هل نحن في السودان شعب واحد أم شعوب؟
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
????كنا أثناء عملنا الدبلوماسي تحت وقع أوضاع صعبة ومعقدة كهذه التي جاثمة علي صدر بلادنا اليوم ومنذ شهور، نعترض علي عبارة (شعوب السودان)، حيث كانت ترد بعفوية ودون قصد سيئ أحيانا علي ألسنة الغربيين حتي المتعاطفين مع السودان من صحافيين ونشطاء وما أقلهم يومئذ جراء ثرثرتنا معاشر السودانيين غير المنضبطة عن وجود أكثر من خمسمائة قبيلة وأكثر من مائة لغة ولهجة في سودان المليون ميل مربع وكأننا نتباهي بذلك، ويعقب الاعتراض تأكيد منا بأن السودان بمساحته الواسعة يسكنه شعب واحد لا شعوب نقولها ونحن نجابه المتربصين بوحدة البلاد بتكرارها علي مسامعنا “شعوب السودان” وهم كثر وقتذاكً يرومون التدليل علي ضرورة تفتيت ذلك المارد النائم مخافة أن يصحو يوماً ما فينطلق كالسهم نحو العلياء لا يلوي علي شئ، وكان تأكيدنا يجئ بصوت أعلي يحمل معاني الرفض والتحدي مستعينين بما تعلمناه منهم من تعريفات بأن تعدد العرقيات والديانات واللغات لم يعد طعناً في تجانس الدولة القومية أو القطرية والتي قامت وفقا لإتفاقية ويستفاليا للسلامً في العام ١٦٤٨ علي قاعدة التجانس الديني حلاً لحروبات ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت طحنت شعوب أوروبا طحنا، حيث كانت الامبراطورية الرومانية المقدسة في وسط وغرب أوروبا تضم مذاهب مسيحية متباينة المعتقدات استعصي التعايش بينها وحل مكانها قتال ضاري فجاء مقترح الدولة الأمة أو القطرية الذي يقوم عليه النظام الدولي اليوم.
ومع ذلك يبقي التعريف التقليدي للدولة القطرية صحيحاً: “يجعل من كل مجموعة سكانية تعيش في قطعة جغرافية معلومة الحدود تتمتع باستقلالية ولها سلطة حاكمة وحارسة لحدودها ومنظمة لحياة الناس في ربوعها دولة – أمة او قطرية كاملة السيادة ويعد مجموع السكان فيها شعب واحد لا شعوب وإن تعددت أعراقهم واختلفت معتقداتهم”..
وما من دولة اليوم تتمتع بتجانس عرقي أو ديني إلا قليلا.
والحروب الرهيبة في أوروبا أدت في مرات عديدةً خلال القرنين الماضيين إلي تغيير حدود تلك الدول حيث لم تلتزم الدول بمبدأ احترام سيادة الدول الأضعف وبالتالي تلاشي التجانس فالمنطقة التي ولد فيها “امانويل كانط” الفيلسوف الألماني المعروف فيما كان يعرف ببروسيا غدت اليوم جزءا من روسيا الاتحادية، وأجزاء من بولندا تقاسمتها دول مجاورة لها، وهكذا وفي الذاكرة أيضاً صراع “الزاس واللورين” بين فرنسا وألمانيا، وبعض أسباب الصراع في اكرانيا اليوم هو بعض الدمج والتفكيك التعسفي الذي صنعته الحروب.
في افريقيا قامت الحدود السياسية كحيازات للدول الأوروبية بعد اتفاقية “برلين ١٨٨٤- ١٨٨٥”، وحشدت في معظم دول القارة عرقيات ولغات وديانات متعددة لا يجمع بينها مشترك، وما أن خرج صاحب الحيازة الأوروبي إلا وانفجرت الأوضاع في معظم بلدان القارة واشتعلت الحروب بين مكوناتها ومع ذلك يلقي اللوم علي النخب وحدها في الفشل الذي لا يزال الصفة الأدق في وصف أحوال تلك الدول وذلك تفادياً لإلقاء اللوم علي المستعمر الذي عوضاً عن وضع خطط وأموال كتعويض لتحقيق الحد الأدني من الحياة الكريمة كالطاقة والمياه والمرافق الصحية الضرورية التي ربما كانت قد أدت إلي تسريع عملية التجانس بين مكونات تلك الدول واستقرارها، حرصت الدول الاستعمارية إلي ربط تلك المستعمرات السابقة بمؤسساتها هي في أوروبا لإستدامة السيطرة عليها وبالمجان هذه المرة.
