تأثير القمر الكامل على الإنسان|هل يتحكم البدر في أمزجتنا؟.. خبراء الفلك يوضحون
تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT
خبراء الفلك:
خسوف القمر ليس له تأثيرات سلبية على المواطنينالقمر في حالة البدر يسبب هياجا عصبياالإفتاء: رسول الله كان يحرص على صيام الأيام القمرية
شهد العالم أمس، خسوفا للقمر، وظهور القمر الدموي بدر شهر ربيع الآخر، وأذهلت ظاهرة خسوف القمر الناس لعدة قرون، ولقد ولد هذا الحدث الآسر العديد من الأساطير والمفاهيم الخاطئة على مر السنين، بدءًا من المعتقدات الثقافية وحتى المخاوف الصحية والغذائية المرتبطة بخسوف القمر.
ويعتقد ويأمن الكثير منذ قرون وحتي يومنا هذا بأن للقمر تأثيرات على سلوك البشر، يتداول كثيرون فرضية مفادها أن القمر حين يكون بدراً كاملاً يؤثر على عقول الناس، ويدفع بعضهم إلى الجنون، بل إن روايات كتبت وأفلاما أنتجت حول هذه الفرضية، وحول ما يمكن أن يدفع بالإنسان إلى ارتكاب العنف والأفعال الجنونية.
وكان الفيلسوف الإغريقي أرسطو يعتقد أن القمر يسبب الإصابة بالجنون والصرع، وفي ثقافات أخرى كان يعتقد أن النساء يلدن عند اكتمال القمر، وكل هذه معتقدات لا يوجد دليل علمي يثبتها، كما لا توجد أدلة تثبت وجود علاقة بين أطوار بعينها للقمر وتزايد أعمال العنف بين نزلاء السجون أو بين من يعانون من أمراض عقلية.
وحول هذا الأمر قال الدكتور أشرف تادرس، أستاذ الفلك بـ المعهد القومي للبحوث الفلكية ورئيس قسم الفلك السابق، إننا شهدنا أمس مرور القمر عبر مركز ظل الأرض، حيث غطى ظل الأرض 12.2% تقريبا من سطح القمر، والخسوف الجزئي للقمر شوهد في مصر، وجاء بالتزمن مع موعد بدر شهر ربيع الآخر للعام الهجري الحالي 1445هـ.
وأضاف تادرس، أن خسوف القمر لا يحدث أبدا إلا إذا كان القمر بدرا، أي عندما تكون الأرض بين الشمس والقمر (ليسقط ظل الأرض على القمر) وبناء على ذلك فإن كسوف الشمس وخسوف القمر يحدثان على فترة أسبوعين من بعضهما، وهي الفترة التي تفصل بين المحاق والبدر وبالفعل شهدت الكرة الأرضية يوم 14 أكتوبر الحالي كسوفا حلقيا للشمس لم يُرَ في مصر.
أساطير حول خسوف القمر.. هل هي حقيقية؟وأوضح أستاذ الفلك، أن ظاهرة خسوف القمر ليس لها تأثيرات سلبية على المواطنين أو الحياة على الأرض، وليس لها أي أضرار على صحة الإنسان أو نشاطه اليومي، وأنه دائما ما يروج البعض أحاديث عن تأثير الخسوف على الإنسان، ولكن هذا الكلام غير صحيح ولا يوجد أى دليل علمي عليه.
وأكمل، أنه يمكن الاستفادة من ظاهرتي الكسوف الشمسي والخسوف القمري؛ للتأكد من بدايات ونهايات الأشهر القمرية أو الهجرية، حيث تستخدم الكسوفات الشمسية والخسوفات القمرية كضوابط للتقويم الهجرى، لأن الظواهر تعكس بوضوح حركة القمر حول الأرض وحركة الأرض حول الشمس.
