"تيودور بلهارس" ينظم ندوة حول استراتيجيات التكيف والتخفيف من آثار تغير المُناخ
تاريخ النشر: 23rd, October 2023 GMT
عقد معهد تيودور بلهارس برئاسة د. محمد عباس شميس القائم بأعمال مدير المعهد ندوته الثالثة تحت عنوان "إستراتيجيات التكيف والتخفيف من آثار تغير المُناخ المُتعلقة بالبيئة المائية وصحة الإنسان" ضمن البرنامج البحثي للتغيرات المُناخية، بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا ، وتحت رعاية الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي.
افتتح فعاليات الندوة د. محمد عباس شميس، موضحًا مدى اهتمام الدولة بمشكلة التغيرات المُناخية، والحرص على المُساهمة الفعالة والمشاركة مع دول العالم في مُواجهة هذه المشكلة، وذلك تماشيًا مع رئاسة الأطراف للتغيرات المُناخية (COP- 27).
كما أشار د. محمد عباس شميس إلى قيام الحكومة المصرية باتباع العديد من السياسات والإجراءات لمُواجهة تحدي التغيرات المُناخية، والتكيف مع تداعياتها، وذلك انطلاقًا من كونها تهديدات تنموية واقتصادية بالمقام الأول، لافتًا إلى دور المعهد، من خلال البرنامج البحثي للتغيرات المُناخية في مُواجهة الخطر الصحي والبيئي الناجم عن تأثير الاحتباس الحراري، وذلك من خلال تنفيذ المشاريع البحثية الخاصة بتأثير التغيرات المُناخية على انتشار الأمراض المعدية وغير المعدية، وكذلك تنظيم الندوات وورش العمل، واستضافة الخبراء والمتخصصين في هذا المجال للتعاون العلمي، وتبادل الخبرات.
وأوضح د. محمد عباس شميس أن هذه الندوة تأتي ضمن سلسلة من الندوات والفاعليات التي يقدمها المعهد، من خلال البرنامج البحثي للتغيرات المُناخية استنادًا لما تم إنجازه في مؤتمر الأطراف للتغيرات المُناخية (COP- 27)، الذي استضافته مصر في شهر نوفمبر الماضي، واستعدادًا لمؤتمر الأطراف لقمة المُناخ (COP- 28)، الذي سوف يعقد بدولة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر المقبل، لافتًا إلى أن الهدف من عقد هذه الندوة هو التعرف على المشاكل البيئية والصحية الناتجة عن التغيرات المُناخية في مصر، ومدى التكيف معها والتخفيف من آثارها السلبية (Adaptation & mitigation)، وذلك من خلال المحاضرات المقدمة من قبل نخبة من الأساتذة المتخصصين في هذا المجال.
وأضاف القائم بأعمال مدير المعهد أن الندوة تناولت التغيرات المُناخية المتوقعة، من خلال سيناريوهات التغير المُناخي وأهمية السعي للتخفيف من آثار هذه التغيرات عن طريق تضافر الجهود بين قطاعات المياه، والغذاء، والطاقة، فضلًا عن التأثير السلبي لتغير المُناخ على التنوع الحيوي، وتوضيح خطورة التخلي عن مشروعات التشجير والمساحات الخضراء.
ومن جانبها جاءت كلمة د. ناهد محمد إسماعيل المشرف الفني على برنامج التغيرات المُناخية بالمعهد لتوضيح الدور الذي يقوم به البرنامج، والمهام المنوط بها، وإستراتيجيات البرنامج المقبلة في إجراء الأبحاث العلمية في مجال الصحة وانتشار الأمراض، والتنوع البيولوجي في النظام البيئي المائي في مصر، وذلك بهدف الوصول لعمل خرائط صحية لانتشار الأمراض المعدية وعوائلها الوسيطة؛ لتوقع سيناريوهات تأثير التغيرات المُناخية في المستقبل، وكذلك دور البرنامج في حملات التوعية، من خلال القوافل التي ينظمها أعضاء البرنامج في معظم القرى والمدن المصرية.
