نصف مليون فقير إضافي.. تبعات الحرب الباهظة على الفلسطينيين
تاريخ النشر: 11th, November 2023 GMT
يدفع جميع الفلسطينيين، في غزة والأراضي الفلسطينية ثمنا "باهظا" للصراع الدائر بين إسرائيل وحركة حماس، يتجسد بالتداعيات الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية على المدى القريب والمتوسط، وفق ما أكده تقييم أممي نشر مؤخرا، الذي رجح أن مواصلة الحرب لشهر ثان ستدفع نصف مليون شخص إلى الفقر.
وأصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" تقييما سريعا مشتركا، الجمعة، بعنوان "حرب غزة: الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين"، درس التأثير على حياة الفلسطينيين والأضرار التي لحقت بالمباني والبنية التحتية والحالة الصحية والفقر وانعدام الأمن الغذائي والتأثيرات على الوظائف والشركات وأداء الاقتصاد الكلي.
ويشير التقييم إلى أن النشاط الاقتصادي الفلسطيني تعرض لصدمة شديدة نتيجةً للحصار الكامل على غزة، وتدمير رؤوس الأموال والنزوح القسري والقيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع في الضفة الغربية.
الفقر والأمن الغذائيوفي حال استمرّت حرب غزة واسرائيل لشهر ثانٍ، سيرتفع معدّل الفقر بين الفلسطينيين، في غزة والضفة الغربية، بنسبة 34 في المئة، وسيرزح نصف مليون شخص إضافي تحت وطأته، حيث أن إجمالي الناتج المحلي سيهوي بمعدل 8.4 في المئة، ما يمثل خسارة قدرها 1.7 مليار دولار أميركي، وذلك وفق "الإسكوا".
ويقدر معدو التقييم أن الفقر قد ارتفع بمعدل 20 في المئة مع مرور شهر على الحرب، وأنّ إجمالي الناتج المحلي انخفض بمعدل 4.2 في المئة. ويشير التقييم أيضا إلى تقديرات منظمة العمل الدولية بفقدان 390 ألف وظيفة إلى الآن.
وبحسب توقّعات التقييم، في حال استمرّت الحرب شهرا ثالثا، سيرتفع معدل الفقر بنحو 45 في المئة، ما سيزيد عدد الفقراء بأكثر من 660 ألفا، بينما سيبلغ انخفاض إجمالي الناتج المحلي 12.2 في المئة، مسجّلًا خسائر إجمالية تصل إلى 2.5 مليار دولار.
ويحذر التقييم من أن انتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي بين الفلسطينيين يعد أمرا شبه مؤكد، مشيرا إلى أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسر الغزاوية كان مزريا منذ ما قبل الحرب الراهنة، التي من المتوقع أن تكون لها تداعيات عميقة ومتعددة الأوجه.
وتشير التقديرات إلى أن معدل الفقر في غزة حسب الخط الوطني للفقر قد بلغ 61 في المئة، في عام 2020، واتبع التقييم نتائج محاكاة نموذج "الإسكوا" لـ "التوازن العام القابل للحوسبة لدولة فلسطين"، مع أخذ ثلاثة نماذج للحرب في الاعتبار (الشهر الماضي، وشهر ثان وشهر ثالث).
ورجح التقييم أن يرتفع معدل الفقر من خط الأساس الحالي البالغ 26.7 في المئة، في عام 2023، إلى 31.9 في المئة في سيناريو وفق ما تم تسجيله خلال شهر من الحرب، وإلى 35.8 في المئة في سيناريو استمرار الحرب لمدة شهرين، وإلى 38.8 في المئة في سيناريو استمرارها لثلاثة أشهر.
وقد طال انعدام الأمن الغذائي الحاد أو المتوسط 62.9 في المئة من الأسر في غزة، في عام 2022. وأفادت نسبة تتجاوز 73 في المئة من الأسر أنها تلقت مساعدات إنسانية في الأشهر الستة السابقة للتقييم، في حين ذكرت أكثر من 50.5 في المئة من الأسر أن المساعدات غير الحكومية أو الخيرية هي مصدر دخلها الرئيسي.