وأشار رئيس قسم الفلك، إلى أن القمر هو الجرم السماوي الوحيد الذي يؤثر على الأرض تأثيرا مباشرا وملحوظا نراه كل يوم في عمليتي المد والجزر، ويزداد هذا التأثير عندما يكون القمر محاقا أو بدرا أي عندما يكون القمر في اتجاه الشمس أو في الاتجاه المقابل لها بالنسبة للأرض ، وكذلك أيضا وقت ظاهرتي الكسوف والخسوف إذ يكون الشمس والقمر على خط مستقيم واحد مع الأرض .
وأكد أن وقت اكتمال القمر هو أفضل وقت لرؤية التضاريس والفوهات البركانية والحفر النيزكية على سطح القمر باستخدام النظارات المعظمة والتلسكوبات الصغيرة.
وفي إطار متصل قال الدكتور محمد غريب راشد الأستاذ المتفرغ بمعمل أبحاث الشمس بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، إننا شاهدنا أمس حدوث ظاهرة الخسوف الجزئي للقمر من داخل الأراضي المصرية، كما كانت الظاهرة مشاهدة في معظم أنحاء الدول العربية.
وأشار غريب خلال لقاء خاص مع موقع “صدى البلد”، إلى أن الظواهر الفلكية لا تؤثر على الإنسان فيما عدا ظاهرة اكتمال القمر ووصوله الى مرحلة البدر.
وأوضح غريب في تصريحات خاصة لـ صدى البلد، أنه من المعروف أن القمر في حالة البدر يؤثر على المياه فيسبب ظاهرة المد والجزر، وأنه معروف ايضا ان جسم الانسان مغطي بالسوائل المياه، فقد لوحظ من قبل الأطباء أن في أيام البدر الكامل يعاني المرضي النفسيون في مستشفي الأمراض النفسية من حالة هياج عصبي وتقلبات عنيفة في الحالة المزاجية من النقيض إلى النقيض.
وأكمل الأستاذ المتفرغ بمعمل أبحاث الشمس بالمعهد القومي للبحوث الفلكية، أنه لعلنا نقتدى بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في المحافظة على صيام الأيام القمرية 13 و14 و15 من الشهر الهجري ايام يكون القمر بها بدرا في السماء ولا يستطيع الإنسان العادي بالعين المجردة تمييز استدارة قرص القمر بالكامل بدون أجهزة.
ولفت الدكتور محمد غريب، الى أنه لعل في صيام الأيام القمرية في كل شهر تفريغ لطاقة الإنسان وتقليل لنسبة المياه فينجينا من حالات الهياج العصبي التي لوحظ حدوثها مع اكتمال القمر ووصوله إلي مرحلة البدر.
ووفق ما ذكرت دار الإفتاء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على صيام الأيام البيض أو الأيام القمرية وهي الأيام التي تتخلل منتصف الشهر العربي وتكون تحديدا أيام «13-14-15»، وذكر في أكثر من موضع فضل صيام الأيام البيض.
صيام الأيام البيض أو الأيام القمرية وفق ما أوضحت دار الإفتاء المصرية هو مستحب وتطوعي يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، كما ثبت مداومة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيامها، ورغب فيها، فعن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَأَيَّامُ الْبِيضِ صَبِيحَة ثَلاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ».
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: القمر خسوف القمر القمر الدموي صلى الله علیه وسلم اکتمال القمر خسوف القمر أن القمر على صیام
إقرأ أيضاً:
وزائرتي كأن بها حياء… تجليات المرض في الشعر العربي
هل سمعت -عزيزي القارئ- بالألم العبقري من قبل؟ تعود هذه التسمية إلى أصحاب المذهب الرومانسي في الأدب، إذ يرون أن الألم يصبح عبقريا حين يفجر في نفس الأديب والشاعر روائع أدبية فريدة!.
