه المفاهيم، التي تشبه الصخور المستخرجة من باطن الأرض، لا تنشأ من فراغ، بل تحمل في طياتها بصمات التاريخ والتجربة الإنسانية.
ففي اليونان القديمة، أثرت الجغرافيا الساحلية على نشأة الديمقراطية وتطور النقاش العام، وتراكمت "جيولوجيا الأخلاق" حول الفضيلة والعقل والعدالة، كما تجسدت في فكرة المدينة الفاضلة. وفي الصين القديمة، ألهمت الطبيعة الشاسعة الفلسفة الطاوية للبحث عن الانسجام مع "الطريق"، وتجلت "جيولوجيا الأخلاق" في قيم الانضباط الجماعي والتعاون وتقديس النظام. أما في الفكر الهندي القديم، فقد كانت الأرض كيانًا مقدسًا ألهم مفاهيم فلسفية مركزية كدورة الحياة والموت (السامسارا) وعلاقة الفعل بالمصير (الكارما)، وشكلت "جيولوجيا الأخلاق" نظامًا اجتماعيًا يقوم على الدارما (الواجب)، والأهيمسا (عدم الإيذاء).
في الفلسفة العربية، ارتبط الإنسان بأرضه انتماءً وهوية، وتشكلت "جيولوجيا الأخلاق" حول العدل والمساواة والانتماء للأرض، مع حفظ الذاكرة الجمعية للفتوحات وتاريخ الأجداد. أما في أوروبا الحديثة، فقد تحولت النظرة إلى الأرض كمورد للاستغلال، وهو ما انعكس في الفلسفة النفعية، بينما أنتجت "جيولوجيا الأخلاق" قيمًا متناقضة كالادعاء بالتفوق الأخلاقي وممارسات الاستعمار. وفي الفلسفة الأمريكية، تداخلت قيم الحرية الفردية مع واقع العبودية واستعباد السكان الأصليين، مما أنتج "جيولوجيا أخلاقية" معقدة تناقض بين المثل العليا " الحرية الفردية والمساواة"، والتناقضات التاريخية " العبودية ".
ختامًا، فإن "جيولوجيا الأخلاق" المتراكمة عبر التاريخ لا تزال تشكل عالمنا اليوم، حيث تؤثر خبرات وتجارب الأجيال السابقة في قوانيننا وعلاقاتنا وصراعاتنا. هكذا يكشف التاريخ عن تربة الوجود، فالمدينة الفاضلة اليونانية، حتما سوف تمر في الطريق الصيني، كدورة حياة هندية، شيدت بهندسة معمارية عربية، وبتجارب العلم والعقل الأوروبي. فهم هذه الطبقات الأخلاقية يساعدنا على تحليل جذور الخلافات والسعي نحو تنقيب جيولوجي جديد قادر على استخراج الأخلاق والقيم من"الصخور القديمة" وبناء مستقبل مشترك .
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د أمير نصر
إقرأ أيضاً:
التحالف الأمني العربي-الإسرائيلي: درع إسرائيل المؤقت أم عبء التاريخ القادم؟
في ظلال ما بعد حرب غزة، يتشكّل في الخفاء مشهدٌ جديد للمنطقة، مشهد لا تذيعه البيانات الرسمية، لكنه يُرسم في الغرف المغلقة، ويُدار بعناية من قبل أجهزة استخبارات ووزارات دفاع أكثر مما يُدار من وزارات الخارجية.
إنه التحالف الأمني العربي-الإسرائيلي، الوجه العملي لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي فشل في فرض نفسه بالسلام، فحاول الآن أن يفرض نفسه بالأمن.
أولا: من التطبيع الناعم إلى الأمن الصلب
لم تبدأ القصة باتفاقات أبراهام، بل قبلها بعقود، حين قايضت بعض الأنظمة العربية السلام بالأمن. لكن بعد طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إبادة على غزة، تغيّر الإيقاع: لم تعد إسرائيل تسعى إلى "الاعتراف" بقدر ما تسعى إلى الاندماج الأمني داخل الجسد العربي.