وقد تسببت الحرب حتى الآن في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في غزة، وفي استمرار نفاد مخزونات المواد الغذائية. وأدى ذلك إلى تفاقم خطر سوء التغذية، لاسّّيما بين الرضع والأطفال الصغار، مما قد يفضي إلى إصابتهم بالضعف الإدراكي، وإلى ظهور الأمراض، وتفشي الأوبئة في نهاية المطاف، وفق التقييم الأممي.
وفي عام 2021، أصاب التقزم في غزة أكثر من 10.3 في المئة من الأطفال دون سن الخامسة، في حين أصاب نقص الوزن والهزال 2.5 في المئة و2.4 في المئة من الأطفال على التوالي.
وبحلول 3 نوفمبر عام 2023، أفيد بأن مخزونات الأغذية تكفي لمدة تقل عن أسبوع، وأن المطحنة الوحيدة العاملة، لا تستطيع طحن القمح بسبب انقطاع الكهرباء.
ومن المتوقع أن يعود ارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي بتداعيات شديدة على الأسر التي أصبحت تعيلها نساء منذ عهد قريب. فمنذ اندلاع الحرب الحالية، انضّّمت 1725 أسرة جديدة إلى الأسر التي تعيلها نساء في غزة، لمقتل الرجال الذين كانوا يعيلونها، بينما فقدت نتيجة 23181 أسرة تعيلها نساء منازلها، وفق التقييم.
ويشير إلى أن حالة هذه الأسر ستكون صعبة جدًا ًإذا كانت معيلة العائلة الجديدة عاطلة عن العمل، أو ما لم تكن قد شاركت في سوق العمل من قبل.
ومن المتوّقع أن تتفاقم تحت وطأة الأضرار التي تلحقها الحرب بالتعليم والصحة والخدمات الأساسية، وفي ظّل ترّّدي كفاءة برامج الحماية الاجتماعية القائمة، نتيجة لتدهور الحّّيز المالي المحدود أصلاً، مما يترك السكان المعرضين لمخاطر متزايدة دون دعم كاف لمواجهة تداعيات الحرب.
وتشير التقديرات إلى أّنه بحلول بداية الأسبوع الثالث من الحرب، أصبح جميع سكان غزة تقريبا يعيشون في فقر بنسبة 96 في المئة، وذلك استنادا إلى الدليل الوطني للفقر متعدد الأبعاد الذي يحسب أوجه الحرمان المتزامنة التي يعاني منها السكان في سبعة أبعاد للرفاه.
بعبارة أخرى، يعاني جميع الفلسطينيين المقيمين في القطاع تقريبا وعددهم 3.2 مليون نسمة، من الفقر متعدد الأبعاد، وهم في حاجة إلى الحد الأدنى من الدعم للبقاء على قيد الحياة.
ويحذّر التقييم من التدني الكبير في دليل التنمية البشرية، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لقياس الرفاه، الذي يقدر أن "التنمية ستتراجع في دولة فلسطين بما يتراوح بين 11 و16 سنة، وفي غزة بين 16 و19 سنة"، وفق حدّة النزاع.
وسيأتي ذلك بسبب تراجع مستويات التحصيل العلمي وانخفاض العمر المتوّقع، وتدني نصيب الفرد من الدخل، ونقص التغذية.
وقد تراجع دليل التنمية البشرية من 0.703، في عام 2013، إلى 0.698 في عام 2014، ومن 0.716، في عام 2020، إلى 0.715 في عام 2021، في أعقاب التصعيد العسكري في الفترة من يوليو إلى أغسطس عام 2014 ،والتصعيد العسكري، في مايو عام 2021، على التوالي.