ولعلك عاينت ذلك بنفسك ذات يوم، وإن لم تكن ممن يحسبون أنفسهم على الأدباء والشعراء، ألم تراودك نفسك لتكتب عن شيء يحزنك ويؤرقك من قبل؟
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"غزة فاضحة العالم".. بين ازدواجية المعايير ومصير شمشونlist 2 of 2أطفال علّموا البشرية.. قصة أبطال العطش والجوع تترجم إلى 18 لغة عالميةend of listقد لا يلتقي جميع الناس في هذه الفكرة، لكن علماء النفس يؤكدون أن الكتابة شكل من أشكال التداوي النفسي، وأن كثيرا من المرضى أو المتعبين نفسيا يلجؤون إلى الكتابة للتنفيس عن آلامهم، وحتى يشعروا أنهم باتوا أفضل وأخف من ذي قبل.
فالكتابة تعد نوعا من أنواع التنفيس النفسي، وشكلا من أشكال التشافي والتخفف من الأعباء والهموم، ويميل إليها كثير من الناس لأنها تشبه البوح إلى جهة آمنة لا يخشون منها إفشاء أسرارهم وما باحوا به من خفايا النفس وخباياها.
تشير بحوث نشرت في مجلة جمعية علم النفس الأمريكية (APA) عن التشافي بالتعبير الكتابي إلى أن كتابة المشاعر والأحداث العاطفية تعزز فعليًّا الجهاز المناعي للمرضى، وتؤكد بذلك فكرة الكتابة بوصفها علاجا مساعدا، لاسيما أن المرض يجعل الإنسان أكثر تفكيرا وتأملا في تفاصيل الكون والحياة من حوله، ويمنحه فرصة إعادة النظر في مسار حياته وأيامه من خلال السرد الأدبي.
ومن جهة أخرى على صعيد الأطباء ومن وجهة نظرهم هناك ما يعرف بالطب السردي، ويقصد به اطلاع الأطباء على سرديات المرضى التي يتحدثون فيها عن أشكال معاناتهم، فيساعدون بذلك الأطباء المهتمين بتعميق التشخيص وتحليل مراحل المرض وتبعاته ومظاهره وفهم أبعاده النفسية والاجتماعية لدى المرضى.
يقول أبو العتاهية راجزا ومختصرا فعل الحياة في الإنسان: "أسرع في نقض امرئ تمامه".
ومن أقوال العرب التي أثبتها الجاحظ في كتابه الحيوان ما قاله أعرابي دهمه المرض فسألوه: أيّ شيء تشتكي؟ فقال: "تمام العدّة وانقضاء المدّة". وفي قوله هذا تسليم لفكرة انتهاء الأجل بمرض أو بدونه، وقد قالت العرب قديما: "لو كان يميت النّاس الدّاء، لأعاشهم الدّواء".
إعلانوسُئل أعرابي آخر نازعه المرض: كيف تجدك؟ فأجاب: "أجدني أجد ما لا أشتهي، وأشتهي ما لا أجد". ومن بديع ما جاء في وصف فعال المرض وتردي حال المريض البدنية والنفسية ما عبر عنه رجل مات بالبطن، وأجاب حين سئل عن معاناته بقوله: "أجد روحي قد خرجت من نصفي الأسفل، وأجد السّماء مطبقة عليّ، ولو شئت أن ألمسها بيدي لفعلت".
ومنذ القدم كان الشعر العربي ديوان العرب، ومحلّ أخبارهم وقصصهم وحكاياتهم، وسجل أفكارهم، وموئل عواطفهم وترجمانها، فلم يغب ذكر المرض والوهن والشكوى منه ومن عوارضه عن الشعر العربي، ولم يكن المرض لديهم محض علة جسدية فحسب! بل حمّلوه أدوارا أوسع من حدود معناه اللفظي المباشر، فشخصوه وخاطبوه، وعاتبوه ولاموه، وتمنوا قتله في أحيان.
