لم يذكر التاريخ على مداه وبكل لغاته ، وينطق بكلمة "معلش" مثلما نطقها المراسل وائل الدحدوح عندما مثل أمام جثمان إبنه ، وأنا وعلى تجربة شخصية أؤكد لكم أن مافعله الدحدوح أمام جسد إبنه المسجى هو مافعلته منذ ١٥ عاما عندما استدعيت الى مدينة الاسماعيلية لتوديع ابنى الذى مات فجأة وبدون أية مقدمات وهو يمارس لعبته المفضلة الكاراتيه ، فى تصفيات رياضية هناك ، عندما ذهبت كنت ككل أم فى العالم تتمنى خطأ الكلام وأن ابنها لم يمت فهو فقط متعب ، مرهق ، ربما نائما بعمق ، ولذا فقد تحسسته بنفس طريقة الدحدوح والتى تتمنى المستحيل بعودة ابنها الى الحياة؛ وتحسس نبضاته فربما تنبض مرة أخرى ويقوم من سباته ويرتمى فى أحضانها ويخبرها أنه بخير ، هو فقط مرهق من المواجهة مع خصمه ، ومن الشوق اليها والعودة مرة أخرى .
شاهدت بعين حزينة وبقلب تجرع نفس الحزن ماقام به الزميل وائل ولكنى لم أقل ساعة رؤية جسد أمجد ابنى المسجى معلش ، لأسمعها الآن من وائل وتهزنى مفرداتها ويتقطع قلبى لوقعها ، فهو لم يجد من المفردات سوى هذه اللفظة التى يربت بها على نفسه ، ويضمد بها جراحه ويطوى بها ضعفه الأبوى .
معلش وهى تخرج من قلب الدحدوح اختصرت كل آهات الالم وكل معاناة أهل غزة ، فهم بالفعل من يضمدون جراحهم بأنفسهم ، وهم من يقولون لأنفسهم معلش . مايحدث فى غزة اضافة الى كونه جبروت صهيونى ، وعار عالمى ، الا أنه طاقة نور جعلتنا نعرف ان هذا الشعب لن يهزم ولن يقهر .
وبالفعل هو كما كان يصفه زعيمهم الراحل ياسر عرفات بأنه شعب الجبارين ، كيف لشعب يتعرض لهذه الانواع البشعة من القهر والظلم على مدار اكثر من ٧٥ عاما وهو لايزال صامدا رافضا الاستسلام ، كيف لشعب فرضت عليه رغما عنه كل الممارسات التعسفية الاجرامية وسط صمت دولى وكيل بمكيالين ؛ كيف له ان يواصل الحياة ويرفض محو امل العودة الى وطنه ، والتأكد بأنهم عائدون الى قدسهم الشريف والى بيوتهم التى سلبتها منهم قوات الاحتلال والمستوطنين المجرمين المحميين بالقطب الاوحد الا وهى ماتسمى بالولايات المتحدة الامريكية .
أي شعب هذا الذى يصنع من الالم أمل ومن الصعاب طريقا نحو الغد الحر ، أى شعب هذا الرافض للتخاذل ايا كان مصدره قريبا او بعيدا ، مصمما على التحمل وبلع مرار الاحتلال ومره من اجل طريق النصر الذى يحلم به كل فلسطينى شريف .
شعب الجبارين معلش من كل قلوبنا ، معلش لما أصبحتم عليه ؛ ومعلش لما أصبح تعامل المجتمع الدولى الظالم معكم ، معلش لكل طفل لم يجد من يحميه من بطش المحتل ، معلش لكل أم رأت بعين رأسها إبنها يغتال أمامها بدم بارد ، وقامت بنفسها بتكفينه والتقاط صورا له كى تحتفظ بها ماتبقى من عمرها ، معلش لكل أب مقهور اخذ منه كل رصيده الانسانى فى لحظة وهو لايملك سوى ان يقول معلش ، معلش لكل ابناء غزة والضفة فنحن لانملك سواها، لانملك سوى معلش .. معلش فى عالم المعلش للضعفاء …والجبروت والظلم للاقوياء … معلش معلش معلش …
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
د. أمل منصور تكتب: بين الغياب كعقاب والغياب كحاجة نفسية
الغياب أحد أكثر الأسلحة صمتًا وأشدها وقعًا في العلاقات الإنسانية، خصوصًا حين يتسلل بين شخصين جمعتهما المودة، ثم تحوّل الصمت إلى لغة، والابتعاد إلى وسيلة للتعبير.