كما أشار د. أحمد عزام القائم بأعمال رئيس قسم بحوث البيئة بالمعهد في كلمته إلى دور القسم وإنجازاته في مجال الصحة البيئية، ومدى ارتباطها بالتغيرات المُناخية، فضلًا عن إلقائه محاضرة بعنوان "تأثير تغير المُناخ على الموارد المائية في مصر".
وقدمت د. شيرين زهران مدير وحدة القدرات والبحوث بالمعهد العالي للهندسة والتكنولوجيا بالعبور محاضرة عن أهمية الترابط بين القطاعات المختلفة للتخفيف من مخاطر التغير المُناخي، كما شاركت في الندوة د. زينب صلاح محمود بالهيئة العامة للأرصاد الجوية بمحاضرة عن التغيرات المحتملة في مُناخ مصر باستخدام سيناريوهات التغيرات المُناخية.
وتحدث د. فوزي العيسوي يونس أستاذ ورئيس وحدة فسيولوجيا الأقلمة بمركز بحوث الصحراء عن تأثير التغيرات المناخية على التنوع البيولوجي، كذلك قدم د. هاني عبد السلام أستاذ البيئة البحرية بقسم علم الحيوان جامعة بنها محاضرة عن أهمية استعادة المساحات الخضراء في المجتمعات المدنية والمتحضرة، وقامت د. حنان على سيد إبراهيم أستاذ الصحة العامة بمعهد تيودور بلهارس بإلقاء محاضرة عن التغيرات المناخية وصحة المرأة.
كما ألقت د. شيرين محفوظ الباحث بقسم الرخويات الطبية بمعهد تيودور بلهارس محاضرة عن توزيع قواقع بوليتس الناقلة للبلهارسيا في ضوء التغيرات المُناخية.
جدير بالذكر، أن الندوة شهدت حضورًا مميزًا من السادة أعضاء هيئة التدريس والبحوث من مختلف الجامعات والمعاهد البحثية المصرية، مثل جامعة عين شمس، وجامعة الأزهر، وجامعة بنها، والمركز القومي للبحوث، ومركز البحوث الزراعية، ومركز بحوث الصحراء، ومعهد بحوث الهندسة الوراثية بوادي النطرون، ومعهد علوم البحار والمصايد، والمعمل المركزي للمناخ الزراعي، والهيئة العامة المصرية للأرصاد الجوية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أكاديمية البحث العلمي التكنولوجى الصحة العام الصحراء التغیرات الم ناخیة تیودور بلهارس محاضرة عن من خلال
إقرأ أيضاً:
ما بعد التبعية: تغير ميزان القوة بين واشنطن وأوروبا
لعقودٍ طويلة، ظلت الولايات المتحدة تحثّ حلفاءها في حلف الناتو على زيادة مساهماتهم الدفاعية. ومع انعقاد قمة الناتو لعام 2024 في واشنطن، بدا أن الرسالة وصلت أخيرًا: فقد خصّصت 23 دولة من أصل 32 عضوًا في الحلف 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، وهو الهدف المحدد من قبل الناتو، مقارنةً بست دول فقط في عام 2021. أرجع العديد من المحللين هذا التحول إلى عامل رئيسي: دونالد ترامب، فرغم الانتقادات الواسعة التي واجهها أسلوبه الحاد تجاه الأوروبيين خلال فترتيه الرئاسيتين، فإن لهجة ترامب المتشددة حيال «تقاعس» أوروبا عن تحمل عبء الدفاع، لعبت دورًا في دفع دول الحلف إلى مراجعة سياساتها. ومع ذلك، فإن التحول في الإنفاق لم يبدأ مع ترامب، بل سبق ظهوره السياسي بسنوات.