حدث ذلك لأفارقة العالم الجديد حيث ألغيت العبودية في امريكا عام ١٨٦٣ بموجب “إعلان تحرير العبيد” الذي أعلنه الرئيس ابراهام لنكن، وقد وصف “مارتن لوثر كينغ الصغير” تلك الحرية التي حصل عليها الأرقاء بأنها لم تتضمن منحهم قاعدة اقتصادية كأراض زراعية يعيشون عليها فقد كانت حرية الجوع والتعرض للرياح والمطر دون ساتر وحرية مجاعات بينما شجعت الحكومة الامريكية المزارعين من أوروبا للهجرة لأمريكا عبر اعلانات مكتوبة بمنحههم ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية الخصبة لتكون قاعدة اقتصادية يبنون عليها معاشهم بينما يلوم الإنسان الأبيض السود اليوم علي فشلهم في صنع حياة كريمة.
(راجع الرابط أدناه).
https://youtube.com/shorts/GuVhm8Z3i6M?si=K32XjrN8dtAhgwX0
وفيلم far and away
والشكوي في السودان وإفريقيا من التهميش وتفاوت التنمية بين أجزاْ الدولة تغفل حقيقة أن المستعمر أقام مشروعات في أماكن دون غيرها وفقاً لمصالحه في المستعمرات كتوافر ما يحتاجه من مواد خام واستتباب الأمن وسهولة نقلها، ولما خرج تفاوتت بطبيعة الحال بين أجزاء القطر الواحد مستويات التنمية وتوفر الخدمات أدت لجفوة بين تلك المكونات والأجزاء وبدت كما لو أن الحكومات القائمة هي التي فضلت أمكنة علي أخرى وعرقيات علي أخري ثم ألبس التفاوت الإقتصادي لبوس العرقية والعنصرية وتأخرت عمليات دمج المكونات المتباينة والمتعددةً في بوتقة واحدة بعد خروج الاستعمار لذلك، وفشت الإنقلابات العسكرية، والعمل المسلح لنيل الحقوق، بينما لا يعرف علي وجه الدقة ممن تأخذ ولم يتوفر استقرار كاف يمكن الحكام الوطنيين من استدراك التقصير ورتق الفتق الذي خلفه الاستعمار. وهذا لا ينفي تقصير الحكام الوطنيين ولا يعفيهم من بعض المسؤولية، لكن تشابه العثرات في معظم المستعمرات السابقة والنواقص قي مجالات التعليم وتوافر الطاقة والخدمات الصحية وعدم تحقيق أي اكتفاء ذاتي في أي من ضرورات الحياة يؤكد أن التركة الاستعمارية هي القاسم المشترك في ذلك، وفي بوركينافاسو عرض الرئيس الفرنسي “ماكرون” برئيس البلاد حينما قال في محاضرة: “أنا لست مسؤولاً عن نقص الكهرباء في بلدكم أسألوا رئيسكم هذا عنها”، فخرج الرئيس من القاعة مغاضباً، بينما صب الشباب جام غضبهم علي الرئيس الفرنسي علي اعتبار أن فرنسا شريكة في اللوم علي الأقل.
ثم إن الحيازات الاستعمارية التي أضحت دولا بعد خروج المستعمر مباشرة تأخر تحقيق الروح الوطنية المشتركة بين أجزائها ومن طبائع الأشياء يأخذ ذلك وقتاً طويلاً هذا رغم أن القوانين الموضوعة في جميع هذه الدول الافريقية التي استقلت تنص علي المساواة التامة بين المواطنين. يبقي التحيز الجهوي والعرقي والديني هو سيد الموقف يطل برأسه كلما قامت انتخابات حتي تلك الحرة النزيهة حيث تثور الشكوك والاتهامات بالتزوير وقد تحرك بأصابع من الداخل أو الجوار أو الخارج البعيد للنيل من استقرار تلك الدولة لاعتبارات سياسية، ايدولوجية أو اقتصادية.
