???? إذا كان حميدتي بصدد التنازل عن أبيي لفرانسيس دينق فقد سبقه أشاوس معارضة الإنقاذ إلى هذا
تاريخ النشر: 17th, January 2024 GMT
استاء القوم مما ذاع عن تنازل السودان، متى دان للدعم السريع، عن أبيي إثر لقاء رشح عن المنظر فرانسيس دينق وحميدتي. ولكن وجب التذكير بأن حميدتي مسبوق إلى هذا. فكانت معارضة الإنقاذ (التي خرجت قحت وتقدم والجذرية والمسلحون من رحمها كما يفضلون التعبير) قد فرغت من التنازل عن أبيي وتسليمها صرة في خيط لدولة جنوب السودان.
وكتبت في أيامها أعرض لقلمي منصور خالد وعمر القراي (الذي لا يقرأ) اللذين نشطا في حملة تجريد المسيرية من الحق في منطقة أببي إلا كرعاة عابرين للحدود الدولية لجنوب السودان لهم الكلأ والماء ومحل ما تمسى. فإلى المقال القديم الأول
كنت أخشى دائماً أن يصبح تبخسينا ل”العقل البدوي” (لذي تعتقد صفوة الرأي أنه من وراء خيباتنا الكبرى) سبباً لخرق حقوق الجماعات الرحالة بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وقد سبق لي القول إن ما عقّد قضية المسيرية في أبيي، التي تقف الآن كعقبة كؤود في طريق السلم السوداني، إلا ظننا أنهم شعب سيًّار “محل ما تمسى ترسى”. فلا يتواشج المسيري مع الأرض معاشاً ووجداناً ومعاداً. فهو “هائم” (roaming) بأرض الله الواسعة. أي أنه في “سواجي ولواجي” في عبارة شايقية. فحتى المؤتمر الوطني، الذي يظن الناس أنه الذي يحرض المسيرية على حق مزعوم بأبيي، باعهم بعد أن حصل من تحكيم لاهاي على بعض حقول النقط بينما خسر المسيرية الأرض. وقال الدرديري محمد أحمد، ممثل الحكومة بلاهاي، إنه يعتقد أن التحكيم جاء نصراً للحكومة.
الاستخفاف بذوق البدوي للأرض وارتباطه بها وحيله لتأمينها فاش. فآخر ما انتهت إليه أحزاب المعارضة بشأن الحقوق في أبيي هو طلبها من أمريكا أن ترفع يدها عن المسألة وأن تترك للدينكا والمسيرية ترتيب تلك الحقوق بالسوية. وهذا هرب للأمام من المعارضة وتنصل عن دراسة تلك الحقوق بصورة مسؤولة لتستقل برأي يعين المسيرية والدينكا معاً على التسوية. وددت مثلاً لو جاءت المعارضة برأي مدروس حول شرط “الإقامة” للتصويت في استفتاء أبيي. فالأمريكان، الذين طلبت المعارضة منهم ترك المسيرية والدينكا لحالهم، حاولوا مراراً وتكراراً تعريف تلك الإقامة بما يقرب من وجهات نظر أطراف النزاع.
ويمكن بالطبع لجهات أخرى أن تدلو بدلوها في الموضوع وتلقى القبول و”ترفف” الأمريكان الذين “دنا إبعادهم”. فالتصويت في الاستفتاء لن ينعقد بدون تحديد لشرط “الإقامة” مقبول للأطراف مهما طال السفر. من جهة أخرى، يكشف رهن المعارضة حل مسألة أبيي بالأطراف “القبلية” المعروفة عن قصور كبير في بروزة الصراع حول أبيي في السياق القومي. وكشفت رسالة للماجستير كتبها عبد الوهاب عبد الرحمن (1982) عن كيف تواثقت الأطراف القبلية مع القوى القومية والحكومية منذ منتصف الستينات وتحالفتا مما يجعل حل النزاع القبلي بعيداً عن تلك القوى المركزية والإقليمية أمراً بعيد الاحتمال. فقد فرضت المسيرية مرتين على حكومة الخرطوم ألا تقبل بتقرير الخبراء ولا تحكيم لاهاي.
ولعل أوضح صور التحامل على المسيرية من جهة أسلوب حياتهم اختصار مطلبهم في “حق الرعي” في الأرض دون حق التملك. فكانت مساومة الأمريكان للمسيرية في طور من الأطوار أن تجعل ذلك “الحق” جاذباً. بمعني أنها وعدتهم بتطوير المراعي والخدمات في دارهم بما ينسيهم أبيي “وسقطها”. ولم يقبل المسيرية بهذه “الجزرة” الأمريكية.