وفي عام 2014، انخفض متوسط العمر المتوقع بمقدار 1.4 سنة. ويقول التقييم إنه نظرا إلى فداحة الحرب الحالية، التي أسفرت لغاية الآن عن أكثر من ثلاثة أضعاف عدد القتلى في أقل من نصف المدة الزمنية، وعن أضرار أكبر في البنى التحتية عموما، وفي ضوء تقديرات نموذج بكثير التوازن العام القابل للحوسبة بشأن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، من المتوقع أن تكون للحرب الحالية تداعيات جسيمة على دليل التنمية البشرية.
وكانت البطالة في غزة في الأصل أعلى بثلاثة مرات ونصف (46 في المئة) مما كانت عليه في الضفة الغربية (13 في المئة). وسجلت المنطقتان اللتان أمرت السلطات الإسرائيلية بإخلاء المدنيين منهما، أي شمال غزة ومدينة غزة، 56.2 في المئة من إجمالي نسبة التشغيل في القطاع.
وتبلغ البطالة أعلى مستوياتها بين النساء 66.2 في المئة في غزة مقابل 29 في المئة في الضفة الغربية ونسبة الخريجين الشباب في غزة تبلغ 74 في المئة مقابل 29 في الضفة الغربية.
ويوّظف قطاع الخدمات أعلى نسبة من العاملين، تليه مباشرة الأنشطة التجارية والمطاعم والفنادق.
وعادة ما يكون التوظيف في الخدمات، مثل السياحة، شديد التأّثر بالصدمات. وأشار التقييم إلى أن "دولة فلسطين تعاني من ارتفاع معدل العمل في الاقتصاد غير النظامي أيضًا 53 المئة من جميع العاملين في عام 2022".
وأوضحت أن العاملين يفتقرون إلى الضمان الاجتماعي والمزايا وتقديمات الحماية الأخرى. ويعمل حوالي 14 في المئة من القوى العاملة الفلسطينية في إسرائيل أو في المستوطنات الإسرائيلية، ومن بينهم حوالي 20 ألف عامل من غزة، وفقا لمنظمة العمل الدولية.
وفي اليوم الأول من الحرب الحالية، ألغت السلطات الإسرائيلية تصاريح العمل لآلاف العمال الفلسطينيين في إسرائيل، فبقي العديد منهم عالقا في الضفة الغربية أو محتجزا في إسرائيل.
وتم إطلاق سراح العمال أو المحتجزين وإعادتهم إلى غزة في 3 نوفمبر، مع الإشارة إلى أن هؤلاء العمال يحققون دخًلا يقدر بثلاث مليارات دولار سنويا.
كما تخلق القيود التي تفرضها إسرائيل على التنقل داخل الضفة الغربية صعوبات لـ 67 ألف عامل فلسطيني لديهم وظائف في محافظات غير أماكن إقامتهم، مما يعرضهم لخطر فقدان وظائفهم.
وخلصت دراسات إلى أن تداعيات العنف والقيود على الحركة كبيرة على الأجور والتوظيف والناتج المحلي الإجمالي لدى الفلسطينيين، وفق التقييم.
ونقل التقييم تقديرات منظمة العمل الدولية التي تشير إلى فقدان 61 في المئة من فرص العمل في غزة، أي ما يعادل 182 ألف وظيفة، مع بلوغ الحرب شهرها الأول. كما فقدت نسبة 24 في المئة من فرص العمل أي ما يعادل 208 آلاف وظيفة في الضفة الغربية.
وبينما هناك نحو مليون ونصف من سكان غزة نزحوا داخلها منذ اندلاع الحرب، وفي ظلّ الدمار الهائل للمنازل المهدّمة أو المتضررة، تتوقع الدراسة أنّ الانكماش الاقتصادي سيفاقم الوضع الإنساني الكارثي أكثر وسيصعّب احتمالات التعافي ويبطِئها.
وبعد بلوغ الحرب شهرها الأول، توقع التقييم أن يكون الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني قد انخفض بمقدار 4.2 في المئة، مقارنة بتقديرات ما قبل الحرب لعام 2023، مما يعني خسائر قدرها 857 مليون دولار.