فطوال أكثر من عقد، ظلّ حلفاء الناتو يتعاملون بجدية مع التهديد الروسي المتنامي للأمن الأوروبي. وشكّلت الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحوّل واضحة، ترافق ذلك مع تراجع ملحوظ في تركيز واشنطن على أوروبا وتحوّل اهتمامها نحو آسيا. دفعت هذه العوامل مجتمعة أوروبا إلى تعزيز إنفاقها الدفاعي، وزيادة المشتريات والإنتاج، في مسار تصاعدي ساعد القارة على بناء جيوش أكثر فاعلية قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض في 2025 - وهو اتجاه يُرجَّح أن يستمر حتى بعد مغادرته منصبه.
إعادة انتخاب ترامب لم تكن السبب بقدر ما كانت بمثابة تأكيد على تحوّل أعمق: الأوروبيون باتوا يدركون أن الولايات المتحدة تمرّ بتحوّل جذري، ولم يعودوا واثقين من أن الاعتماد على القيادة الأمريكية يخدم مصالحهم.
زيادة الإنفاق الأوروبي على الدفاع تُعدّ، من جوانب كثيرة، خبرًا سارًا للولايات المتحدة. فمع تصاعد قدرات القارة الدفاعية، تستطيع واشنطن الآن أن تُركّز أولًا على الصين، ثم روسيا. ولهذا السبب، كان رؤساء أمريكيون من كلا الحزبين يضغطون منذ سنوات على أوروبا للقيام بالمزيد.
لكن قبل أن يُسارع المسؤولون الأمريكيون إلى تهنئة أنفسهم، عليهم إدراك أن لهذا «النجاح» ثمنًا. فتعاظم القدرات الأوروبية يعني نهاية مرحلة القيادة الأمريكية المريحة. أوروبا باتت تعتمد على نفسها أكثر، وستشعر بضغط أقل لمجاراة مصالح واشنطن، وستكون أقل ميلاً لشراء الأسلحة الأمريكية، وربما تحدّ من استخدام القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها في عمليات خارجية تشمل إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. بل إن بعض المواقف الأوروبية، خصوصًا بشأن الحرب في أوكرانيا، بدأت تُقيّد حرية واشنطن في التحرك، على نحو لم يكن واردًا في السابق.
لا يعني تغيّر موازين القوى بين ضفّتي الأطلسي أن التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا محكوم عليه بالانهيار. فلا تزال هناك مصالح مشتركة قوية تدفع الطرفين للتعاون. غير أن هذه الشراكة لم تعد تُفترَض تلقائيًا؛ بل على واشنطن أن تسعى لكسبها من جديد، خاصة في ظل التحديات العالمية المتعددة التي تواجهها منذ نهاية الحرب الباردة. وللتعامل مع هذه التهديدات -من بكين إلى موسكو وطهران- ستحتاج الولايات المتحدة إلى أوروبا، لكن أوروبا مختلفة: أكثر قوة وثقة واستقلالية.
كان الأمن الأوروبي والأمريكي متداخلين إلى حدّ لا يسمح بفصلهما. ورغم أن اختلال عبء الإنفاق الدفاعي لطالما شكّل مصدر توتر داخل الناتو، فإن قيادة الولايات المتحدة كانت آنذاك منطقية وضرورية.
اليوم، ومع تغيّر الواقع الجيوسياسي وارتفاع كلفة القيادة الأحادية، على واشنطن أن تختار: إما شراكة عادلة تحترم مصالح أوروبا، أو مخاطر خسارة النظام العالمي لصالح قوى استبدادية صاعدة.
لم تحصل الولايات المتحدة مقابل حمايتها لأوروبا على نظام عالمي مستقر فحسب، بل حصدت أيضًا مجموعة كبيرة من المكاسب العسكرية والسياسية والاقتصادية. فمن خلال أكثر من 30 قاعدة عسكرية موزعة في أوروبا، ضمنت واشنطن قدرة شبه مطلقة على استخدام المجال الجوي والممرات المائية الأوروبية لدعم عملياتها حول العالم، وفق اتفاقيات «الوصول والتمركز والتحليق الجوي» (ABO) التي غالبًا ما تكون بشروط سخية.
