لجريدة عمان:
2025-05-25@07:20:20 GMT

نوافذ :من «حالة» إلى «رمز»!

تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT

«لقد حاولتم تذويبي.. من إنسان إلى حالة..إذن أنا حالة..إن تذويب مليون إنسان معا ثم جعلهم شيئا واحدا متوحدا ليس عملا سهلا.. لقد أفقدتم أولئك المليون صفاتهم الفردية المميزة. ولستم بحاجة الآن إلى تمييز وتصنيف، أنتم الآن أمام حالة!». هذا ما قاله الشاب الذي قفز من النافذة للرجل الهام الذي قام باستجوابه في قصّة بعنوان: «أبعد من الحدود»1962 والصادرة ضمن مجموعة غسان كنفاني القصصية «أرض البرتقال الحزين»، ولا يبدو أنّ ثمّة ما تغير طوال الستين عاما، لا سيما عندما يقول: «نحن أكبر جماعة مُلائمة من أجل أن تكون مادة درس للبقية».

وليت باستطاعة كنفاني من بُعده الميتافيزيقي ذاك أن يتأكد من أنّ نبوءاته مستمرة حتى اللحظة لكن بوحشية أشد فتكا وافتراسا!

لم نتوقع في حياتنا القصيرة أن نشهد حدثا مُماثلا كالذي حدث في ٧ أكتوبر، فحتى وإن كان التاريخ ممتدا ومتكررا على نحو ما، تبقى حياتنا قصيرة إزاء صيروراته، لكنها بالتأكيد ليست أقصر من حياة أطفال ماتوا قبل أن يُطلق الآباء والأمهات الأسماء عليهم! فهل ثمّة تراجيديا أكثر من انتقالهم من ظلمات أرحام أمهاتهم إلى ظلمات قبورهم؟

عندما تملكني العجز وقلّة الحيلة كغيري، أردتُ أن أجد في قصص كنفاني مواساة صغيرة لخيباتنا، فتأكدتُ أنّ الكلمات تصحو بصورة أكثر ديناميكية في كل مرّة. فالكلمة والصورة تُرهبُ العدو، وإلا لما تمزق جسد كنفاني إلى أشلاء في سيارة مفخخة، وما استهدفت عائلة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح بطريقة قذرة، فهم يخافون الكلمات التي تُعري آلاتهم الإعلامية التي تبصقُ الأكاذيب.

تحتفظُ قصص كنفاني بطزاجتها كأنّها كتبت لهذا الراهن المُخجل: «ما من أحد سينبري لمحاسبتك، ولماذا ينبري؟ أنت تستطيع أن تشنق واحدا منا، فتربي بجسده الميت ألفا من الناس، دون أن تحمل هما أو خوفا أو تأنيب ضمير»!

كان البطل مجهول الاسم يمشي في الشارع عندما سقطت الفكرة في رأسه كما يسقط لوح زجاج كبير: «ثم ماذا؟»، كان هذا هو السؤال الذي يُعذبُه، وهو السؤال ذاته الذي يُعذبنا الآن، في وقت ينزع فيه البشري جلده ليكشف عن حيوانيته المفترسة، فالموت لم يعد يفرق بين رجل وامرأة، طفل أو شيخ.. إنّهم مجرد «حالة»!

يكتب إحسان عباس: «من يقرأ كتابات كنفاني يُبصر التدرج الواعي نحو واقعية صلبة مُحددة ومشمولة بالبساطة.. الحلم المُبهم الموشح بالإيماء.. فرغم التزامه الواقعية لم يكن وثائقيا في فنه.. كان يُعيد ترتيب العناصر ويمنحها التكثيف فتجيء خلقا جديدا للواقع».

لكن السؤال: هل تنتفي الحاجة إلى «الرمز» الفني عندما نواجه غمرة الحقيقة؟ هنالك من يرى أنّ كنفاني لم يكن بحاجة إلى «رمز» لأن واقعه يفوق ذلك بكثير. ويرى جبرا إبراهيم جبرا أنّ «التجربة العاتية التي تعصفُ بمخيلته هي التي تُقرر اتجاه هاجسه حتى في أشكاله التجريدية». الأمر الذي يجعلنا إزاء سؤال جحيمي حول تحول الناس في «غزة» على وجه التحديد من «حالة» إلى «رمز». لقد ماتوا بصحبة قصصهم وذكرياتهم، ماتوا بكثافة مُخزية، بعضهم لم يحصل على قبر أو كفن! ألا يمكن «للرمز» أن يندحر مفجوعا من الواقعية التي تفوقت عليه!

نحنُ نسأل: هل ثمّة ما يبرر هذه التضحيات العظيمة التي تفوق تصوراتنا! فتبرقُ الإجابة على لسان بطل كنفاني: «ألستم أنتم الذين أعددتموني ساعة إثر ساعة ويوما إثر يوم وعاما إثر عام لهذه النتيجة؟». إنّ أحدا منا لن يعي أحاسيسهم ومعاناتهم، فنحنُ بالكاد نتلقفها من وراء الشاشات، لنذرف الدموع، ثمّ نعود إلى حياتنا الطبيعية! لكنهم ومنذ 1948 لم تكن لهم حياة طبيعية!

