‏«..وفي الضفة الغربية وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم‏، هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي وهو أن يكون لهم موطن مناسب يعترف لهم به‏، فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة رجالًا ونساء وشبابا وأطفالًا تكسيرا للعظام‏، وقتلا بالرصاص‏، وهدما للمنازل‏، وتعذيبا في السجون والمعتقلات‏، ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدد المنطقة بكارثة ما لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل‏.

.‏»

(من كلمة نجيب محفوظ التي ألقاها نيابة عنه محمد سلماوي أثناء مراسم تسلمه جائزة نوبل للآداب عام 1988)

- 1 -

فرضت الأحداث نفسها على وجدان وذهن المرء -مهما حاول الفرار أو التناسي أو التغاضي!- ودون أن يشعر أو يقصد تتداعى على الذاكرة نصوص ظلت متوارية وبعيدة في قعر الذاكرة، لا لعدم أهميتها أو لنقص في قيمتها بل العكس هو الصحيح!

ثمة نصوص نقرأها ونستمتع بها ونحبها حبا جما، ثم نحفظها ونحتفظ بها في أعز مكان في ذاكرتنا في غشاء من المخمل الناعم وإطار مذهب فخم أنيق نضعه بحرص ونلمسه بإكبار حتى يحين موعد الرجوع وتأتي لحظة الاستدعاء!

ويبدو أن الحالة النفسية والشعورية -أو حتى اللا شعورية!- قد تقود إلى نصوص تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر بما يدور حولنا، فيؤثر فينا أو نتأثر به وننفعل انفعالا قد يكون صاخبا أو دفينا لكنه في كل الأحوال يمثل حافزا ودافعا للاختيار والبحث عن روايات بعينها أو نصوص بذاتها!

من بين هذه النصوص التي فرضت حضورها واستدعاءها نص روائي بديع للكاتب والمسرحي والمترجم والروائي المصري محمد سلماوي الذي قدَّم للأدب العربي نصوصًا مسرحية حازت شهرة واهتماما نقديا وجماهيريا في تسعينيات القرن الماضي. من أهمها وأشهرها مسرحية «زهرة والجنزير» (1993) التي عالج فيها مشكلة الإرهاب وممارسة العنف باسم الدين، ويهمنا في هذا السياق مسرحيته المهمة «سالومي» التي صدرت قبل زهرة والجنزير، وتستلهم مأساة يوحنا المعمدان، وتضيف إليها أبعادا سياسية معاصرة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وسوف نعود إليها تفصيلا في حلقة تالية من (مرفأ قراءة)، ثم تأتي مسرحيته «رقصة سالومي الأخيرة» التي استكمل فيها سلماوي أسطورة سالومي، متخيلًا ما يمكن أن يكون قد حدث في التاريخ بعد واقعة قطع رأس يوحنا المعمدان. ولمحمد سلماوي نصوص قصصية قصيرة نشرت في أكثر من مجموعة قصصية، له ومترجمات شتى ودراسات، وأخيرًا نصه الروائي «الخرز الملون» الذي نتحدث عنه اليوم.

- 2 -

قرأت رواية «الخرز الملون» لأول مرة في العام 1996 -وإن كانت صدرت للمرة الأولى قبل هذا التاريخ بست سنوات، حيث نشرت مسلسلة في جريدة «الأهرام» عام 1991- حينما وقعت تحت يدي نسخة منها صادرة عن مشروع مكتبة الأسرة المصرية. نص روائي لا يزيد عدد صفحاته على المائة والستين صفحة تقريبًا -وأرجو أن يسامحني القارئ لو زادت قليلا أو نقصت قليلا فأنا أكتب من الذاكرة، والرواية ليست بين يدي الآن!-

وأذكر جيدًا أنني بمجرد أن شرعت في قراءة الرواية لم أتركها حتى أتممتها في جلسة واحدة! كانت ممتعة ومؤسية للدرجة التي تابعت فيها القراءة، واستغرقت فيها تمامًا دون أن أشعر بالزمن أو ما حولي، فقط أرى وأسمع وأنفعل بما أقرأه من أحداث خصوصًا أنها كانت الرواية الأولى التي أقرأها في ذلك السن المبكر -كان عمري آنذاك خمسة عشر عاما- التي تعرض المأساة الفلسطينية وفواجعها الكبرى، وتعرض مشاهد مؤلمة من وقائع النكبة والتهجير القسري والمذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق الفلسطينيين وإخراجهم عنوة من بيوتهم وقراهم الفلسطينية، ومن ثم بدء رحلة الخروج والشتات والتغريبة الفلسطينية المستمرة حتى اللحظة.