ورموه بالتهم المتنوعة في أحيان أخرى، فكان سببا من أسباب البعد والتأخر عن الأحبة والأهل والأصحاب حينا، وشكلا من أشكال التعبير عن الشوق إلى المحبوب حينا آخر. وأبدعوا في تشكيل تجليات المرض في أشعارهم إبداعا عجيبا، لا سيما في أشعار الغزل. كما تحول المرض في الشعر العربي إلى رمز وجودي أو أخلاقي أو اجتماعي، وصار إشارة جمالية في أحيان أخرى.
يظهر المرض في كثير من الأشعار والنصوص الأدبية كمرآة تعكس الضعف الإنساني وتجلياته وفعاله في روح المريض، وترسم آثار المرض السلبية في نفسية المريض وتطلعاته ورؤاه تجاه الحياة والناس والمآل.
فيبدو جوهر الإنسان المهشم في رحم المعاناة أكثر وضوحا وشفافية، وتتجلى في أقواله معالم السخط أو ملامح الهدوء والتسليم والسكينة، وتظهر على السطح بجلاء شديد كل من مخاوفه وأعمدة يقينه وإيمانه، وغالبا ما يتعرى من شجاعته الزائفة، وأنانيته المفرطة، ويبقى في مواجهة حقيقية مع شكه واعتقاده!.
يبدو المرض جزءا من التجربة الوجودية للإنسان، وتتجلى أبعاده في الشعر العربي القديم بوصفه معادلا للمأساة واستجابة للقدر الذي لا مفر منه، فالمرض ينزل على الإنسان كصاعقة تزلزل حياته، ولا تفسير لها، ويختلف حجم الزلزلة باختلاف شدة المرض أو بساطته، والقدرة على التعافي منه أو استحالة ذلك!.
استخدم الشعراء في الجاهلية ألفاظا كالسقم والداء والعلة للدلالة على المرض سواء أكان جسديا أو تعبا نفسيا، فالأعشى –على سبيل المثال- اشتكى طول السهر والأرق، ثم حدثنا عن تعجبه من علة ذلك الأرق وما هو بمريض ولا هو بعاشق، إذ قال:
أَرقتُ وَما هذا السهادُ المُؤَرِّقُ
وما بي من سُقم وما بي مَعشقُ
قرن الأعشى بين المرض والعشق في تجلياتهما على الإنسان وما يورثانه من أرق وتعب ومجافاة للنوم. أما النابغة الذبياني فوظف نظرة المريض للأصحاء في سياق الغزل توظيفا بديعا حين قال:
نظرت إليكَ بِحاجةٍ لَم تَقضِها
نَظَرَ السقيم إِلى وُجوه العُوَّدِ
فكيف ينظر السقيم إلى وجوه العُوّاد الزائرين يا ترى؟ هل يرى على رؤوسهم تاج الصحة الذي يخفى عليهم كما يقال؟ أم تراه ينظر إليهم ويرجّي منهم ما لا طاقة لهم عليه من رد صحته وعافيته؟
أراد النابغة ها هنا نظرة المتأمل بفيض من حنان يبرد لهيب القلب بعطف وحنوّ، تلك النظرة التي تخفي وراءها آلاما لا تُرى وأوجاعا لا تتبدى.
إعلانأما جرير فقد وظف المرض في سياق وصف الجمال في أبياته الشهيرة التي قال فيها:
إن العيون التي في طَرفِها مرضٌ (حَوَرٌ)
قتلننا ثُمَّ لم يُحيِينَ قتلانا
يصرعن ذا اللُبَّ حتى لا حراك به
وهن أَضعفُ خَلق الله أركانا
جاءت الأبيات بروايتين اثنتين، تثبت إحداهما لفظ المرض والأخرى لفظ الحور في وصف العيون الجميلة التي أودت بالشاعر قتيلا من جمالها وشدة تأثيرها، وقد وظف الشاعر لفظ المرض في العيون للتعبير عن العيون الناعسة الذابلة التي تتفجر أنوثة فتردي من ينظر إليها مصروعا من تأثيرها.