أحيانًا يغيب أحدهم ليؤلم، وأحيانًا يغيب ليحمي نفسه من الألم. والفرق بين الدافعين خيط رفيع جدًا، لا يُرى بالعين، بل يُحس بالقلب.
الغياب كعقاب يحمل رغبة في السيطرة، رغبة في أن يشعر الآخر بفقدك، أن يذوق القلق الذي تذوقته، وأن يبحث عنك كما كنت تبحث عنه.
غياب محمّل بالغرور والوجع معًا، إذ يتقاطع فيه الأذى بالحب، والانتقام بالاشتياق. في هذا النوع من الغياب، لا يرحل الشخص فعلاً، بل يختبئ خلف المسافة ليختبر ما إذا كان وجوده لا يزال يهم. يريد أن يعرف: هل سيتصل؟ هل سيسأل؟ هل سيشعر بالفراغ؟ وكأن العلاقة تحولت إلى اختبار قاسٍ، طرف يراقب وطرف يجهل أنه مراقَب.
الغياب كعقاب يحمل في جوهره رغبة خفية في لفت الانتباه، ومحاولة لاستعادة التوازن المفقود داخل العلاقة. فالشخص الذي يستخدم الغياب كسلاح يشعر غالبًا بأنه لم يُقدَّر بما يكفي، فيقرر أن يصنع أثره بالغياب بعد أن فشل في صنعه بالحضور. غير أن هذا النوع من الغياب، وإن بدا في بدايته وسيلة لاستعادة القيمة، سرعان ما يتحول إلى مسافة يصعب اختراقها. لأن الآخر، في المقابل، قد يفسر الغياب على أنه رسالة رفض، أو تراجع في المشاعر، أو إغلاق لباب التواصل. وهنا تبدأ المسافات النفسية تتسع حتى تغدو العاطفة نفسها غريبة عن موطنها الأول.
أما الغياب كحاجة نفسية، فهو فعل مختلف تمامًا في مضمونه وإن تشابه في مظهره. إنه رغبة في الهدوء، وليس رغبة في الإيلام. يأتي حين يتعب القلب من الضجيج العاطفي، ويحتاج إلى مساحة يتنفس فيها بعيدًا عن الصراعات الصغيرة التي تستهلك الحب. هذا الغياب لا يحمل نية العقاب، بل يحمل رجاء الراحة. يشبه الانسحاب إلى الداخل لتضميد جرح لا يراه أحد. فبعض الغيابات ضرورة للاتزان، وليست تمردًا على العلاقة.
الشخص الذي يغيب لأنه بحاجة إلى ذلك لا يبتعد كي يُشعر الآخر بالذنب، بل كي يتعامل مع فوضاه الداخلية. هو لا يبحث عن رد فعل، ولا يترقب اتصالًا، بل يبحث عن نفسه التي ضاعت في زحام العاطفة. هذا الغياب أكثر صدقًا وأقل ضجيجًا. هو لحظة مواجهة مع الذات قبل أن تكون مواجهة مع الآخر.
لكن المشكلة أن الطرف المقابل لا يستطيع دومًا التفرقة بين الغيابين. فكلاهما يبدو متشابهًا في صورته الخارجية: رسائل متوقفة، صمت يمتد، ومسافة تتسع. إلا أن ما يميز كل نوع هو السياق النفسي الذي سبقه، وما يتركه من أثر بعدها. الغياب الذي يُستخدم للعقاب يُورث جفاء، أما الغياب الذي يأتي كحاجة نفسية فقد يعيد ترتيب العلاقة بطريقة أنضج.