وإذا استمّّرت الحرب لشهر ثاٍن، سترتفع الخسائر الاقتصادية المقدرة إلى 8.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أو 1.7 مليار دولار. وإن دامت لشهر ثالث، ستبلغ الخسائر 12.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يصل إلى 2.5 مليار دولار.
وستكون للتداعيات الاقتصادية للحرب آثار مباشرة وغير مباشرة على الوضع الإنساني، بحسب التقييم، بما في ذلك النزوح الواسع النطاق الذي سيؤّثر بدوره على الواقع الاقتصادي في المرحلة اللاحقة.
ولن يتحقق التعافي الاقتصادي في غزة بعد تنفيذ وقف إطلاق النار نظرا إلى حجم الدمار وضعف القدرة على الوصول إلى الموارد، بما في ذلك المواد والمعدات بفعل الحصار على غزة.
وأمام هذا الواقع، أكد مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أخيم شتاينر، أن "الخسائر المتواصلة في الأرواح بشكل غير مسبوق والمعاناة الإنسانية والدمار في قطاع غزة، كلها أمور غير مقبولة".
وكرر مناشدات الأمين العام للأمم المتحدة للتوصل إلى وقف فوري إنساني لإطلاق النار، ولتحرير جميع الرهائن، ولإتاحة وصول المساعدات الإنسانية على النطاق المطلوب "لإنقاذ أرواح المدنيين".
وأضاف "تنذرنا هذه الدراسة بأن آثار هذه الحرب ستكون طويلة الأمد ولن تقتصر على غزة وحدها. فأبعد من الكارثة الإنسانية المباشرة التي نشهدها اليوم، هناك أيضا أزمة إنمائية. فالحرب فاقمت معدلات الفقر في مجتمع كان يعاني مختلف صنوف الهشاشة بالفعل قبل اندلاع الصراع".
بدورها شددت الأمينة التنفيذية للإسكوا، رولا دشتي، على أن "وقف إطلاق النار والتدفق المستدام للمساعدات الإنسانية من شأنه أن يساهم في التخفيف من المعاناة بشكل فوري وملموس ويقلص من مستويات الحرمان بالنسبة لمئات آلاف الأسر الفلسطينية، "وهذه خطوة أولى ضرورية".
وتابعت: "إلا أن السلام المستدام سيكون دائما هدفنا. ولا شك أن عدم معالجة الأسباب الجذرية للصراع الطويل الأمد، وتحديدا الاحتلال المستمر، يجعل جهود التعافي غير كافية وقصيرة الأمد. ومن دون هذا السلام، سيعرض جميعُ المعنيين كلَّ ما حققوه من تقدّم نحو التنمية المستدامة للخطر، وسيخاطرون بفرصة تحقيق مكاسب لطالما عملوا من أجلها لتحقيق الازدهار الاقتصادي والتمكين الاجتماعي".
المصدر: الحرة
إقرأ أيضاً:
من نشوة القصف إلى فخ الاستنزاف.. كيف وقعت “إسرائيل” في فخ الحرب التي أرادتها؟
في كتاباته المتعددة، كثيرًا ما حذر نعوم تشومسكي من غواية “القوة” حين تُمارَس بمعزل عن العقلانية السياسية، ومن السرديات الإمبريالية التي تُخفي الحقائق خلف لغة “الردع” و”الدفاع عن الذات”، “إسرائيل”، التي أفاقت على نشوة ضربة خاطفة ضد إيران، سرعان ما بدأت تدفع ثمن إيمانها بأن بإمكانها فرض توازنات الشرق الأوسط عبر هجوم مباغت على دولة إقليمية بحجم إيران، لكن الواقع، كما هو الحال دائمًا في منطق القوة، معقد ومفتوح على انهيارات غير محسوبة.