ويقصر منصور خالد أيضاً مطلب المسيرية على حق الرعي دون المواطنة. فهو يعيد علينا نص بروتكول أبيي (2004) الذي «يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون (فيه) بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». وقال إن الحركة الشعبية رعت هذا الحق في أوقات الحرب فكيف تصد عنه في وقت السلم. ومنطق منصور هنا كالعادة فاسد. فقوله إن الحركة رعت حق المسيرية في الرعي وقت الحرب فما بالك في وقت السلم بلاغي لا غير. فالمقارنة في وضعنا الراهن لا تكون بين وقت حرب ووقت سلم كما ذهب منصور، بل بين وقت كان فيه السودان واحداً وقبل به المسيرية بخيره وشره ووقت سيتفرق فيه السودان. ومتى تفرق ربما صارت أبيي، التي للمسيرية حجة حسنة على تملكها، إقليماً في الجنوب. ولهذا يصر المسيرية على التصويت في الاستفتاء كمواطنين (لا مجرد مستخدمين للأرض) لترجيح بقاء أبيي في دولتهم. فليس بوسع منصور نفسه تأمين حقوق جماعة بادية في بلد آخر على علو كعبه في دولة الحركة الشعبية.
ونواصل غداً عرض بقية منطق منصور ونعرج على رأي سقيم آخر لعمر القراي.
كنت أخشى دائماً أن يصبح تبخسينا ل”العقل البدوي” (لذي تعتقد صفوة الرأي أنه من وراء خيباتنا الكبرى) سبباً لخرق حقوق الجماعات الرحالة بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وقد سبق لي القول إن ما عقّد قضية المسيرية في أبيي، التي تقف الآن كعقبة كؤود في طريق السلم السوداني، إلا ظننا أنهم شعب سيًّار “محل ما تمسى ترسى”. فلا يتواشج المسيري مع الأرض معاشاً ووجداناً ومعاداً. فهو “هائم” (roaming) بأرض الله الواسعة. أي أنه في “سواجي ولواجي” في عبارة شايقية. فحتى المؤتمر الوطني، الذي يظن الناس أنه الذي يحرض المسيرية على حق مزعوم بأبيي، باعهم بعد أن حصل من تحكيم لاهاي على بعض حقول النقط بينما خسر المسيرية الأرض. وقال الدرديري محمد أحمد، ممثل الحكومة بلاهاي، إنه يعتقد أن التحكيم جاء نصراً للحكومة.
الاستخفاف بذوق البدوي للأرض وارتباطه بها وحيله لتأمينها فاش. فآخر ما انتهت إليه أحزاب المعارضة بشأن الحقوق في أبيي هو طلبها من أمريكا أن ترفع يدها عن المسألة وأن تترك للدينكا والمسيرية ترتيب تلك الحقوق بالسوية. وهذا هرب للأمام من المعارضة وتنصل عن دراسة تلك الحقوق بصورة مسؤولة لتستقل برأي يعين المسيرية والدينكا معاً على التسوية. وددت مثلاً لو جاءت المعارضة برأي مدروس حول شرط “الإقامة” للتصويت في استفتاء أبيي. فالأمريكان، الذين طلبت المعارضة منهم ترك المسيرية والدينكا لحالهم، حاولوا مراراً وتكراراً تعريف تلك الإقامة بما يقرب من وجهات نظر أطراف النزاع.
ويمكن بالطبع لجهات أخرى أن تدلو بدلوها في الموضوع وتلقى القبول و”ترفف” الأمريكان الذين “دنا إبعادهم”. فالتصويت في الاستفتاء لن ينعقد بدون تحديد لشرط “الإقامة” مقبول للأطراف مهما طال السفر. من جهة أخرى، يكشف رهن المعارضة حل مسألة أبيي بالأطراف “القبلية” المعروفة عن قصور كبير في بروزة الصراع حول أبيي في السياق القومي. وكشفت رسالة للماجستير كتبها عبد الوهاب عبد الرحمن (1982) عن كيف تواثقت الأطراف القبلية مع القوى القومية والحكومية منذ منتصف الستينات وتحالفتا مما يجعل حل النزاع القبلي بعيداً عن تلك القوى المركزية والإقليمية أمراً بعيد الاحتمال. فقد فرضت المسيرية مرتين على حكومة الخرطوم ألا تقبل بتقرير الخبراء ولا تحكيم لاهاي.
