استوقفتني تجربة الشاعر الدكتور عبد الله أبو شميس في كتاب "المنسيات" الصادر عن دار أزمنة، والذي يضم قصائد على ألسنة نساء، غالبيتهن معروفات في إطار القصص القرآني وأحداثه، نصف هؤلاء النساء مشهورات الاسم وهنّ: حواء ومريم وهاجر وبلقيس وخديجة، ونصفهن الآخر يُعرفن ضمن الثقافة العربية، بنسبتهن إلى رجل، وهنّ: والهة امرأة نوح، وراحيل والدة يوسف، وآسيا امرأة فرعون، وصفّورا زوجة موسى، وزليخا امرأة عزيز مصر.

تحاول قصائد أبو شميس إعادة اكتشاف تجربة المرأة في كل قصة من هذه القصص، كما تحاول استبطان تجارب صاحباتها أنفسهن، كون التجربة الإنسانية هي جوهر الشعر، كما ذكر المؤلف، فالعمل كله قائم على الخيال، ولا يدعي امتلاك حقيقة شخصيات غابرة في الزمن والتراث.

يفتتح الشاعر كتابه بقصيدة "حواء" وفيها يقول:

عصيتُ إلهي لأبقى معكْ

وأخلفتُ عهدي لكي أتبعَكْ

نصحتُكَ لم تقتنعْ بكلامي

وإبليسُ أفلحَ أن يقنعَكْ

نصحتُكَ ألّا تذوق الثمارَ

فلمّا أكلتَ أكلتُ معكْ!

أنا ضلعُ خصركَ.. حيث ذهبتَ

سأذهبُ تابعةً أضلعَكْ

ولستُ على الذنب نادمةً

ولكنْ على ندمٍ أوجعَكْ

وكم كان الشاعر موفقاً في بوحه على لسان حواء، وهو يكشف مدى رقي المشاعر ورهافتها، التي ينبغي أن تكلل حياة أي زوجين، حين قال: "ولست على الذنب نادمة/ ولكن على ندم أوجعك".

ثم نصغي لجمالية رد آدم عليه السلام على حواء في القصيدة ذاتها:

أسمّيكِ "حوّاءَ".. أنتِ احتويْتِ"

جنوني، وشاركتِني زلّتي

وأنتِ مسحتِ كآبةَ حزني

وأعتقتِ روحيَ من محنتي

وها أنتِ تُهدينني فتنةً

فيا لنعيمي! ويا بهجتي!

أنا آدمُ اليوم، لا أمس لي

وحسبيَ في غدٍ امرأتي

وما عدتُ أبحث عن جنّةٍ

فسوف تكونين لي جنّتي!

وعلى نقيض عاطفة المودة والرحمة بين آدم وحواء في القصيدة السابقة، نقرأ في قصيدة "والهة" زوجة نوح عليه السلام:

"عنكبوتٌ أكملتْ

منذ شهورٍ بيتَها في حجرتي

وأقامتْ فوق جدران السكينةْ"

يستهل الشاعر قصيدته بكلمة "عنكبوت"، وأول ما يرد بذهن القارئ قوله تعالى: "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" الأنثى التي تفترس زوجها، حينها يدرك القارئ أن محور القصيدة علاقة زوجية فاشلة وبائسة، بسبب موقف زوجة لا تساند زوجها ولا تؤمن برسالته وبعمله وهو يصنع الفلك، التي أنقذ فيها ما تبقى من حياة على الأرض.

بينما في قصيدة "راحيل" زوجة يعقوب عليه السلام يتقمص الشاعر عاطفة الأم وهي تبكي فراق يوسف، قائلة:

"كم ربيعاً مضى؟

كيف أدري، أنا البدويّةَ، يا ولدي

بحساب السنينْ؟

كلّ عامٍ أُضيف إلى جسدي ثُقُباً

لأراكَ بهِ..

لو ترانيَ، يا ولدي، 

صرتُ غربالَ شوقٍ

مثقّبةً بالحنينْ"

صورة شعرية مدهشة يصف بها أبو شميس آلام راحيل "غربال شوق مثقبة بالحنين"، كما أن دقة الوصف وجماليته تحسب لهذا الشاعر المبدع.

أما في قصيدة "زليخا" امرأة عزيز مصر والتي هامت بيوسف عليه السلام نقرأ:

"أيحسبني سأتركُهُ لأنثى ترتديهِ سِوايَ

والعُشبُ الّذي في صدرِهِ مَرعايْ؟!