الهروب من غزة نحو سماء طهران
في بداية الأمر، بدا الهجوم “الإسرائيلي” على المنشآت الإيرانية وكأنه ضربة ناجحة: اغتيالات نوعية، ضربات على البنية التحتية النووية والعسكرية، وتحقيق ما وصفته وسائل الإعلام العبرية بـ”إنجازات لا تُضاهى”، لكن خلف هذا الإطار الإعلامي، تكمن أزمة أعمق: “إسرائيل” تهرب من مأزق غزة إلى معركة أخطر وأعقد مع طهران. والضربات لم تكن فقط ضد المنشآت، بل كانت في جوهرها محاولة لإعادة ضبط معادلة الردع بعد سلسلة من الهزائم الرمزية والاستراتيجية، بدءًا من 7 أكتوبر، مرورًا بالحرب الطويلة والمفتوحة في غزة، وصولًا إلى الخوف من تصاعد جبهة الشمال مع حزب الله.
النشوة كقناع للإنكار
في التحليل النفسي للسلطة، تمثّل النشوة الجماعية لحظة إنكار جماعية. الإعلام العبري، وحتى بعض المعارضين، انخرطوا في التهليل للضربة، وكأنها تعويض جماعي عن الإهانة الوطنية في 7 أكتوبر. لكن فإن “الاحتفال بالقوة لا يُلغي الحاجة إلى مساءلتها”. ما جرى لم يكن انتصارًا بل انزلاق محسوب إلى منطقة الخطر. والفرق بين الحكمة والجنون، أن الأولى تفكر في اليوم التالي، بينما الثانية تتلذذ بلحظة التأثير الفوري.
الفشل في فهم إيران
منذ عقود، تسوّق “إسرائيل” أن إيران “نظام شيطاني” يمكن تفكيكه عبر ضربة ذكية واحدة. وهذا بالضبط ما يُحذّر منه تشومسكي عند الحديث عن “التسطيح الاستشراقي” للعقل الغربي تجاه خصومه، إيران ليست دولة عشوائية، إنها منظومة معقدة ببنية عسكرية وعقائدية واقتصادية متداخلة، وتملك أدوات الرد في الإقليم، وأهم من كل ذلك: ذاكرة حرب طويلة. التجربة الإيرانية مع العراق (1980–1988) لا تزال تلهم العقيدة العسكرية الإيرانية. والشيعة، كما كتب يوسي ميلمان، “يتقنون فن المعاناة”.
الرد الإيراني لم يتأخر فقط لأن القيادة مشوشة، بل لأنه كان يحتاج إلى تأنٍّ استراتيجي، وإلى قرار محسوب بعدم جعل الرد مجرد فعل عاطفي. وعندما أتى الرد، كان بمستوى يجعل النشوة “الإسرائيلية” تبدو استهزاء بالتاريخ والجغرافيا معًا.
أمريكا ليست هنا
من أخطر ما اكتشفته “إسرائيل” هذه المرة، أن الولايات المتحدة –ولو بقيادة ترامب الحليف المعلن– ليست بالضرورة على استعداد لخوض معركة واسعة لأجل “إسرائيل”. وزير الخارجية ماركو روبيو كان واضحًا في نأي واشنطن بنفسها عن الهجوم، وهو موقف يعكس تحولًا عميقًا في المزاج الأمريكي الذي بدأ يتبرم من كلفة التحالف مع “إسرائيل”، لا سيما مع اتساع المعارضة للحرب في غزة، والصدام مع القوى الدولية الأخرى (كالصين وروسيا) حول سياسات الهيمنة.
ترامب قد يهلل للهجوم، لكنه لا يريد أن يُجر إلى مستنقع حرب طويلة في لحظة انتخابية حرجة. وهذا ما يعرفه الإيرانيون جيدًا، لذا يُصعّدون بثقة محسوبة. أما “إسرائيل”، فقد فوجئت بأن “الغطاء الأمريكي” الذي طالما اعتُبر ضمانة للجنون الاستراتيجي، بات مثقوبًا هذه المرة.