ولعل أوضح صور التحامل على المسيرية من جهة أسلوب حياتهم اختصار مطلبهم في “حق الرعي” في الأرض دون حق التملك. فكانت مساومة الأمريكان للمسيرية في طور من الأطوار أن تجعل ذلك “الحق” جاذباً. بمعني أنها وعدتهم بتطوير المراعي والخدمات في دارهم بما ينسيهم أبيي “وسقطها”. ولم يقبل المسيرية بهذه “الجزرة” الأمريكية.
ويقصر منصور خالد أيضاً مطلب المسيرية على حق الرعي دون المواطنة. فهو يعيد علينا نص بروتكول أبيي (2004) الذي «يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون (فيه) بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». وقال إن الحركة الشعبية رعت هذا الحق في أوقات الحرب فكيف تصد عنه في وقت السلم. ومنطق منصور هنا كالعادة فاسد. فقوله إن الحركة رعت حق المسيرية في الرعي وقت الحرب فما بالك في وقت السلم بلاغي لا غير. فالمقارنة في وضعنا الراهن لا تكون بين وقت حرب ووقت سلم كما ذهب منصور، بل بين وقت كان فيه السودان واحداً وقبل به المسيرية بخيره وشره ووقت سيتفرق فيه السودان. ومتى تفرق ربما صارت أبيي، التي للمسيرية حجة حسنة على تملكها، إقليماً في الجنوب. ولهذا يصر المسيرية على التصويت في الاستفتاء كمواطنين (لا مجرد مستخدمين للأرض) لترجيح بقاء أبيي في دولتهم. فليس بوسع منصور نفسه تأمين حقوق جماعة بادية في بلد آخر على علو كعبه في دولة الحركة الشعبية.
ونواصل غداً عرض بقية منطق منصور ونعرج على رأي سقيم آخر لعمر القراي.
أخرجت البادية اثقالها وقالت الصفوة مالها
إذا كان حميدتي بصدد التنازل عن أبيي لفرانسيس دينق فقد سبقه أشاوس معارضة الإنقاذ إلى هذا (2-3)
عبد الله علي إبراهيم
استاء القوم مما ذاع عن تنازل السودان، متى دان للدعم السريع، عن أبيي إثر لقاء رشح عن المنظر فرانسيس دينق وحميدتي. ولكن وجب التذكير بأن حميدتي مسبوق إلى هذا. فكانت معارضة الإنقاذ (التي خرجت قحت وتقدم والجذرية والمسلحون من رحمها كما يفضلون التعبير) قد فرغت من التنازل عن أبيي وتسليمها صرة في خيط لدولة جنوب السودان. وطعنت في مطلب شعب المسيرية البقارة بحقها في تملك أبيي لأن “الساير عطية”، في لغة اليوم، مثل المسيرية لا حق له في أرض هي ل”المقيم” حيماد”، أو شعب الدينكا نيقوكك. وعليه تناصرت دوائر من معارضي الإنقاذ لمنع المسيرية من أن تكون طرفاً في الاستفتاء حول أبيي ولمن تكون: للسودان أم لجنوب السودان. وأكثر تحامل سلف قحت وتقدم اليوم على المسيرية هو غيظ معارضة لا علماً: فكيف الكيف تتحالف المسيرية مع الكيزان في الإنقاذ (قبل أن يكونوا فلولاً) بل وقبلها مع الإمام الصادق المهدي خلال دولته بعد ثورة إبريل 1985 في المراحيل ضد قرة عينهم الجيش الشعبي لتحرير السودان (ويا يا).
وكتبت في أيامها أعرض لقلمي منصور خالد وعمر القراي (الذي لا يقرأ) اللذين نشطا في حملة تجريد المسيرية من الحق في منطقة أببي إلا كرعاة لهم الكلأ والماء ومحل ما تمسى. فإلى المقال القديم الثاني.
3-أبيي: مواطنون لا رعاة
تسفر الصفوة اليسارية أو المعارضة لنظام الإنقاذ عن خبيئتين متى ما عالجت حق شعب المسيرية في التصويت في استفتاء أبيي الموعود. بالخبيئة الأولى يسترجعون احتجاجهم القديم على ما يصفونه بضلوع المسيرية مع الإنقاذ (وحكومة السيد الصادق قبله) في حرب الحركة الشعبية. فيقول منصور خالد إن المسيرية هي من قبائل الشمال التي “وجدت نفسها في أتون حرب لم تشنها إبتداء ولم تَجنِ فائدة منها في النهاية”. ولا أعرف إن كان في عرف المواطنة والديمقراطية مصادرة حق التصويت من ذلك الذي يشن حرباً بالوكالة ولم يجن فائدة. فلو صح هذا العرف لطوينا وستمنستر في بريطانيا طي السجل لأن توني بلير حمل بريطانيا على شن حرب على العراق بالإيعاز ولم تجن فائدة.
