بِر الأم واحترام الزوجة
تاريخ النشر: 10th, September 2023 GMT
◄ يتوجب الوقوف على المعنى الحقيقي للنصوص القانونية التي يتم نشرها دون توضيح الغاية الأسمى منها
حمود بن سيف السلماني **
قال سبحانه وتعالى في محكم تنزيله بسورة الإسراء الاية (23) "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا".
من منطلق الآية القرآنية الكريمة، فإنِّه سبحانه وتعالى جعل منزلة الوالدين منزلة عظيمة في حياة الإنسان، وجعل عبادته مقرونة بالإحسان للوالدين، وذلك لعظم شأنهما لديه سبحانه، كون الوالدان هما من تعب وشقي من أجل أن يكبر الابن ويستطيع متابعة حياته اليومية، وصولًا للزواج والعيش مع شريكة حياته بكل سعادة وحب ومودة، لينجب الأبناء ويقوم بتربيتهم والاهتمام بهم حتى يكبروا ويستطيعوا متابعة حياتهم وصولًا للزواج وهكذا تستمر الحياة، إذًا فإنَّ البداية تكون من الوالدين في الاهتمام والاعتناء بالابن حتى يستطيع شق طريقه إلى الحياة، وتختلف طريقة عيش كل أسرة عن الأخرى، وفق مقتضيات الحياة التي اختارها والرزق المقسوم له.
وفي هذا الصدد فيكون الرجل مُلزماً شرعًا بالاهتمام بوالديه والاعتناء بهم عند الكبر والإحسان إليهما وهو ما يسمى بِبر الوالدين، ومخالفة ذلك يسمى عقوق الوالدين، وحث الرسول الكريم كذلك بالإحسان للوالدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنفه (لصق بالتراب كناية عن الذل والمهانة)، ثم رغم أنفُه، ثم رغم أنفُه، قيل: مَن يا رسول الله؟! قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدَهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة). رواه مُسلم.
وفي حالة زواج الرجل وكان هو الولد الوحيد الذي ينفق على والديه فإنِّه يلزم بأن يسكنهما معه في بيت الزوجية دون أحقية للزوجة في الاعتراض على ذلك؛ بل يتوجب عليه الإنفاق عليهما والاهتمام بهما كما أهتما به صغيرًا، ويتوجب على الزوجة المساعدة في ذلك، وهذا ما درجت عليه المجتمعات سابقًا، حيث إن الرجل يسكن في منزل والديه ويذهب هو في النهار للعمل والزوجة تخدمهما في المنزل بدون تأفف أو تذمر، ولكن مع تطور الحياة وزيادة الرفاهية وغيرها، أصبح الرجل يوفر منزلا مستقلا له ولزوجته، ويقوم بزيارة والديه بين الحين والآخر.
وفي الفترة الأخيرة بدأت تظهر بعض النشرات والتي تذكر أنه لا يحق للرجل أن يسكن أمه مع زوجته في بيت الزوجية إن شكت الزوجة الضرر، وإن كان ما نصت عليه المادة القانونية (58/أ) من قانون الأحوال الشخصية صحيحا؛ إلا أنه يتوجب علينا الوقوف عند نقطة مهمة جدًا، وهي ما الضرر المقصود هنا حتى يتم تطبيق نص المادة؛ فالضرر يجب أن يكون جسيمًا وفيه أذى للزوجة، وليس فقط أن تدعي الزوجة الضرر، كأن تذكر بأنها تعبت من خدمة الأم والأطفال، فهذا لا يعتبر ضررًا أبدًا، كما أنه لا يمكن للزوجة أن تقول إنها غير ملزمة بخدمة والدّْي الزوج، فكل ذلك لا يمكن قبوله منها نهائيًا بالمقابل فإنه يتوجب على الأم الساكنة بمنزل ابنها المتزوج، أن لا تتدخل في شؤونه الخاصة بالعلاقة الزوجية، وأن لا تؤذي زوجته؛ سواء بالقول أو الفعل أو حتى أن تذكرها بسوء مع زوجها، فكل ذلك يسبب لها ضررًا بليغًا ويجعلها تنفر من العلاقة الزوجية ومن أم الزوج، وتكون حياتها بين ضرر الأم وبين زوجها.
في هذه الحالة فإنه يحق للزوجة أن تطلب من زوجها أن يوقف الضرر الصادر من أمه تجاهها حتى تستطيع القيام بواجباتها الزوجية على أكمل وجه، والاهتمام بأم الزوج والاعتناء بها في نفس الوقت، تنفيذًا لأمر الله والرسول، وتطبيقًا لنص المادة (36/6) من قانون الأحوال الشخصية والتي توجب على كل من الزوجين احترام أبوي الآخر.
ومن هذا المنطلق يتوجب علينا بداية الوقوف على المعنى الحقيقي من المنشورات التي يتم نشرها دون توضيح الغاية الأسمى من تلك المواد القانونية، أو ماهية المقصود منها؛ حيث إن قانون الأحوال الشخصية وضع من أجل المحافظة على كيان الأسرة وتماسكها وأن يعتني كل فرد بالآخر، وليس من أجل تشتتها أو الإخلال بها، بالتالي فإن كل مادة قانونية لها غاية ومعنى من وضعها وقصد بها المصلحة العامة قبل كل شيء، مع العلم بأن قانون الأحوال الشخصية تم وضعه بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية السمحاء.
** محامٍ ومستشار قانوني
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة
منذ يومين مرت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل رجل من أعظم رجال مصر فى القرن العشرين؛ رجل لم يكن مجرد سياسي أو صاحب منصب، بل كان مدرسة كاملة فى الوطنية والعناد الشريف والإصرار على أن تبقى مصر واقفة مهما حاولت قوى الاحتلال أن تكسر إرادتها.