والتحيز الاجتماعي الذي يتخذ مطية لإثارة الفتن موجود حتي في مجتمعات العالم الأول بسبب اختلاف الألوان والأديان والثقافات وحتي مع انعدام كل ذلك؛ فالأمريكي الأبيض من الشمال هو عند الأمريكي الأبيض من الجنوب (يانكي)، وهو عند الشمالي متخلف، متعصب وهكذا. وكذا الحال في ايطاليا وألمانيا وبريطانيا. ومواطنو هذه الدول تعرضوا جميعاً للتمييز في أمريكا من قبل اخوانهم البيض وتم شنق ١٢ من الايطاليين علي جذوع الأشجار تماماً كما كان يفعل بالسود فيما عرف ب (لنشنق)، حتي هددت ايطاليا بإعلان الحرب علي امريكا بسبب ذلك مما حدا بالرئيس الأمريكي لجعل يوم “كولمبس” الذي اكتشف امريكا بالصدفة (ايطالي) إجازة رسمية لجلب الاحترام للايطاليين تذكيرا بالمكتشف للقارة الأمريكية، وقد جري تغيير التسمية بعد احتجاجات الهنود الحمر الذين أذاقهم الأمريين، فسمي (بيوم الأهلين!).
ومع ذلك توجد سمات عامة تميز كل شعب تتكلس بفعل الزمن، تبطئ المسير في حال التكوين الحديث الذي لم يمتد غراسه في التاريخ بعد، كالقائم في افريقيا والمستعمرات السابقة في العالم الثالث، ونمو المشتركات يختلف في السرعة، فمثلا يتبلور مزاج موسيقي بوتيرة أسرع وكذلك اللباس العام واللهجة ثم المطبخ المشترك ويتأخر التزويج لإعتبارات اقتصادية في المجتمعات النامية كالحرص علي الحفاظ علي الاراضي ونحوها في اطار الاسر الصغيرة والممتدة أو للإحساس بتفوق عرقي ولبعض الوقت، ووعياً بذلك قال “مارتن لوثر كينغ الصغير” مخاطبا قومه البيض في سعيه للمطالبة بالمساواة أمام القانون (الحقوق المدنية) مطمئناً: “إنني أريد أن أكون أخاً لكم لا صهراً”)
“I would like to be your brother and not a brother in law.”
يستبطئ بحكمة بالغة ذلك المدي من الانصهار الذي لم يحن وقته.
واشتهر الناس في السودان بدماثة الخلق وطيب المعشر والأمانة في المنطقة بأسرها والقصص الدالة علي ذلك كثيرة تروي. وسألت أمريكياً مستنيرا إن قد سمع بالسودان فأجبنا علي الفور: “السوداني هو رجل الشرق الأوسط المحترم”
“The Gentleman of the Middle East.”
وقال آخر في حشد من الناس اتفق أن أنجز عمل أطروحته الميدانية للدكتوراه ستينيات القرن العشرين في الخرطوم أنه زار جميع أقطار المسلمين وأقطارا غيرها فوجد أن: “السودانيين الأقرب إلي تعاليم وسلوكيات السيد المسيح عليه السلام”. تلك سمة عامة صبغت صورة السوداني في الأذهان وذلك لا يعني بأي حال خلو مجتمعنا من المجرمين والمفسدين والقتلة.
هذا الاستطراد المطول وعنوان هذه المقالة ناتج عن دهشة أصابتنا وذهول حل بساحاتنا وأقلق منامنا ونحن نكابد المعاناة من جراء هذه الحرب اللعينة منذ منتصف أبريل ٢٠٢٣ ونري ما لم يكن يخطر علي بال من فعال؛ تقتيل بلا رحمة للأبرياء العزل، واغتصاب لحرماتهم وسرقة لكل ما يملكون من متاع بحقد دفين وتشف لا يعرف له سبب؟ وهجمات علي المتاجر والبنوك والأسواق بغرض السرقة؛ سرقة كل شئ تنتهي بأسواق لبيعها علناً في غياب تام للدولة، فبتنا نتساءل هل هؤلاء الذين يقومون بهذه البشاعة سودانيون؟ وفي مقابل ذلك شاهدنا في الوسائط شابا في غزة يحدث عن غزة الصامدة التي تتعرض لأبشع مجازر العصر بأنها لم تشهد عمليات نهب وسرقة للأسواق وممتلكات المواطنين رغم كونها علي حافة المجاعة.