ويمت قول منصور عن استخدام المسيرية وفشلها إلى ما وصفته في حواري مع بلدو وعشاري مؤلفيّ كتاب “مذبحة الضعين” (1987) ب “تخليب” قبائل التداخل العربية في حدود الجنوب. فقد أخذت عليهم نظرهم لتلك القبائل كمجرد “مخلب قط” في حربها الحركة الشعبية. وهو مفهوم يُفرغ القوام العربي في منطقة التمازج من كل هوية أو مطلب “أناني ذاتي” في المراعي، ويجعله “جنجويداً” خالصاً للحكومة. وتستنكر الصفوة اليسارية والمعارضة إدخال الحكومة لتلك الجماعات في دورة حربها لجيش الحركة الشعبية ويغضون الطرف عن إدخال جيش التحرير للدينكا في دورة حربه للحكومة. وصحيح الأمر أنه لا المسيرية ولا الدينكا مجرد مخلب قط. إنهم حلفاء للأطراف لا أجراء.
وأوضح ما تكون خبيئة التخليب على المسيرية عند عمر القراي. فيتفق مع المٌخلبين بقوله إنه “ومع بداية انتصارات الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، بدأت حكومة الشمال بقيادة السيد الصادق المهدي، تسليح المسيرية، بغرض استخدامهم، لوقف الجيش الشعبي لتحرير السودان من أن يزحف شمالاً.” ولم يكتف بوصف المسيرية بالمخلبين، بل بالجبن. فقال إنه كانت مراحيل المسيرية تنتهز غياب شباب الدينكا في جبهات الحرب الأخرى لتهاجم كبار الدينكا وصغارهم ونسائهم وتتسراهم. هذا عن تخليب المسيرية. ولكنه من الجهة الأخرى يذكر بالزهو والامتنان كتيبة دينكا نقوك كأحدي أولى الفصائل التي قادت حركة الثورة في بداية الحرب الأهلية الثانية (1983-2005م). وهذا هو السبب، بحسب القراي، لتميز أبناء النقوك في قيادة الحركة. ما الذي يجعل هذه قدماً وتلك كراعاً يا دكتور القراي؟
أما الخبيئة الثانية فهي محض حزازة أولاد بندر لا يستمزجون مسألة البادية ويعتقدون أنها من خوالف التاريخ وعار الحداثة. والمسيرية والدينكا سواء في بؤس ظن الصفوة بهم لاشتراكهم في أسلوب للحياة خالف وبدائي. ولولا أن الدينكا نقوك “اتحاوا” في طرف الحركة الشعبية ما أعارتهم صفوة الحداثة نظرة. فحق المسيرية في أبيي عند الصفوة الحداثية المعارضة قاصر على رعي بهائمهم (أو تفسيحها في النكتة القديمة) فقط. وللتأكيد على كفالة حق الرعي للمسيرية عقد منصور مقارنة بين رعاة المسيرية والرعاة عابري الحدود في أفريقيا بعامة. وقد صار الأخيرون، كما قال، موضوعاً لاهتمام الاتحاد الأفريقي الذي ظل يعقد الندوات لتأمين حقوق هذه الجماعات البادية التي لا تُلقي بالاً للحدود الوطنية. ولعل المثال الأقرب لهذه الجماعات هم شعب الأمبرور. وهذه مقارنة عرجاء جداً. فقد نسي منصور أن المسيرية ليست بعابرة لحدود ليست هي طرفاً فيها بالمواطنة ابتداء. فهي ليست مجرد مستخدم عابر للأرض ممن تتبرع الحركة الشعبية أو الاتحاد الأفريقي له بضمان حقوقه في الرعي. فالمسيرية في الاستفتاء القادم في أبيي مواطنون . . لا رعاة.
ونختم غداً بالتعليق على كلمة جاهلة أخرى للقراي.