هنالك مُعضلة صغيرة تؤرق البطل، وهي أنّ الناس يُصابون بشيء من الجنون، فيقول أحدهم: «أية حياة هذه؟! الموت أفضل منها»، ثم يبدأ بالصراخ، والصراخ عدوى، يصرخ الجميع: «أية حياة هذه، الموت أفضل منها»!

تكمن المشقة في أن تصطدم العذابات البشرية المتفجعة بأفق مجهول. كما تكمن في تناسل مآسي الأبطال الذين يدفعون أثمانا باهظة لقاء إرادتهم الواعية بالقضية، ولذا يتمردُ البطلُ على حبسه في فكرة ضئيلة باعتباره «حالة»، لينشط السؤال الصلب والنهائي، فينفتح خندقٌ طويل ومظلم نأمل أن نرى ضوء نهايته قريبا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

عندما يصمت الهتاف

العلاقة بين اللاعب وجمهور ناديه، ليست مجرد تبادل للأداء والهتاف، بل هي رابطة نفسية معقدة تُبنى على التقدير المتبادل، وتنهار أحيانًا على وقع خيبات الأمل، وسوء التقدير، أو العناد “عناد القرار الفني”، هذا بالضبط ما حدث مع علي البليهي مع جماهير نادي الهلال، التي تحولت من علاقة محبة ودعم إلى حالة من النفور. رغم تراجع أداء البليهي، كان جيسوس يراهن على تاريخه أكثر من واقعه، بإصرار غير مفهوم على إشراكه أساسيًا، في وقتٍ كان الفريق يملك بدائل دفاعية جاهزة، وصافرات الاستهجان والاستنكار لم تكن فقط ضد الأداء، بل ضد العناد؛ عناد الجهاز الفني الذي أبقاه أساسيًا رغم التراجع، وضد عناد اللاعب؛ الذي لم يعترف أو يعتذر، بل رد بالصمت. وأحيانًا بالسخرية، ومن منظور علم النفس الرياضي، هذا الإصرار يُولد ما يُعرف بـالاحتراق الجماهيري، حين يشعر الجمهور أن رأيه لا يُحترم، وأن اللاعبين لا يُحاسبون على أدائهم، ما يدفعه إلى التعبير عن غضبه– لا فقط على اللاعب، بل على المنظومة. وما زاد من توتر العلاقة، هو تصرفات البليهي نفسه، الذي لم يبد عليه في أي مرحلة اعتراف بتراجع مستواه، أو إبداء ندم على ما حدث، بل على العكس، وهو ما فُسّر في وعي الجمهور كنوع من التعالي أو الإنكار، الأمر الذي وسّع فجوة الثقة لتتحول الضغوطات إلى”المواجهة الانفعالية السلبية”، التي تعني أن اللاعب حين يشعر بعدم التقدير أو التعاطف، قد يتبنى سلوكيات هجومية، أو مستفزة كرد فعل دفاعي، وفي هذه الحالة، يتعمق الصراع ليصبح شخصيًا، وتتآكل الرابطة التي تربط اللاعب بجمهوره، ويتحول “المدافع الصلب” إلى “خصم نفسي” للجماهير.
علي البليهي.. لا يكفي أن يراهن على دعمه داخل غرفة الملابس. بل المطلوب منه – نفسيًا واحترافيًا – أن يبدأ مرحلة تصحيح ذاتي بالتواضع الفني، والاعتراف بالخطأ، والعمل الصامت، فالجمهور لا ينسى.. لكنه يسامح، ويعطي ولاءه لمن يحترمه، ويغفر حين يرى الصدق والجهد، وقد كانت لديه الفرصة لعمل ذلك في الحوار التلفزيوني، الذي قام به، ولكنه للأسف لم يتمتع بأي ذكاء عاطفي (ولم يشر عليه أحد بذلك) ليظهر بمظهر من لم يستوعب المشاعر الجماهيرية، بل وكأنه قام بتسخيفها.
الجمهور كائن جماعي عاطفي، يُعطي ولاءه لمن يحترمه، ويغفر حين يرى الصدق والجهد. قصة علي البليهي مع الهلال اليوم ليست نهاية، بل فصل من فصول علاقة قد تُرمم، وقد تتلاشى. والكرة اليوم في ملعب اللاعب.

مقالات مشابهة

  • سان جيرمان.. «الثلاثية المحلية»
  • عندما يصمت الهتاف
  • ضمن مبادرة حياة كريمة.. الكشف على ٥٧٠ مواطنًا بقنطرة الإسماعيلية
  • «ضريبة الغياب»
  • "المركزي" التركي يشدد الخناق على نوافذ الليرة خارج البلاد
  • جوارديولا يخرج عن طوره من «هذا السؤال»!
  • قافلة طبية مجانية تفحص وتعالج 1600 مواطن ببني سويف ضمن «حياة كريمة»
  • غزة ..ومظاهر العجز العربي
  • هل الذكاء الصناعي نهاية للوظائف… أم بداية لعصر مختلف تمامًا؟
  • حماس: نحذّر من الواقع المأساوي الذي يهدد حياة آلاف الأسرى الفلسطينيين