ويوافقه في الوصف الشاعر العباسي ابن الرومي، إذ يصف عين المحبوبة ونظرتها بالسّقم دلالة على ما فيها من غنج ودلال، فيقول:
قلبي من الطرف السَّقيم سقيمُ
لو أن من أشكو إليه رحيمُ
ومثلهم في ذلك ما قاله ابن نباتة المصري معبرا عن حال السقم الذي لحق به من جراء الحب الذي ملك عليه سويداء قلبه:
جسمٌ سقيمٌ لا يرام شفاؤه
سلبت سويدا مهجتي سوداؤه
عجبا له جفنا كما قسم الهوى
فيه الضنى وبمهجتي أدواؤه
أما أشهر القصائد التي تناولت الحديث عن المرض، وأشبعته وصفا وتصويرا، فهي قصيدة المتنبي الشهيرة التي يتحدث فيها عن الحمى التي باغتته ليلا، وأضرمت النيران في جسده فأنهكته وغيبته عن نفسه:
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور إلا في الظلام
فرشت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعه بأنواع السقام
أبنت الدهـــــــــر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام
جرحت مجرّحا لم يبق فيه
مكان للسـيوف ولا السهام
يحدثنا المتنبي في هذه القصيدة عن تأثير الحمى في بدنه، إذ لم تترك فيه موضعا إلا هاجمته ونالت منه، لكنه يأخذنا كعادته إلى عالمه الشعري البديع حين يصف الحمى ويشبهها بالفتاة الحيية التي لا تزور صاحبها إلا تحت جنح الظلام، وكأنها تخشى أعين العذال والرقباء!
وكم من حمى ترصدت بنا وبأبنائنا وأحبابنا في جوف الليالي وأيام العطل، وكأنها مجبولة على اختيار أصعب الأوقات للمواجهة!
ثم نرى المتنبي يمعن في الوصف، فيحدثنا عن فعال الحمى في بدنه، وكيف طرحته في الفراش لا يقوى على شيء، فعرّفته ضعف الإنسان ومدى هشاشته أمام هذه الزائرة التي طرقت ليلا.
نراه يخاطبها بقوله (أبنت الدهر) متعجبا من وصولها إليه، ولائما ومعاتبا وباذلا لها ما تشاء لتنصرف عنه فتأبى إلا الاستيطان في مفاصله وعظامه، وقد زاحمت مصائب الدنيا في الوصول إليه، أفتتركه بسهولة بعد ذلك! على الرغم من محاولته إقناعها بأنها أصابت جريحا لم يعد فيه أي قوة لمجابهتها ومقاومتها.
يبدو المتنبي في هذا الحوار شفيف النفس رقيق القلب ضعيفا مستكينا كما لم يظهر في أي قصيدة أخرى، فالمرض في حقيقته يترك الإنسان في مواجهة قاسية مع حجمه الحقيقي ومدى ضعفه وهوانه في هذا الكون.
يعد المرض في الإسلام ابتلاء من الله وامتحانا للتمحيص، تُكفر به الخطايا وتمحى السيئات، وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من هم، ولا حزن، ولا وصب ولا نصب، ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".
لذلك نرى كثيرا ممن وقر الإيمان في قلوبهم يقابلون امتحان الله بالرضا والتسليم والصبر امتثالا لأمر الله، ورضى بقضائه وقدره وأملا بمحو الذنوب ورفع الدرجات. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله".
وقد سأل الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نتداوى يا رسول الله؟ فقال: "نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا"، قالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: "الهرم". ومازال الناس -وخاصة النساء- يحاولون!
ومما يلفت الانتباه في العصور الإسلامية المتقدمة أن حديث المرض ارتبط في الشعر بحديث الزهد والتوبة إلى الله، وكأن المرض نذير يعيد المسلم إلى جادة الحق إن زلت قدمه عنها، فصار المرض أشبه برمز للتوبة والتطهر الروحي، وتذكيرا بحقيقة الحياة وما ينتظر المسلم في الدار الآخرة التي عليه أن يعمل من أجلها في حياته الدنيا.