قال لي سوداني حي الضمير معلقاً: “شعرت بالخزي والعار وأنا أسمع ذلك وأري بعيني هاتين، الأسواق تنصب في الخرطوم للمسروقات من بيوت المواطنين وملابس أطفالنا وأواني الطبيخ والقهوة والشاي بل والشبابيك والأسرة ولعب الأطفال”.
قلت: كنا نباهي الغربيين بأن قطوعات الكهرباء التي نتعايش معها بشكل يومي منذ بداية ثمانيات القرن الفارط لم تشهد فيها مدننا سرقات ونهب للأسواق والمتاجر، بينما يحدث ذلك في كبريات مدنهم إذا حدث فيها إظلام بفعل قطوعات تنتج نادراً عن كوارث طبيعية فوق طاقة الانسان؟
قالها مرة المزروعي يباهي بها بأن: “المرأة المسلمة في معظم العواصم الإسلامية تخرج منتصف الليل وحدها لشراء الأغراض من المتجر وهي آمنة بينما لا يحدث ذلك في كبريات مدن الغرب المضاءة بالثريات”.
بذلك الألم طفق السوداني يتساءل كالمتشكك هل هؤلاء سودانيون؟ ويتساءل مرة أخري يمني النفس ألا يكونوا، ولئن لم يكونوا وكانت السرقات الحالية والفطائع المقيتة والمميتة التي ذكرنا يفعلها من جاء بهم تمرد الجنجويد من أوباش الصحراء الكبري الذين أعادوا بفظاعة صنائعهم سير أوباش جنكيزخان وهولاكو وبرابرة أوروبا الذين دمروا حضارة اليونان والطليان وكل الغزاة الذين وثق التاريخ جرائمهم، إن كانت ليست من صنيع السودانيين كما يزعم البعض، فما بال (المتحضرين) في المدن يتسابقون لهذه الأسواق الحرام يشترون المسروقات الماخوذة من بيوت الجيران والأصحاب وأبناء وبنات الحي في المدن، هذا إن لم يكون هم من دل السارقين عليها كما تروي بعض القصص؟ بل وما بال القري المعروفة داخل حدود السودان وحواضر قبائل عرفت بالخير كانت حواضن الإمام المهدي وموطن فرسانه الأشاوس في جهاده المقدس من أجل تحرير ذات الوطن الذي تستخدم فيه عناصر من تلك الأنحاء ومن الشتات لإذلاله واستعماره وسرقة ثرواته بقتل شيوخه وشبابه واستباحة حرماته، ما بالها تستقبل السارقين والنهابين مغتصبي الحرائر والقتلة بالزغاريد والأهازيج والأشعار وغناء الحكامات؟ أليست هذه ديار عبدالرحمن دبكة وجمعة سهل وإخرين من تلك الجهات من الوطن الذين ساهموا مع ابن الأبيض حاضرة كردفان، الزعيم الحق اسماعيل الأزهري، ترجيح خيار (السودان للسودانين) فولدت دولة ١٩٥٦ كما قوض أسلافهم الميامين بحد السيف دولة ١٨٢١ بمناصرة المهدي؟
هذه دعوات لا تصدر من أفواه سودانية أصيلة.