استغلت واشنطن هذه القواعد مرارًا: في 1973 استخدمت قاعدة في جزر الأزور لدعم إسرائيل خلال حرب أكتوبر، رغم المخاطر الاقتصادية؛ وفي 2001 حصلت على إذن أوروبي لاستخدام القواعد والمجال الجوي في عمليات أفغانستان؛ وحتى في 2003، ورغم المعارضة لحرب العراق، سمحت دول أوروبية باستخدام قواعدها أو على الأقل بمرور الطائرات الأمريكية، باستثناء فرنسا التي تعرّضت لانتقادات داخل الحلف. هذه المرونة تكشف كيف خدمت القيادة الأمريكية مصالحها حتى عند الاختلاف.
وتُشكّل هذه القواعد أيضًا خط دفاع رئيسي ضد تهديدات كالغواصات الروسية في شمال الأطلسي، إذ تعتمد واشنطن على تعاون دول مثل النرويج والدنمارك والمملكة المتحدة لرصد أي تحركات عبر فجوة GIUK الحساسة. فضلًا عن ذلك، تؤمّن واشنطن تفوقها العسكري عبر مبيعات الأسلحة. فمعظم دول الناتو تشتري أنظمة أمريكية الصنع لتسهيل التشغيل المشترك والتدريبات الموحدة، كما هو الحال في استخدام طائرات P-8 بوسايدون. رغم بيروقراطية نظام المبيعات الأمريكي، تبقى المعدات الأمريكية مفضلة بسبب موثوقيتها ودعمها الفني المستمر، كما في عقود طائرات F-35 باهظة الثمن ولكن عالية الكفاءة.
باختصار، بنت الولايات المتحدة هيمنتها في الناتو على مدى 75 عامًا، لا فقط عبر الحماية، بل عبر شبكة مصالح متشابكة تضمن لها النفوذ والسيطرة والفاعلية العسكرية.
تُعزز مشتريات أوروبا من السلاح الأمريكي قدرة واشنطن على الحفاظ على قاعدة صناعية دفاعية قوية. ففي الفترة بين 2022 و2024، اشترت الدول الأوروبية أنظمة دفاع أمريكية بقيمة 61 مليار دولار، أي ما يعادل 34% من إجمالي عقودها الدفاعية، وفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. وحدها صفقات طائرات F-35 تمثل مليارات الدولارات لشركات السلاح الأمريكية. ومنذ عام 2020، تضاعف حجم واردات السلاح الأوروبي، وارتفعت نسبة المشتريات من الولايات المتحدة من 54% إلى 64%، مما منح الشركات الأمريكية حصة متزايدة من سوق الدفاع الأوروبي.
صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تنفق أكثر من أوروبا على الدفاع، لكن الهوة بدأت تضيق. ففي 2014، أنفقت الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو في المتوسط 1.5% من ناتجها المحلي على الدفاع، مقابل 3.7% لأمريكا. أما في 2024، فبلغ الإنفاق الأوروبي 2.2%، في حين تراجع الأمريكي إلى أقل من 3.4%. وتفوقت دول مثل إستونيا وبولندا على واشنطن من حيث النسبة: 3.43% و4.12% على التوالي.
صحيح أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة لا يزال أعلى من معظم الدول الأوروبية، ما يعني أنها تظل تنفق أكثر بالنظر إلى الحجم، لكن المعادلة بدأت تميل. ففي عام 2025، شكلت الولايات المتحدة 14.8% من الناتج العالمي، مقابل 17.5% لدول الاتحاد الأوروبي إلى جانب المملكة المتحدة والنرويج. في حين تُنفق الولايات المتحدة على وجودها العسكري العالمي، يركّز الأوروبيون إنفاقهم داخل القارة.
بدأت ملامح هذا التحوّل تظهر بعد الحرب الروسية الأوكرانية الأولى في 2014. ومع تزايد الضغط الأمريكي، بدأت معظم دول الناتو برفع إنفاقها الدفاعي تدريجيًا، فيما اتجهت أوروبا لتحديث ترسانتها وتوسيع إنتاجها الصناعي العسكري. في عام 2024 وحده، ارتفع إنفاق الدول غير الأعضاء في الناتو على المعدات بنسبة 37%، مقابل 15% فقط للولايات المتحدة.