إعلانومن ذلك قصيدة أبو العتاهية التي نظمها في مرضه الأخير، والتي تُعرف بمطلعها "يا نفسُ قد أَزف الرَّحيل"، وتُعد من أشهر ما قيل في الشعر العربي القديم عن المرض والموت، فقد قال فيها مخاطبا نفسه مذكرا إياها بما هي مقبلة عليه:
يا نفسُ قد أَزِف الرحيلُ
وَأَظَلَّك الخَطبُ الجليلُ
فَتَأَهَّبي يا نفسِ لا
يَلعَب بك الأملُ الطويلُ
فلَتنزلِنَّ بمنزلٍ
يَنسى الخليلَ به الخليلُ
والموتُ آخِرُ عِلَّةٍ
يَعتَلُّها البدنُ العليلُ
وفي الشعر الحديث يطالعنا الشاعر بشارة الخوري الأخطل الصغير، الذي أبدع في تصوير المريض المصاب بداء السل بدنا ونفسا في قصيدته الشهيرة (المسلول)، التي صور فيها تفاصيل المعاناة مع مرض السل، وما يخلفه في قلب المريض وروحه من جراح عميقة، تعيق حركته وأنفاسه وتوقف حماسه، فتخفت الرغبة بالحياة لديه، فيذوي وينكفئ انكفاء الجريح الذي لا يؤمل شفاء:
هذا الفتى بالأمس صار إلى رجل هزيل الجسم منجـردِ
متلجلج الألفاظ مضطـرب متواصل الأنفاس مطّــردِ
متجعِّد الخدين من سـرف متكسر الجفنين من سُهــدِ
عيناه عالقتان في نفـــق كسراج كوخ نصف متّقــدِ
تهتز أنمله فتحسبهــــا ورق الخريف أصيب بالبرَدِ
و يمجُّ أحيانا دمًا فعــلى منديله قطع من الكبــــدِ
قطعٌ تآبينٌ مفجِّعــــة مكتوبة بدم بغير يـــــدِ
قطع تقول له تموت غـدًا وإذا ترق تقول بعد غـــدِ
يبدو المريض في هذه الأبيات نحيلا ضعيفا متلكِّأ فاقدا للثقة بنفسه، لا يبين عن كلام وقد نال المرض من لسانه وصدره، فضاقت أنفاسه، واستحكمت علاته، وأرّقه الألم وأنساه طعم الكرى والرقاد، فشحب وجهه وذاب شحمه، وارتعشت أطرافه، وغاصت عيناه في محجريه تعبا وإرهاقا.
تتضاءل روحه رويدا رويدا بقطع من الدماء السوداء التي تلفظها رئتاه حين يباغته السعال، فتعلن تلف كبده وأيامه الأخيرة. أبدع الشاعر في تصوير المسول تصويرا يجعل أواصر المتلقي ترتجف جزعا، وتنقبض حزنا وأسى على حال المريض الذي بات يسمع نعيه من دمائه التي ينفثها، فيتردد الأمل لديه بين يوم وغد قريب بعيد!
عاشت البلاد العربية كثيرا من المحن واجتاحتها الأوبئة على مر العصور، ففي مطلع القرن الـ20 اجتاح وباء الكوليرا مصر اجتياحا مرعبا.
وكان للحديث عن الأوبئة عامة وعن الكوليرا خاصة نصيب كبير من الشعر العربي الحديث، فاحتل هذا الوباء وما جلبه على الناس من آلام لدى الشعراء والأدباء مساحة واسعة.