وإن ساقوا التهميش مطية لذلك فما بال قبائل في ولاية الخرطوم وفي جوارها القريب وسجادات تصوف تشارك في هذا الجرم الشنيع؟ وما بال أحزاب سياسية كبيرة وصغيرة تبدو راضية بما يحدث هذا إن لم تكن ضالعة فيه بنحو ما؟
ماذا دهانا؟ هل نحن (يا نحنا.. يا نحنا..)؟ أين شيوخ الإسلام وحفظة القرآن هناك وهنا وأين مشايخ تلك القبائل؟ وللانصاف قد أدان بعضهم تلك الجرائم بكل قوة وشجاعة وفيهم أفاضل خبرناهم في دروب الحياة لا نشك في صدقهم وفي حبهم للوطن ونبذهم للقبلية والجهوية، ولكن أين البقية؟ أين المثقفون هناك وقد تصدي بعضهم لها بالفعل بالشجب والاستنكار والادانة لكن ألا يستدعي الأمر أكثر من ذلك؟ وقفة أقوي مجتمعة من أولئك جميعا في حملات منظمة معلنة ومذاعة ومتلفزة حتي لا تلحق القلة المارقة بالجميع العار والشنار الذي يبقي ما بقي الدهر؟
وأعجب منه وأنكي أن تجد من لا يري في ذلك بأساً ممن يعتبرون أنفسهم في زمرة المثقفين العصريين التقدميين يزينون حربا متخلفة موغلة في التخلف والأحقاد العرقية البدوية والعمالة المشتراة بالدرهم والدينار. يتوارون للتمويه خلف عبارات زلقة ومبهمة، كالقضاء علي سودان ٥٦ او حتي ١٨٢١، يزعمون أنها ستفضي لتحقيق الحرية والسلام والعدالة مع أن الناس قد استأنسوا من قديم بالحكمة البالغة التي تقول: “إن فاقد الشي لا يعطيه!”، “وأن المرء لا يجن من الشوك العنب!”. كيف يستوعب العقل ألا يري أولئك بأساً في انتهاك الأعراض وسرقة البيوت بل الاستيلاء عليها بعد طرد أصحابها وتشريدهم وهي بيوت ذويهم، والأعراض؛ اعراض الأقرباء والجيران، وزملاء الدراسة ورفقاء العمل والصحاب في الأسفار الذين لم يرتكبوا جرما في حق أحد!
أين هذا من الصورة الرائعة للسوداني التي كانت منذ عقود قليلة مضت تضئ في زهو سماواتنا وسماوات الدنا؟!
أين تعاليم الدين الحنيف وأعراف السودانيين السمحة ومُثُل القبائل البدوية الحرة الأبية:
ما بياكل الضعيف وما بسولب المسكين
إلا شيمة اللسد اب قبضتن زين!
حتي الهمباتة السراق الذين كانوا يرون في ذلك فروسية ورجولة كصعاليك العرب في الجاهلية كانوا يردون الابل المسروقة إذا علموا أنها لأيتام حتي لو قُتلوا عند ارجاعها يسمونها (مال الدمعة) يرون العار في أخذها.
أبن شمائل العرب في الجاهلية وقبل الاسلام لمن يصعرون الخد اليوم للآخرين تفاخرا بالانتساب للعرب؟ اشتهر العرب بالشجاعة ومتعلقاتها من الفروسية والشهامة والصدق وتجنب الكذب، (ابو سفيان بن حرب عند كبير الروم)، ومنازلة النظير في حومة الوغي والتأفف من اصطياد الضعفاء (عتبة يوم بدر نريد أكفاءنا من بني عمنا)، ووفاء السموأل، وأناة معن بن زائدة، وحكمة في ابن ساعدة، وكرم حاتم طئ؟
قال عنترة:
يخبرك من شهد الوقائع
أنني أغشي الوغي وأعف عند المغنم
وتعفف عنترة عن مجرد النظر لحليلة الجار.
وأكرر تساؤلي هل نحن شعب واحد أم عدة شعوب اتفق أن ضمتها جغرافية واحدة؟
وأجيب نفسي؛ بأننا شعب واحد فمن به أن يرعي قيم الخير التي عرفها الناس عنه والتي حببت الناس فيهم لكنه فقد البوصلة ولم يفقد لحسن الحظ عقله ولا الرغبة في التماس الجادة من جديد ليجعل من هذه النقمة نعمة للمراجعة واستدراك ما فات وإحياء الشمائل التي ميزته عن جواره القريب والبعيد. ومن المبشرات نلحظ حباً للوطن وحرصاً علي وحدة أراضيه بل والموت في سبيله تنطلق من عقائر شبان وشابات بكل ألوان السودانيين وسحناتهم ولهجاتهم كأننا نستشرف قفزة هائلة تجب نواقصنا جميعاً وتدلف بنا لمرحلة جديدة من العز الباذخ!