أتحدث هنا عن فؤاد باشا سراج الدين، الرجل الذى ترك بصمة لا تمحى فى الوجدان المصرى، والذى رحل عن عالمنا فى التاسع من أغسطس عام 2000، لكنه لم يرحل يوما عن ذاكرة الوطن.
فى كل مرة تمر فيها ذكرى رحيله، أشعر أن مصر تعيد اكتشاف جزء من تاريخها؛ تاريخ لا يمكن فهمه دون الوقوف أمام شخصية بهذا الثقل وبهذه القدرة على الصمود.
ولد فؤاد باشا سراج الدين سنة 1910 فى كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ، وبدأ مشواره شابا يحمل حلم الوطن فى قلبه قبل أن يحمله على كتفيه.
تخرج فى كلية الحقوق، ودخل معترك الحياة العامة صغيرا فى السن، لكنه كبير فى العقل والبصيرة، وفى سن لم تكن تسمح لغيره سوى بأن يتدرب أو يتعلم، أصبح أصغر نائب فى تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، ثم أصغر وزير فى حكوماتها المتعاقبة، فى زمن لم يكن الوصول فيه إلى المناصب بالأمر السهل ولا بالمجاملات.
لكن ما يجعل الرجل يستحق التوقف أمامه ليس كثرة المناصب، بل طريقة أدائه فيها، فقد كان نموذجا للمسؤول الذى يعرف معنى الدولة، ويؤمن بأن خدمة الناس شرف لا يباع ولا يشترى.
ومن يعيش تفاصيل تاريخه يدرك أنه لم يكن مجرد جزء من الحياة السياسية، بل كان جزءا من الوعى العام للمصريين، وصوتا قويا فى مواجهة الاحتلال، وسندا لحركة الفدائيين فى القناة، وواحدا من الذين كتبوا بدموعهم وعرقهم تاريخ كفاح هذا الوطن.
ويكفى أن نذكر موقفه الأسطورى يوم 25 يناير 1952، حينما كان وزيرا للداخلية، ورفض الإنذار البريطانى الداعى لاستسلام رجال الشرطة فى الإسماعيلية.
وقتها لم يتردد لحظة، واختار الكرامة على السلامة، والوطن على الحسابات السياسية، ذلك اليوم لم يصنع فقط ملحمة بطولية، لكنه صنع وجدانا كاملا لأجيال من المصريين، وأصبح عيدا رسميا للشرطة تخليدا لشجاعة رجال رفضوا أن ينحنوا أمام الاحتلال، وهذه الروح لم تكن لتظهر لولا وزير آمن برجاله وبمصر أكثر مما آمن بنفسه.
كما لا يمكن نسيان دوره الحاسم فى إلغاء معاهدة 1936، ودعمه لحركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولا تمويله للفدائيين بالمال والسلاح، كان يعلم أن المستقبل لا يهدى، وإنما ينتزع انتزاعا، وأن السيادة لا تستعاد بالكلام، وإنما بالمواقف.
وفى الداخل، قدم سلسلة من القوانين التى شكلت تحولا اجتماعيا حقيقيا؛ فهو صاحب قانون الكسب غير المشروع، وصاحب قوانين تنظيم هيئات الشرطة، والنقابات العمالية، والضمان الاجتماعى، وعقد العمل الفردى، وقانون إنصاف الموظفين.
وهى تشريعات سبقت عصرها، وأثبتت أن الرجل يمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية عميقة، وميلا دائما للعدل والمساواة، وفهما راقيا لطبيعة المجتمع المصرى.
ولم يكن خائفا من الاقتراب من الملفات الثقيلة؛ ففرض الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضى الزراعية حين كان وزيرا للمالية، وأمم البنك الأهلى الإنجليزى ليصبح بنكا مركزيا وطنيا، ونقل أرصدة الذهب إلى مصر للحفاظ على الأمن الاقتصادى للدولة، وكلها خطوات لا يقدم عليها إلا رجل يعرف معنى السيادة الحقيقية ويضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.
ورغم الصدامات المتتالية التى تعرض لها، والاعتقالات التى مر بها فى عهود متعددة، لم يتراجع ولم يساوم، ظل ثابتا فى المبدأ، مؤمنا بالوفد وبالحياة الحزبية، حتى أعاد إحياء حزب الوفد الجديد عام 1978، ليبقى رئيسا له حتى آخر يوم فى حياته، وقد كان ذلك الإحياء بمثابة إعادة الروح لمدرسة سياسية كاملة ترتبط بتاريخ النضال الوطنى الحديث.
إن استعادة ذكرى فؤاد باشا سراج الدين ليست مجرد استدعاء لصفحات من التاريخ، بل هى تذكير بأن مصر لم تبن بالكلام، وإنما صنعت رجالا مثل هذا الرجل، آمنوا أن الحرية حق، وأن الوطنية فعل، وأن الكرامة لا تقبل المساومة.
وفى زمن تكثر فيه الضوضاء وتختلط فيه الأصوات، يبقى صوت أمثال فؤاد باشا أكثر وضوحا، وأكثر قوة، لأنه صوت نابع من قلب مصر، من تربتها وأهلها ووجدانها.
رحل جسد الرجل، لكن أثره باق، وتاريخه شامخ، وسيرته تذكرنا دائما بأن الوطن لا ينسى أبناءه المخلصين وأن مصر، رغم كل ما تمر به، قادرة دائما على إنجاب رجال بحجم فؤاد باشا سراج الدين.