بطلة الرواية فلسطينية أخرجت قسرا مع عائلتها من أرضها بفلسطين، واسمها نسرين خوري وكانت تعمل بالصحافة، وتنتمي لأسرة تعود جذورها إلى ما قبل 48، ومن خلال تتبع مراحل حياتها منذ الميلاد إلى الصبا والشباب والنضج ثم تختتم الرواية بواقعة انتحارها بإلقاء نفسها من أعلى جبل المقطم بالقاهرة، نتابع أيضًا في مسار مواز المفاصل الرئيسية في المأساة الفلسطينية، منذ الأربعينيات وحتى هزيمة يونيو 1967، ثم حرب أكتوبر 73 ومحادثات السلام وانتهاء بتوقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979.

- 3 -

وقد أخبرني مؤلف الرواية، في حوارٍ سابق دار بيننا بمناسبة صدور الجزء الأول من سيرته الذاتية (يوما أو بعض يوم) عام 2017، وقد تطرق الحديث آنذاك إلى روايته «الخرز الملون»، وأنها مستقاة من أحداث حقيقية، فصاحبتها الفلسطينية كانت تربطها به صداقة قوية، وتأثرا بسيرة حياتها والوقائع التي مرت بها والتي توازت مع مسار القضية الفلسطينية منذ النكبة وحتى توقيع اتفاقية السلام في 1979، قرر سلماوي أن يكتب رواية تمزج بين المرجعي والمتخيل، والسرد الحر الذي يوظف تقنيات كتابة الرواية بحرية كاملة، فتكون في وجهٍ من وجوهها رواية خيالية خالصة، تنشأ شخوصها من بنات أفكار مؤلفها دون أن تكون صورة بالكربون من أصولها أو نماذجها الواقعية، كما تكون في وجه آخر أشبه ما يكون برواية تسجيلية "توثيقية".

إنها كما يقول الناقد الراحل علاء الديب "رواية «الخرز الملون» اقتراب فني جريء من قضية العرب التي تهيمن على وجودنا، وهي تضعنا تحت ضوء متجدد يعرينا حتى النخاع".

في أدبنا العربي المعاصر، لدينا نماذج عديدة من الروايات العربية المعاصرة التي وظفت "التوثيق" و"التسجيل التاريخي" المحايد في بنيتها الروائية، من أشهر هذه الأعمال على سبيل المثال رواية «بيروت بيروت» للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، ويمكن أن نضيف لهذا النوع من الروايات أيضًا رواية بهاء طاهر «الحب في المنفى» التي صدرت في عام 1994، وكذلك رواية رضوى عاشور «الطنطورية» التي قدمنا لها قراءة قبل أسبوعين هنا في (مرفأ قراءة).. وهكذا.

- 4 -

مؤلف الخرز الملون وإن كان قد استعان ببعض التواريخ والإحالات المرجعية التاريخية بغرض "التوثيق" لكنه يؤكد أنه لا يستخدم التاريخ ولا ينقله كما هو "إنني فقط نقلت جوهر المأساة التي عاشتها هذه الشخصية. وقد سعدت كثيرا حين قرأت ابنتها الرواية وقالت إن هذه الرواية مختلفة عن الحقيقة من أساسها إلا أنها تشعر أن والدتها لو كانت قد مرت بنفس هذه الأحداث لتصرفت كما وصفتها الرواية تماما".

وبالنسبة للأحداث السياسية التي أحاطت بحياة بطلتها الرئيسية "فهنا يكون الكاتب أقل حرية في تبديل وتغيير الوقائع التاريخية التي مرت علينا، ومن هنا جاء الجانب التسجيلي في هذه الرواية ملتزماً بالأحداث كما وقعت دون أي تبديل أو تعديل وإن كنت أبدي فيها وجهة نظر قد تختلف مع بعض من يؤرخون لهذه الأحداث"، بحسب ما يقول سلماوي.