هناك علاقات ينجو فيها الطرفان بعد الغياب، لأنهما يدركان أن الابتعاد كان لتهدئة النفوس، لا لإشعالها. وهناك علاقات تنكسر لأن أحدهما ظن أن الآخر يغيب ليؤذيه، فبنى على الظن قسوة جديدة، وتضاعفت الفجوة. إن أخطر ما في الغياب أنه قابل لكل تأويل، وأننا نملأ صمته بتصوراتنا لا بحقيقته. من يغيب للعقاب يخطئ حين يظن أن الطرف الآخر سيتألم كما يتألم هو. ومن يغيب كحاجة نفسية يخطئ حين يتوقع أن يُفهم غيابه دون شرح.
العلاقات تنضج حين يتعلّم الطرفان أن الغياب لا يعني دائمًا الهجر، وأن الصمت لا يعني بالضرورة رفضًا. أحيانًا تكون المسافة وسيلة لإعادة التوازن، لا لهدم الجسور. ومع ذلك، من الضروري أن يتعلّم الإنسان التعبير عن حاجته للابتعاد دون أن يجعلها سيفًا مسلطًا على مشاعر الآخر. فالسكوت لا يصلح دائمًا لغة، لأن القلوب تفسّر على طريقتها، وكل قلب له قاموسه الخاص.
في العمق، الغياب اختبار للنوايا. من يغيب عقابًا يراهن على ضعف الآخر، ومن يغيب حبًا يراهن على قوته الداخلية. الأول يريد أن يثبت أنه الأهم، والثاني يريد أن يستعيد نفسه ليعود أفضل. لكن النتيجة لا تتوقف على الغائب وحده، بل على وعي الطرفين بمعنى العلاقة. فالعلاقة التي تقوم على نضج عاطفي تحتمل الغياب ولا تنكسر، أما تلك التي تقوم على التعلق المفرط فكل ابتعاد فيها يبدو نهاية.
الغياب أيضًا مرآة تكشف مقدار الأمان في العلاقة. من يشعر بالأمان لا يخشى غيابًا مؤقتًا، لأنه يثق في الرسالة غير المنطوقة: "أنا هنا حتى وإن لم أكن قريبًا". أما من عاش الخوف والهشاشة في مشاعره، فيرى كل غياب تهديدًا. لذلك فإن الطريقة التي نتعامل بها مع الغياب تكشف عن تاريخنا العاطفي، لا عن تصرف الآخر فحسب.
كم من شخص غاب ظنًا أنه يُعلّم الآخر قيمة وجوده، فوجد أنه خسر مكانه نهائيًا. وكم من آخر ابتعد طلبًا للسكينة، فوجد أن المسافة قرّبته أكثر من نفسه ومن الآخر. فليست كل عودة ممكنة بعد الغياب، ولا كل غياب يستحق العودة. المهم هو الوعي بالنية التي دفعته، لأن النية تصنع الفارق بين الوجع والنضج.
الحب الناضج لا يستخدم الغياب وسيلة ضغط، بل يحترم المسافة كمساحة شخصية لا تُفسَّر دائمًا على أنها عقاب. العلاقات التي تنجو هي تلك التي لا تحتاج إلى الغياب لتثبت قيمتها، بل تعرف كيف تُرمم نفسها بالحوار والتفاهم. لأن أقسى ما يمكن أن يحدث هو أن يتعوّد الطرفان على الغياب، فيصبح الصمت بينهما عادة لا اختيارًا.
وفي النهاية، الغياب الذي يشفي لا يؤذي، والغياب الذي يؤذي لا يشفي. قد نحتاج أن نبتعد لنعرف مدى احتياجنا للحب، لكننا نخسر الحب ذاته عندما نجعل الغياب وسيلة للسيطرة بدل أن يكون فرصة للوعي. فالقلب الذي يستخدم الغياب عقابًا يطلب الخضوع، أما القلب الذي يختار الغياب راحةً فيطلب السلام. والفرق بينهما هو الفرق بين حبٍّ يريد امتلاك الآخر، وحبٍّ يريد أن يبقى دون أن يُؤذي أحدًا.