عبد الله علي إبراهيم
عبد الله علي ابراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحرکة الشعبیة لتحریر السودان على المسیریة فی وقت السلم فیه السودان منصور خالد تلک الحقوق إن الحرکة فی أبیی بین وقت أبیی فی الحق فی إلى هذا من جهة
إقرأ أيضاً:
إلى أين تسير تونس بين الجبهة الديمقراطية والتوافق 2 وبين تصحيح المسار؟
لفهم الوضع التونسي بعد "تصحيح المسار" ونجاحه في إعادة هندسة المشهد السياسي بصورة جذرية سيكون من السهل أن نقول -مثل أغلب الأصوات المعارضة- بأن مشروع الرئيس الذي يرفع شعار "لا عودة إلى الوراء" ليس في الحقيقة إلا ارتكاسة نسقية إلى الوراء، المتمثل في لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية، مع اختلافين رئيسين في مستوى نمط "الشرعية" وفي مستوى انتفاء الحاجة إلى "حزبٍ حاكم". ولكننا نرى أن هذا الطرح رغم دوره الفعّال في أو تحشيد خصوم الرئيس، هو ضرب من الاختزال الذي لا يكتسب قدرته "التفسيرية" جزئيا إلا بالقفز على سؤالين جوهريين سيحرجان "المعارضة" بكل أطيافها: لماذا نجح "الرئيس" في مشروعه؛ رغم مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته التي طالما تغنى بها أغلب الخاسرين من "تصحيح المسار" واعتبروها مكاسب غير قابلة للنقض؟ وإذا ما سلّمنا بالطابع الوظيفي للسلطة الحالية (علاقة التعامد الوظيفي بينها وبين منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين، وخاصةً علاقتها بمحور الثورات المضادة)، فما تأثير ذلك في العلاقات البينية داخل أطياف المعارضة -بشكليها الراديكالي والمساند النقدي للسلطة- حتى بعد أن تبيّن لها أن هذه السلطة تشتغل بمنطق البديل للجميع، وليس بمنطق الشراكة مع أي طرف منهم -خاصة أولئك المنتمين لما يُسمى بـ"العائلة الديمقراطية"- بحكم سرديتها السياسية ذاتها القائمة على مركزة السلطة وانتهاء الحاجة للأجسام الوسيطة ودورها المعروف في الديمقراطية التمثيلية؟
إن الإجابة الموضوعية عن هذين السؤالين -أو على الأقل الإجابة الأكثر تخففا من الانحيازات التأكيدية- ستكون حسب رأينا هي الأقدر على فهم الوضع الحالي، وعلى بناء قراءة استشرافية له. وهي إجابة غير ممكنة إلا بالخروج من ضيق الاستفهام المجازي (أي السؤال الذي ينطلق بكل صيغه من معرفة مسبقة بالجواب أو لا يطلب الجواب أصلا) إلى سعة الاستفهام الحقيقي، أي ذلك السؤال الذي يطلب المعرفة ويقرّ بالجهل، فيتحول بالتالي إلى آلية من آليات تعديل نسق الذات الفردية أو الجماعية وتغيير مواقفها تجاه من يشبهونها ومن يختلفون عنها جزئيا أو جذريا.
التجاوز الجدلي للخلافات البينية داخل المعارضة والقدرة على تذويب خلافاتها أو تحييدها مرحليا ما زال أفقا أقرب إلى الاستحالة منه إلى الإمكان على الأقل في المدى المنظور
وإذا ما نظرنا إلى واقع المعارضة التونسية الآن-وهنا، فإننا لن نتردد في القول بأنها ما زالت غير واعية بأن محصول سؤالها الفرعي أو المشتق (ما العمل للخروج من الوضع الحالي؟) مرتبط شرطيا بسؤال أصلي لا يبدو أن الإجابات عنه إلى حد هذه اللحظة قد تجاوزت منطق الانحياز التأكيدي أو الاستفهام المجازي (ما الذي حصل منذ الثورة، وما هو دورنا الحقيقي فيه بعيدا عن المزايدات والاداعاءات الذاتية، وبعيدا عن شيطنة السلطة وسرديتها السياسية وكأنهما "طفرة" وليستا نتيجة مسار انتقالي مأزوم بنيويا؟).