صدرت الطبعة الأولى من رواية «الخرز الملون» عام 1991 عن دار ألف، ثم صدرت طبعة تالية لها عن دار الشروق (1994) ثم صدرت طبعة مكتبة الأسرة عام (1996) وهي التي قرأناها واعتمدنا عليها، ولا أعلم إن كانت صدرت طبعات أخرى لها منذ ذلك التاريخ أم لا. وإن كانت هناك إشارات ببليوجرافية تفيد بأنها ترجمت إلى الفرنسية عام 2009 وصدرت في باريس عن دار نشر تسمى "أرتشيبل" تحت عنوان «خرزات الغضب»..

(وللحديث بقية)

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

العثور على جثة الطفلة الجزائرية المفقودة مروة.. جريمة بشعة

أنهت السلطات الجزائرية حالة الغموض التي أحاطت باختفاء الطفلة مروة بوغاشيش، البالغة من العمر 13 عاماً، والتي أثارت قضيتها اهتماما واسعا في البلاد منذ اختفائها قبل أكثر من شهر.

فقد غادرت مروة منزلها في 22 أيار/ مايو الماضي متوجهة إلى مدرستها في قسنطينة لتقديم آخر امتحانات الصف الثاني المتوسط، لكنها لم تعد إلى بيتها.

وأظهرت تسجيلات كاميرات المراقبة خروجها من المدرسة برفقة صديقتين، لتختفي بعدها دون أي أثر.



القضية أثارت موجة تعاطف شعبي واسعة، وانتشرت حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم "#كلنا_مروة"، رافقها نشر صور ومعلومات عنها، وعرض مكافآت مالية لمن يُدلي بأي معلومة تساعد في العثور عليها.

وبينما أصر أهلها على أنها اختُطفت، انتشرت شائعات مضادة عبر بعض الحسابات تشير إلى احتمال هروبها، وهو ما نفاه والدها بشدة، مؤكداً أن ابنته كانت متفوقة في دراستها، وتعيش حياة أسرية مستقرة، دون أي مؤشرات على وجود دافع للهروب.

وبعد أسابيع من البحث، أعلنت السلطات العثور على جثة طفلة مجهولة في غابة "جبل الوحش" بمدينة قسنطينة، في حالة تحلل متقدمة.

ورغم عدم إعلان الهوية فوراً، نقلت وسائل إعلام محلية أن الجثة كانت "مقطعة الأطراف"، ما زاد من فظاعة القضية وغموضها. وتم أخذ عينات من الجثة لتحليل الحمض النووي بهدف التأكد من هوية الضحية.

وفي 29 يونيو/حزيران، أكد وكيل الجمهورية لدى محكمة قسنطينة أن نتائج تحاليل الحمض النووي أثبتت تطابقها مع عينة الطفلة مروة بوغاشيش، مشيراً إلى أن التحقيقات لا تزال جارية تحت إشراف النيابة العامة لكشف ملابسات الجريمة والمتورطين فيها.

مقالات مشابهة

  • “سنوات سبع”: عزلة طفل تتحول إلى رحلة صراع ونضوج في رواية جديدة لعمرو نبيل
  • مصر.. العثور على مدينة ” إيمت ” المفقودة
  • الداخلية تؤشر على توقيف منتخبين صدرت في حقهم أحكام قضائية
  • وكيل الأزهر: ختم "شرح علل الترمذي "دليل على عناية الأزهر بالسنة رواية ودراية
  • وكيل الأزهر: ختم «شرح علل الترمذي» دليل على عناية الأزهر بالسنة رواية ودراية
  • العثور على جثة الطفلة الجزائرية المفقودة مروة.. جريمة بشعة
  • فرنسا تواصل انسحابها من ثاني دولة بالعالم وتسلم قواعدها العسكرية التي كانت تستخدمها
  • مرافئ سوريا تقضم دور مرفأ بيروت والتأخير سيقضي على وظيفة لبنان الاقتصادية
  • بالأرقام.. أكثر من 190 ألف تأشيرة عمرة صدرت منذ بداية موسم 1447
  • بدء تحميل 14 ألف طن من الفوسفات السوري للتصدير إلى مصر عبر مرفأ طرطوس