✍️الدكتور. الخضر هارون
[email protected]
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی أوروبا تلک الدول شعب واحد فی معظم
إقرأ أيضاً:
هل تجُبّ العولمة مفهوم المواطنة؟
تكاثرت الدراسات الرامية إلى تكريس منظورات جديدة لمفهوم المواطنة ذات البعد العالمي، على خلفية أن مفهوم المواطنة كما تم تأسيسه في الفكر والثقافة في العصر الحديث، تآكل بالتدريج، وشرع في الانسحاب لصالح مفهوم جديد نُعت بـ"المواطنة العالمية"، وكأن دعاة هذا الرأي يقولون إنه حان الوقت لإحلال المواطن العالمي محل الإنسان المواطن، بكل ما يترتب عن هذا الانتقال من آثار قانونية وسياسية واجتماعية وثقافية.
أما حجة المنادين بمفهوم المواطنة العالمية، وهم كُثر ومنهم عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس (96 عاما)، فيؤسسون قولهم على مصفوفة من التغيرات البنيوية التي طالت المجتمعات، وتحديدا المجمع الدولي، وفي صدارتها ما تعرضت له الدولة الوطنية وسيادتها، وما شهد العالم من تحديات المناخ والهدرة والأمن السيبراني، علاوة على ما حملت الثورة الرقمية من إمكانيات في مضمار تقليص فجوات التواصل والاتصال بين وحدات الكوكب البشري ومكوناته.
ما زال منطق الدولة الوطنية ذات السيادة بمضمونها المتعارف والمألوف هي الحقيقة التي يتقاسمها الناس ويعيشون في كنفها. بل إن نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة شهدتا عودة مكثفة لمنطق الدولة الوطنية بمظاهرها التاريخية والتقليدية
فالعولمة، من حيث هي انصهار في الاقتصاد والتجارة، ويُراد لها أن تكون أيضا توحدا في القيم والثقافة، دفعت أنصارها في اتجاه التبشير بأن ثمة نظاما حقوقيا عالميا في طور الانبثاق والتشكل، يفك الارتباط بالدولة الوطنية، كما تشكلت في التاريخ منذ معاهدة وستفاليا عام 1648، ليلتحم بالعالم من حيث هو كيان واحد. ومن هنا برز مفهوم "المواطن الكوني"، الذي يستمد حقوقه من إنسانيته لا من جنسيته، أي من انتمائه إلى دولة بعينها، ذات سيادة وحدود قارة وثابتة.
لم تؤكد الوقائع كما يعيشها الناس في حياتهم صحة فرضية الانتقال من المواطن المنتسب إلى رقعة جغرافية بعينها، وحامل جنسية بذاتها، إلى مواطن كوكبي منتسب إلى العالم بحسبه مجالا مفتوحا بلا حدود ثابتة وقارة له.. بل ما زال منطق الدولة الوطنية ذات السيادة بمضمونها المتعارف والمألوف هي الحقيقة التي يتقاسمها الناس ويعيشون في كنفها. بل إن نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة شهدتا عودة مكثفة لمنطق الدولة الوطنية بمظاهرها التاريخية والتقليدية. والحال، أن ثمة اعتبارات كثيرة تفسر صعوبة الانتقال من المواطنة المرتبطة بالدولة والسيادة إلى المواطنة العالمية أو الكوكبية، وهو ما مثّل تحديات نظرية وعملية للرأي القائل بأن بإمكان العولمة أن تجُبّ المواطنة.