أما على مستوى الاتحاد الأوروبي، فقد جرت تعديلات تشريعية لزيادة مرونة الإنفاق الدفاعي، بما يسمح للأعضاء بتخصيص ما يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، حتى ولو أدى ذلك إلى تجاوز قواعد العجز المالي. وإذا تم تفعيل هذا الخيار، فقد تصل الزيادة في الإنفاق الأوروبي إلى أكثر من 700 مليار دولار حتى عام 2030.
لم تقتصر جهود أوروبا على التمويل، بل شملت أيضًا تعزيز القيادة. فمنذ 2017، أنشأ الناتو تسع مجموعات قتالية على حدود الحلف، تتولى قيادتها دول أوروبية: تقود الولايات المتحدة فقط مجموعة بولندا، بينما تتولى السويد القيادة في فنلندا، والمملكة المتحدة في إستونيا، وألمانيا في ليتوانيا، وفرنسا في رومانيا... إلخ. هذا التوزيع يؤكد التحوّل التدريجي نحو تقاسم الأعباء داخل التحالف، دون الاستغناء عن الدور الأمريكي الحيوي. مع انضمام السويد وفنلندا للناتو، أصبح لدى أوروبا قوات أكثر قدرة على مواجهة التحديات في القطب الشمالي، كما تعمل على تطوير دفاعات ساحلية وتقنيات غير مأهولة لمواجهة روسيا في البحر الأسود، مما يُخفف العبء عن واشنطن.
لكن التقدم الأوروبي يطرح تحديات للولايات المتحدة. فمع تصاعد اهتمامها بمواجهة الصين، ترحب واشنطن بأن تتحمل أوروبا مزيدًا من مسؤولية الدفاع، لكن هذا الاستقلال قد يكون له ثمن. إذ يشترط صندوق الدفاع الأوروبي، البالغ 163.5 مليار دولار، أن تُنفق الأموال داخل القارة، مما يُقلل فرص شركات السلاح الأمريكية، إلا إذا كانت تنتج داخل أوروبا وتوظف عمالًا أوروبيين وتدفع ضرائب محلية. الاستقلال الأوروبي قد يُعقّد أيضًا المواقف السياسية. ففي حين ترغب واشنطن في إنهاء الحرب الأوكرانية تدريجيًا عبر تخفيف العقوبات على موسكو، ترفض أوروبا الضغط على كييف للقبول بتسوية لا ترضاها. لم تعد القارة تخشى فقدان الدعم الأمريكي كما في السابق، وأصبحت أكثر استعدادًا لتبنّي موقف مستقل.
قلّص الاعتماد المتزايد على أوروبا من قدرة واشنطن على استخدام أدواتها العقابية تجاه روسيا. فثلثا الأصول الروسية المجمّدة، والبالغة 330 مليار دولار، تحتفظ بها أوروبا منذ 2022، ولا يمكن للبيت الأبيض أن يعرض استخدامها كورقة ضغط دون موافقة أوروبية. كذلك، تُعدّ أوروبا موطنًا لنظام «سويفت»، الذي حرم البنوك الروسية من الوصول إلى النظام المالي العالمي. وحتى في مجال الطاقة، لا يكفي تخفيف العقوبات الأمريكية وحده، إذ إن أوروبا هي المستورد الرئيسي للغاز الروسي عبر أنابيب «نورد ستريم» المعطّلة حاليًا، مما يجعل تأثير واشنطن محدودًا.
كما تفرض أوروبا عقوبات على الشحن الروسي وعلى تصدير التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، وهو أمر لا يمكن للولايات المتحدة القيام به بمفردها. وتُعوّل واشنطن أيضًا على التزام أوروبي بإرسال قوات برية إلى أوكرانيا في حال تم التوصل إلى تسوية، لكن الأوروبيين مترددون ما دامت واشنطن تُظهر مرونة تجاه شروط موسكو، مثل رفض انضمام كييف للناتو.