لأجلكَ أيّها البدويُّ

قد أصبحتُ راعيةً

وفي شفتيَّ أحلمُ أن يذوبَ النّايْ"

شعراء كثيرون تمثلوا صوت الأنثى في قصائدهم وعبّروا عن خلجاتها ومشاعرها، ولكن قلة منهم نجحوا في ذلك، فهي مهمة تحتاج قدراً عالياً من الفن بالأسوب وانتقاء الألفاظ والصور، كي يقتنع القارئ أن النص فعلاً يعكس أحاسيس امرأة، ولعل من الشعراء الذين أجادوا ذلك، القدير نزار قباني كما في قصيدتيه "كلمات" التي تغنت بها الفنانة ماجدة الرومي و"أيظن" التي صدحت بها صاحبة الحنجرة الذهبية نجاة الصغيرة، وبلا شك يمكن القول إن مؤلف كتاب "المنسيات" نجح وباقتدار بأن يقدم لنا أصواتاً لسيدات من التاريخ الإنساني، تجعلنا نتساءل عن سر احتفائه بقصصهن، ويكفي أن نصغي له في قصيدة "آسيا" حين يقول:

" فرعونُ

قافلةٌ من الخيباتِ

تعبرُ عمريَ المهدورَ

عاماً بعد عامِ"

لنشعر فعلاً أننا أمام آسيا تندب حظها في العيش مع الطاغية، الذي قال: "أنا ربكم الأعلى".

الشاعر في سطور

يشار إلى أن الدكتور عبد الله أبو شميس شاعر وباحث ومترجم، من مواليد عمّان 1982، حاصل على البكالوريوس في هندسة الميكاترونيكس، والدكتوراه في الأدب والنقد من جامعة اليرموك في الأردن (2013)، يعمل في إدارة البحوث بمركز أبوظبي للغة العربية، صدرت له عدة مجموعات شعريّة: هذا تأويل رؤياي (2006) ، الخطأ (2011)، الحوار بعد الأخير (2016)، وكتاب المَنسِيات (2021)، كما صدرت له ترجمة شعرية لكتاب "اللانداي: من شعر المرأة الأفغانيّة في الحب والحرب"، بالاشتراك مع الدكتورة حنان الجابري (2018).

وقد شارك أبو شميس في الدورة الأولى من برنامج أمير الشعراء 2007، وحاز على جائزة لجنة التحكيم والناقد د. عبد الملك مرتاض.

وهو حاصل على عدد من الجوائز العربية منها، جائزة مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين لأفضل قصيدة، عن قصيدة "راحيل" (2022)، وجائزة محمود درويش الشعرية (2018) عن ديوان "الحوار بعد الأخير"، وجائزة الشارقة للإبداع العربيّ (2005) عن ديوان "هذا تأويل رؤياي".

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: غزة وإسرائيل زلزال المغرب انتخابات المجلس الوطني الاتحادي التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة علیه السلام فی قصیدة

إقرأ أيضاً:

ثلاث نساء في قبر واحد.. يوم تصدت سيدات المرقب لشبيحة الأسد

لم يكن قد مرّ على بداية الثورة السورية إلا بضعة أسابيع شدّت أنظار العالم إلى الحواضر المنتفضة على نظام الأسد، غير أن قرية صغيرة عند أسوار قلعة عظيمة قد ضربت جذورها في نحو ألف سنة من التاريخ، وبسطت أسوارها على رأس جبل المرقب، كانت تقضّ مضجع الأسد الابن وتقلقل كرسيه.

كانت قرية المرقب بؤرة انتفاض لا تهدأ، فساحاتها تشهد مظاهرات يومية تندد بفساد النظام وتدعو لإسقاطه وتساند المدن الثائرة عليه، غير عابئة بغياب عدسة الإعلام عنها أو ابتعادها عن مراكز التأثير أو خلوّها من المشاهير، إلا ما يتسرب من تصويرات هواتف بسيطة، تنقل إلى فضاء الإنترنت سقف المطالب الرفيع الذي كانت تصدح به حناجر المتظاهرين في ساحات القرية.

قلعة المرقب في ريف مدينة بانياس (الجزيرة)

هذه القرية الصغيرة التي لا تبعد أكثر من خمسة كيلومترات عن البحر، كانت مثل أختها الكبيرة مدينة بانياس الساحلية، رمحا في خاصرة نظام بشار الأسد، لا ينفك يخزه، وهو يحاول يائسا التخلص منه، لذلك أرسل قوة كبيرة من الجيش، مدعومة بأعداد غفيرة من "شبيحة" القرى المؤيدة له في ريف بانياس، قدّر بعض السكان أن مجموعهم يصل إلى 25 ألفا، اقتحموا القرية واعتقلوا جميع رجالها، إلا من استطاع أن يهرب إلى أحراج الجبل قبل أن يتمكنوا منه.

خلت القرية من الرجال، إلا أنّ أخوات الرجال كنّ فيها. تجمّعت حوالي 150 سيدة يوم السبت السابع من مايو/أيار 2011، في مظاهرة نسوية تنادي بالإفراج عن أبنائهن وإخوانهن الذين اعتقلهم شبيحة الأسد. لكن قوات الجيش لم تمهلهنّ طويلا، بل فرّقت المظاهرة بالرصاص الحي، واستهدفت جمع النسوة برصاص قناصة الثكنة العسكرية الرابضة على رأس الجبل.