هناك على الأقل أربعة معوقات أمام فرضية الانتقال من المواطنة الدولتية (citoyenneté étatique) إلى المواطنة العالمية أو الكوكبية (citoyenneté ^universelle ou plantaire). يتعلق أولها بالسلطة والسيادة، وهما من الخصائص المملوكة للدولة دون سواها من الأشخاص المعنويين، فالسيادة هي التي تميز الدولة وتمنحها القدرة والقوة المادية والرمزية لبسط سلطتها على الجميع، وجعل الكافة معنيين بشرعيتها، الأمر الذي لا نرى نظيرا له على مستوى العالم، حيث لا توجد حكومة فوق الحكومات أو دولة فوق الدول، بل الأكثر من هذا، أصبح العالم خاضعا لمبدأ الاعتماد المتبادل، الذي يعني صعوبة استمرار الدولة، كبُر شأنها أم صغر، منعزلة أو متقوقعة على نفسها، بل هي مجبرة على الترابط والارتباط مع غيها من الدول.
يرتبط العائق الثاني بمقاومة الدول نفسها لمحاولات إضعاف سيادتها أو الدفع بها إلى التخلص من مظاهرها، تحت طائلة أي سبب أو ظرف كان. فالسيادة خط أحمر بالنسبة للدولة، قد تسمح بقدر من المرونة أو التساهل في المحافظة عليها، لكن حتما لا تقدر كما لا تجيز لنفسها التخلي عنها، لأن فقدان الدولة لسيادتها معناه فقدان جوهر وجودها ومشروعية استمرارها. ثم إن التفاوت الحاصل بين الدول على صعيد درجات النمو والتنمية، يُعد عائقا ثالثا أمام فرضية الانتقال من المواطنة المرتبطة بالدولة وجنسيتها إلى المواطنة الكوكبية. فالتوحد في بوتقة واحدة، كما تدعو العولمة إلى ذلك، يشترط نجاحه وتحققه وجود دول وكيانات متقاربة في مراتب النمو والتنمية، والحال أن العالم يشكو من فجوات عميقة بين شماله جنوبه في مجالات التعليم والصحة والفقر ومتطلبات الكرامة الإنسانية.
من الثابت أن العولمة، وإن قطعت أشواطا واضحة في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار، فقد عجزت، وهذا هو العائق الرابع، عن اختراق المجال الثقافي والذهني، على الرغم من الفتوحات التي وفرتها الثورة الرقمية المتنامية بسرعة. فقد عزّ على دعاة العولمة استمالة العقول، وترويض الثقافات، والإجهاز على المخزون الثقافي لعموم المجتمعات التاريخية، بل ما حصل هو ظهور مقاومات متصاعدة تروم التمسك بخصوصياتها الثقافية والتاريخية والتراثية، وقد نجحت مجتمعات عديدة في المحافظة على هوياتها الأصيلة.. بل إن بروز مشكلة الهوية في المجتمعات الأكثر ديمقراطية، أي الأكثر احتراما لمبادئ التعددية والمشاركة وشرعية الاختلاف، دليل على أن المقاومة الثقافية للعولمة مستمرة ومفتوحة على الديمومة.
فما يمكن الانتباه إليه أن حركة العولمة يسّرت شروط تكون مستويات متنوعة من الولاء والانتساب، قد تختلف الدول أو تتفق في ترتيبها وتحديد أولوياتها، دون أن تمحو الولاء الأصلي للدولة ولسلطتها وسيادتها. فهكذا، ولّد استقرار ونجاح الاتحادات الإقليمية نوعا من التراتبية في الولاء، حيث تولدت حقوق لها صلة بهذه الاتحادات، وأصبح في مُكن الناس الاستفادة منها إلى جانب تمتعهم بالحقوق الأصلية لدولهم، كما هو الحال لدى مواطني الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال.
فالخلاصة أن العولمة حركة جارفة ومستمرة، وقوتها لم تصل بعد حدود سيادة الدولة وما يرمز إليها، وفي مقدمتها المواطنة، التي لا ترادف قطعا الجنسية (Nationalité)، بل تتعداها إلى ما هو أشمل وأوسع وأعمق، لأن المواطنة تتحقق حين يتساوى الناس في الحقوق والواجبات، وحين يتولد لدى كل واحد منهم أن له أقرانا متكافئين معه في الانتساب إلى الدولة بحسبها إطارا سياسيا وقانونيا للعيش المشترك، وليس مجرد رقعة جغرافية ليس إلا.