وقد تمتد آثار هذا التباعد إلى مناطق أخرى. ففي حال قررت الولايات المتحدة شنّ عملية عسكرية ضد منشآت إيران النووية، فستحتاج إلى قواعدها الأوروبية. لكن موافقة الحكومات الأوروبية على ذلك قد تواجه رفضًا شعبيًا واسعًا، وربما ترفض بعض الدول الطلب الأمريكي، كما حدث في 2003 قبيل غزو العراق. حينها، ستُجبر واشنطن على استخدام قواعد بعيدة أو تلك المعرضة لخطر الرد الإيراني في الشرق الأوسط.
ويبقى دونالد ترامب عامل انقسام رئيسيا. ففي ولايته الأولى، كان الأوروبيون يأملون أن يكون فوزه عرضيًا. أما اليوم، وبعد انتخابه مجددًا في 2024 رغم سياساته التي أضعفت الناتو وقرّبت موسكو، يرونه تعبيرًا عن تحوّل عميق في المزاج الأمريكي. قال دبلوماسي أوروبي: «ربما تكون رئاسة بايدن، لا ترامب، هي الاستثناء». ومع ولايته الثانية، أصبح فريق ترامب أكثر انسجامًا مع رؤاه، وأقل ميلًا لكبح اندفاعاته. ففي فبراير، قال وزير دفاعه بيت هيجسيث: «لن نتسامح بعد اليوم مع علاقة غير متوازنة تُغذي التبعية»، ووصف نائبه جيه دي فانس أوروبا بأنها «نسيت من انتصر في الحرب الباردة»، في حين اعتبر وزير الخارجية ماركو روبيو أن هناك «فرصًا هائلة للشراكة مع روسيا».
في استطلاع رأي شمل 18 ألف أوروبي بعد فوز ترامب في نوفمبر، أشار أكثر من نصف المشاركين إلى أن الولايات المتحدة لم تعد «حليفًا» بل مجرد «شريك ضروري»، فيما لم يستخدم وصف «الحليف» سوى 22% منهم. وكان هذا التحول سريعًا: قبل 18 شهرًا فقط، اعتبر أكثر من نصف الأوروبيين الولايات المتحدة حليفًا. اليوم، يستخدم المسؤولون الأوروبيون مصطلح «تخفيف المخاطر» في الحديث عن علاقتهم بواشنطن -وهو توصيف كانوا يحتفظون به للصين فقط. لكي تُرمّم واشنطن علاقتها مع أوروبا، عليها أولًا أن تتقبل حقيقة أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، وأن أوروبا هي أحد هذه الأقطاب. هذا يتطلب العودة إلى دبلوماسية واقعية، تعترف بتوازن القوى وتقوم على التفاوض والمصالح المتبادلة، لا الافتراضات القديمة عن التبعية. سيتعين على الولايات المتحدة، التي اعتادت على تنازلات أوروبية، أن تُجيد فن التسوية. كما تحتاج واشنطن إلى أن تكون أكثر تنافسية في سوق الدفاع الأوروبي، وتُظهر مرونة في قضايا مثل العلاقة مع الصين، تمامًا كما تُراعي حاجات شركائها في الشرق الأوسط. كذلك، لا يمكنها تجاهل مواقف الدول الأوروبية المستضيفة لقواعدها العسكرية، لا سيما فيما يتعلق بملفات حساسة مثل البرنامج النووي الإيراني.
الاتحاد الأوروبي، بقوته الاقتصادية، بات شريكًا لا غنى عنه لنجاح الناتو. وإذا استطاعت الولايات المتحدة الحفاظ على هذه الشراكة، فستمتلك أفضلية استراتيجية على الصين وروسيا، اللتين تفتقران إلى حلفاء بهذا الوزن والتأثير.
سيليست أ. والاندر مستشارة أمريكية للعلاقات الدولية شغلت منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في وزارة الدفاع الأمريكية.
نشر المقال في Foreign Affairs