إعلان

نقل مقطع الفيديو اليتيم الذي تسرّب عن الواقعة صورة سيدة مضرجة بالدماء تحاول أخرى دون جدوى أن تسعفها، وفي الجانب الآخر من الطريق سيدتان ملقيتان عليه، تركض نحوهما أخريات أملا في نجدتهما، وفي الخلفية صوت نساء تولول أو تهلل، وجلبة واضطراب، ونداء يائس على المصابات الثلاث: أحلام حويسكية، وليلى طه، وأمينة صهيوني، لكن دون مجيب.

درع من القنص

أحلام، طالبة الدراسات العليا في تخصص الفلسفة التي تعرفها القرية بثقافتها الواسعة وهمتها العالية ونشاطها في تعليم أبناء القرية وتثقيفهم. وليلى، الشابة الحانية على من حولها، الصابرة على أمراض ابتليت بها، المعروفة بدعاء الله أن يرزقها الشهادة. وأمينة، السيدة الستينية والأمّ لبنتين وأربعة شباب قد اختطف النظام اثنين منهم في سجونه، وهرب الثالث خشية الاعتقال؛ هؤلاء السيدات الثلاث، يسجّل أهالي بانياس أنهنّ كنّ أول من استشهد من النساء في الثورة السورية.

تداعى من استطاع من أهالي القرية إلى الفقيدات الثلاث، فحملوهنّ إلى أحد البيوت وودعوهنّ بالدعاء والرحمات، قبل أن تلوح لهم مشكلة جديدة: أين يدفنونهن والمقبرة القريبة جدا مكشوفة تماما لقناصي الثكنة العسكرية الذين كانوا يستهدفون كل ما يتحرك في القرية؟، فالوصول إلى المقبرة الواقعة على الرصيف المقابل من الشارع، لم يكن إلا نوعا من المخاطرة بالحياة.

يقول الشيخ خالد نفّوس، إمام وخطيب جامع المرقب الأثري الذي يعد من أقدم مساجد الساحل السوري، إن المقبرة مجاورة للمسجد، لكنهم مع ذلك لم يستطيعوا الوصول إليها لوجود القناصة، لذلك اضطروا إلى دفن الشهيدات الثلاث في قبر واحد في حديقة المسجد، التي يسترها بناء من طابقين حجب أعمال حفر القبر والدفن عن أعين القناصة.

بعد أن حمد الله على النصر والخلاص مما وصفه بالنظام الفاسد، لم يستطع محمد، أخو ليلى صهيوني، أن يخفي دموعه وهو يذكر عطف أخته وحنوّها على البيت، لكنّ دموع الحزن هذه ما لبثت أن انقلبت إلى نبرة حسرة وغضب، وهو يتمنى أن يعرف المسؤول عن مقتل أخته، أو يمكنه الله به، ويقول: "يا ليت بس أعرفه، ولو يكون في الصين".

إعلان

أما فنان القرية بلال بدوي، فيؤكد أنهم مهما تكلموا فلن يقدروا على وصف الاختناق والحرمان الذي عانوا منه في عهد الأسدين، ثم يشير إلى جدارية رسمها، تصوّر يدا نازفة تداري برعم الثورة السورية حتى ينمو بأمان، قائلا إن هذه اليد الدامية تجسد الشهداء الذين ضحّوا بأنفسهم فداء للحق والعدالة وغيرهما من قيم الثورة.

دُفنت أمينة وليلى وأحلام في قبر واحد عليه ثلاث شواهد، لم يشهدنَ انتصار الثورة السورية، ولم يعشن فرحته، لكن ذكراهنّ كانت حاضرة في جميع احتفالات قرية المرقب.

مقالات مشابهة

  • قصيدة لشاعر سوداني تصل أسوار سجن ألكاتراز
  • العباس يدعو البابا الجديد لمواصلة جهود السلام التي بدأها سلفه فرنسيس
  • المراهنة على قوة أمريكا و”إسرائيل” خسارة.. والثقة بالله والتوكل عليه نصرٌ مؤزر
  • المراهنة على قوة أمريكا وإسرائيل خسارة..والثقة بالله والتوكل عليه نصرٌ مؤزر
  • بعد فشل كل المسارات التي اتبعها السودان، يكون قطع العلاقات هو بداية للحل
  • قراءة في كتاب «المسلمون ونصرة قضايا الأمة.. أحكام وضوابط» للدكتور سالم عبد السلام الشيخي
  • دعاء زيادة الرزق .. احرص عليه في الثلث الأخير من الليل
  • ثلاث نساء في قبر واحد.. يوم تصدت سيدات المرقب لشبيحة الأسد
  • هل يجوز دخول الحمام بخاتم عليه آية قرآنية؟.. الإفتاء توضح
  • دعاء السيدة عائشة للرزق أوصاها النبي به .. احرص عليه في الثلث الأخير من الليل