الحرب على النظام أم على البرنامج النووي؟
بين خطاب نتنياهو الذي توعّد برؤية طائرات “إسرائيلية” فوق طهران، وتصريحات مسؤولي الجيش بأن الهدف هو تدمير البرنامج النووي، ثمة فجوة سردية خطيرة. إذا كانت “إسرائيل” تريد تغيير النظام، فإنها تكرر خطيئة الأمريكيين في العراق: وهم استبدال النظام دون رؤية للبديل. أما إذا كان الهدف فقط وقف التخصيب، فإن الهجوم لم ينجح في تدمير منشأة فوردو، ولم يوقف البرنامج، بل ربما سرّعه.
ومن هنا يأتي خطر الحرب الاستنزافية. فإيران، التي تعي أنها لن تُهزم في ضربة واحدة، قد تُطيل أمد المواجهة، وتجعل منها حربًا متعددة الجبهات والأدوات: صواريخ على تل أبيب، هجمات سيبرانية، اشتباكات في مضيق هرمز، وتصعيد عبر حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي.
إسرائيل تواجه نفسها
بعد الهجوم، انهالت الانتقادات من الداخل، فجأة صار نتنياهو في مواجهة مجتمع يكتشف هشاشته: الدفاعات الجوية فشلت، والحكومة لم تهيّئ الناس، وبدأ القادة العسكريون يحذرون من حرب طويلة، فيما المعلقون يتحدثون عن “فخ نصبته إسرائيل لنفسها”. وكأن الحرب، التي أرادها نتنياهو لتكون مخرجًا من ورطة غزة، تحوّلت إلى ورطة أشد وأخطر.
في كل هذا، يبدو أن “إسرائيل” لم تُجرِ الحساب الأساسي الذي تحدث عنه تشومسكي مرارًا: حين تبني قراراتك على وهم التفوق التكنولوجي وتغفل عن التعقيد التاريخي والسياسي والثقافي لخصمك، فأنت تصنع كارثتك بنفسك.
من غزة إلى طهران: لا خطوط رجعة
إن الفكرة القائلة بأن “إسرائيل” يمكنها أن “تُعيد ضبط النظام الإقليمي” عبر القوة، هي في جوهرها استمرار لسردية استعمارية قديمة، وهي أن “الشرق لا يفهم إلا لغة القوة”. هذه السردية لا تزال تحكم العقل “الإسرائيلي”، الذي لم يتعلّم من تجاربه في لبنان ولا في غزة، وها هو الآن يكررها على نطاق أوسع وأخطر.
لكن الفارق أن طهران ليست غزة. والمقاومة هنا ليست فقط صواريخ، بل منظومة ممتدة جغرافيًا وعقائديًا. “إسرائيل” لا تواجه إيران وحدها، بل منظومة ممتدة من العراق إلى اليمن، ومن لبنان إلى سوريا. وهذا ما يجعل هذه المواجهة قابلة لأن تنفلت من السيطرة في أي لحظة.
في الحروب، لا تنتصر النشوة
كما قال ناحوم بارنيع: “الحروب تبدأ بالنشوة… ثم تستمر”. “إسرائيل” في هذه اللحظة ليست في موقع المُسيطر، بل المُرتبك. فالهجوم الذي أريد له أن يُعيد الهيبة، كشف العجز. والضربة التي أريد لها أن توقف المشروع النووي، قد تُسرّعه.
إن لم تُدرك “إسرائيل” هذا الواقع بسرعة، وتقبل بخيار سياسي عاقل، فإنها تقود نفسها إلى مواجهة قد تكون الأعنف في تاريخها. وحينها، سيكون الثمن ليس فقط إخفاقًا استراتيجيًا، بل تصدعً داخلي طويل الأمد، وسقوطًا نهائيًا لوهم “الجيش الذي لا يُقهر”.
“الحروب لا تُخاض لإرضاء الغرور، بل لحماية الناس… وإذا كانت النشوة هي المعيار، فالنتيجة دائمًا كارثة.”
كاتب صحفي فلسطيني