فالتحالفات التي تُنسج اليوم ليست بين سياسيين، بل بين ضباط أمن ومهندسي مراقبة وقيادات عسكرية. الهدف المُعلن: "الاستقرار ومحاربة الإرهاب"، أما الهدف المستتر: تحويل إسرائيل إلى نواةٍ أمنية إقليمية تُملي معايير الحماية وتُحدّد من هو العدو ومن هو الصديق.
ثانيا: إسرائيل في قلب المنظومة لا على هامشها
من البحر الأحمر إلى الخليج، ومن سيناء إلى جبال النقب، تتكوّن منظومة مراقبة وتبادل معلومات استخبارية تشارك فيها أجهزة عربية بشكل مباشر أو عبر قنوات أمريكية.
إنها ليست تحالفا مكتوبا، بل تفاهمات أمنية فوق الطاولة وتحتها، تضمن لإسرائيل أن تبقى هي العقل المركزي لهذه المنظومة، فيما تُمنح الدول العربية هامشا من المنافع التقنية مقابل ولاء سياسي غير معلن.
بهذه الطريقة، تُستبدل "القضية الفلسطينية" بـ"التهديد الأمني"، وتُصبح المقاومة بندا في قائمة المراقبة لا في جدول الكرامة.
ثالثا: الأمن بديلا عن الشرعية
يُسوَّق هذا التعاون بوصفه طريقا إلى "الاستقرار"، لكنه في الحقيقة يُعمّق فقدان الشرعية لدى الأنظمة التي تظن أنها تشتري أمنها من إسرائيل. فالأمن لا يُشترى بالتقنيات ولا يُستورد من الخارج؛ إنه يُبنى من الداخل، من عدالة المجتمع وكرامة مواطنيه.
ولهذا، كل منظومة أمنية تُقام فوق الجراح الفلسطينية ستبقى هشة من الداخل، عاجزة عن الصمود أمام زلزال الوعي الشعبي حين يستيقظ.
رابعا: المدى القريب.. حماية مؤقتة
في السنوات الخمس المقبلة، سيبدو هذا التحالف كأنه درع واقٍ لإسرائيل من اضطرابات الإقليم. سيمنحها قدرة على مراقبة الحدود والبحار، وعلى إدارة مرحلة "ما بعد الحرب" بأدوات عربية تحت غطاء أمريكي.
لكن هذه الدرع ستبقى مؤقتة، لأن التاريخ لا يحميه الحديد بل الشرعية. وحين تنقلب موازين القوى العالمية، ويصعد وعي الأجيال الجديدة في الشارع العربي والإسلامي، سيتحوّل هذا التحالف إلى عبء أخلاقي وسياسي على أصحابه.
خامسا: المدى البعيد.. ارتداد التاريخ
في العقدين المقبلين، إن بقيت الأمور على حالها -وأظنها لن تبقى- سيكتشف الجميع أن التطبيع الأمني لم يصنع استقرارا بل جمّد الصراع دون أن يحلّه. وما يُجمَّد لا يختفي، بل يتراكم ويشتعل.
وكما سقطت ممالك الصليبيين بعد أن أحاطت نفسها بالتحالفات الأجنبية، ستسقط هذه المنظومة حين تفقد مبرر وجودها الأخلاقي والسياسي، فالتحالف الذي يُبنى على الخوف لا يصمد أمام الشعوب التي تُبنى على الأمل.
سادسا: فلسطين.. الغائب الحاضر
كلما اتسع التعاون الأمني، تقلّص حضور فلسطين في الخطاب الرسمي، لكنها لا تغيب من الوجدان. إنها الحاضر الذي يطارد كل نظام يحاول تجاوزه، والجرح الذي يُعيد المنطقة إلى حقيقتها الأولى: أن لا أمن في الشرق الأوسط بلا عدل، ولا استقرار بلا حرية، ولا تحالف ينجو إن تجاهل فلسطين.
قد يبدو التحالف الأمني العربي-الإسرائيلي اليوم درعا يحيط بإسرائيل، لكنه في جوهره درعٌ من ورق أمام نار التاريخ.
فكل منظومة تُبنى على إنكار الحق، سرعان ما تتحول إلى وثيقة اتهام ضد نفسها. وفي ميزان الزمن، لن يكون هذا التحالف سوى فصلٍ جديد في روايةٍ طويلة عنوانها: "حين يتحالف الخوف مع القوة.. ينتصر عليهما الضمير".