ونظموا قصائد سموها باسمه كقصيدة الكوليرا لنازك الملائكة، وقصيدة أحمد شوقي التي تحدث فيها عن فتك الكوليرا بقرى الصعيد، إذ انقسمت قصيدته بين تهنئة الخديوي عباس حلمي بسلامته وعودته إلى مصر، وبين وصف الوباء وما خلفه من أوجاع وخسائر وأحزان بين الناس، فقد قال:
الدهر جاءك باسط الأعذار
فأقبل فأمر الدهر للأقدار
هل كنت تدفع حاضرا أو غائبا
عن مصر حكم الواحد القهار
ذاقت نواك وروعت بثلاثة
بالداء بعد المحل بعد النار
بالداء بعد المحل بعد النار
ودهى الرعية ما دهى فتساءلوا
في كل ناد أين رب الدار
ذكروك والتفتوا لعلك مسعد
ذكر الصغير أباه في الأخطار
لهفي على مُهجِ غوالِ غالها
خافي الدبيب مُحَجبْ الأظفار
خمسونَ ألفا في المدائن صادهم
شِركُ الردى في ليلةٍ ونهارِ
ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة
مرموقة في العصر أو أفخار
يبدو الشاعر متحسرا على الأرواح التي أزهقت بسبب الوباء، ويتمنى لو أنها بذلت في سبيل يستحق التضحية من أجله، على أنه يبدو في بداية القصيدة مسلما لقضاء الله وقدره، ووظف حاجة الرعية في مدح الخديوي، إذ تطلعوا إليه وإلى مقامه لعله يسعفهم بحل ونجاة.
كما سطرت الشاعرة نازك الملائكة قصيدة خاصة عن وباء الكوليرا، عبرت فيها عن مدى حزنها والألم الذي اعتصر قلبها وهي ترى المصريين يرزحون تحت وطأة الوباء، ولا سبيل إلى رفع هذا البلاء عنهم، فقالت:
سكن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صدى الأنين
في عُمق الظلمةِ، تحتَ الصمت على الأموات
صرخاتٌ تعلو تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهات
في كل فؤادٍ غليان
في الكوخِ الساكن أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخ في الظُلمات
في كلِّ مكانٍ يبكي صوت
هذا ما قد مزّقهُ الموت
الموت الموت الموت
نلحظ أنها كررت لفظ الموت مرارا للتعبير عن حجم الكارثة التي لم تُبقِ ولم تذر من القرى التي اجتاحتها سوى الصدى، وزرعت الموت في كل بيت، وكل حقل، وكل زاوية، وكل روح! وكأن الموت طائر عظيم فرد جناحيه على تلك القرى فغيبها، فلم يبقِ فيها غير أصوات الأنين والآهات:
في كلّ مـكانٍ جـسـدٌ يندبه محزونُ
لا لحظةَ إخلاد لا صَمْت
هذا ما فعـلت كفُّ الموت
المـوت الـموت الـموت
الكوليرا
تـشكو البشريّةُ تـشكو مـا يرتكبُ الموت
في كَهفِ الرُّعب مع الأشلاء
في صمت الأبد القاسي حيث الموت دواء
هل تعرف –أيها القارئ- متى يصبح الموت دواء؟ تنزف حروف الشاعرة ألما وحرقة وهي تعبر عن حجم الآلام التي عانى منها الناس بسبب انتشار الكوليرا حتى صار الموت أمنية ودواء، حتى صارت الأنفس تشتهي الموت للخلاص في ظل ظروف صحية وبيئية واجتماعية صعبة.
صار الموت أمنية للنجاة من آلام لا يطيقها المصاب، ولا يطيقها ذووه، وهم يرون أبناءهم وأحبتهم يذوبون أمامهم كشموع أشعلت في لحظة أمل فأطفأتها ريح كالسموم تذر التراب في العيون!
يبدو المرض في الشعر تجربة وجودية حية تعكس هشاشة الإنسان وضعفه، وتفتح له ولمن حوله آفاقا مختلفة للنظر إلى ماهية الحياة وإعادة ترتيبها وتقييمها بما يتناسب مع حقيقتها وعبورنا المؤقت فيها.
إعلان