رغم أننا لا ننكر وجود نوع من الخلخلة الجزئية في السرديات السياسية المرتبطة باستراتيجتي الاستئصال الناعم والاستئصال الصلب من جهة أولى، وباستراتيجية التوافق "اللاّ مشروط" مع المنظومة القديمة من جهة ثانية، فإننا لا نملك ذلك التفاؤل الذي يحكم العديد من الشخصيات العامة في الحقل السياسي وفي وسائل التواصل الاجتماعي. فوجود بعض الأصوات الناقدة للصراع الهوياتي ضد الإسلاميين ودوره في إفشال الانتقال الديمقراطي وبناء مشترك مواطني، وكذلك وجود بعض الأصوات النهضوية أو القريبة منها والمنتقدة للتوافق 1 مع حركة نداء تونس ومِن ورائه المنظومة القديمة، كل ذلك لا يعني أن بنية العقل السياسي في الجهتين قد تغيرت، خاصة إذا ما استحضرنا أنّ "مركز القرار" فيهما ما زال بعيدا عن التماهي مع تلك الأصوات المعزولة وذات التأثير المحدود. وهو ما يعني أنّ التجاوز الجدلي للخلافات البينية داخل المعارضة والقدرة على تذويب خلافاتها أو تحييدها مرحليا ما زال أفقا أقرب إلى الاستحالة منه إلى الإمكان على الأقل في المدى المنظور. ولو استعرنا مصطلحا كلاميا تراثيا لقلنا مع المعتزلي النظّام إننا في النواة الصلبة للمعسكرين معا (معسكر العائلة "الحداثية" أو "التقدمية" أو "الديمقراطية" ومعسكر "التوافق" وما يدور في فلكه) أمام "حركة اعتماد"، أي حركة الجسم في محلّه.
إذا ما أردنا أن نفهم الدلالة السياسية العميقة لـ"حركة الاعتماد"، فإن علينا أن نطرح السؤالين التاليين باستلهام الفيلسوف الفرنسي روسو باعتباره أحد آباء "التنوير" ومن المنظرين الكبار لقاعدة "الإرادة العامة": أولا، هل خرجت "العائلة الديمقراطية" من منطق الإقصاء النسقي للنهضة إلى دائرة الاعتراف المبدئي بحقها في تمثيل جزء من "الإرادة العامة" (باعتبارها مجموع اختلافات الإرادات الخاصة، وباعتبارها لا تمثل مجموعة هويات وتمثل "البحث عن عمومية تتضمن الاختلافات")؟ وهل تجاوزت دعاوى تمثيل "إرادة الجميع" وحاولت أن تمارس الفعل السياسي في إطار "صمت الأهواء"، تلك الأهواء المؤسسة للاستعلاء المعرفي والسياسي والمكرّسة لمنطق الصراع الوجودي؟ (انظر كتاب روح الأنوار لتزفيتان تودوروف لفهم كيف أصبح خطاب "التنوير" نفسه انقلابا على روح التنوير وتحويل وجهة لقيمه داخل الفضاء الأوروبي، ومن باب أولى داخل السرديات التابعة أو "المُتونسة" لتلك القيم). ثانيا، هل يوجد لدى النهضة خيار حقيقي يتجاوز التوافق مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة والتطبيع مع أذرعها الوظيفية في إطار "تنازلات مؤلمة" مستأنفة، أي في سياق موازين قوى لا تمتلك النهضة القدرة على تعديلها بصورة "منصفة" لوزنها الانتخابي وعمقها الشعبي؟
لقد حرصت الآلة الدعائية للمنظومة القديمة خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي على ربط خيار "التوافق" بحركة النهضة. وهي استراتيجية اتصالية فعّالة نجحت في جعل النهضويين أنفسهم- بل حتى أغلب المشتغلين بالشأن العام- يختزلون التوافق في خيارات النهضة دون سواها. وإذا ما حاولنا التحرر من استراتيجيات التزييف والدمغجة فإننا سنجد أن التوافق كان خيار جميع الفاعلين منذ المرحلة التأسيسية. فماذا يمكن أن نسمّي مخرجات "الدستور" والهيئات الدستورية وغير الدستورية إذا لم تكن مخرجات "توافقية"؟ وماذا نسمي" الجبهة الشعبية" إذا لم تكن هوية توافقية"؟ بل كيف نسمي "العائلة الديمقراطية" إذا لم تكن توافقا على أرضية اللائكية وعلى التعارض الوجودي مع حركة النهضة والتطبيع مع ورثة المنظومة القديمة؟ وماذا نسمي خيار "الانتخاب المفيد" لمرشح "التجمعيين الجدد" المرحوم الباجي قائد السبسي؟ وماذا نسمي الحزام البرلماني للرئيس الذي دفع نحو تعفين المشهد البرلماني والساسي في إطار "توافقات" علنية وضمنية مع قصر قرطاج؟ وماذا نسمي احتفاء أغلب "الديمقراطيين" بإجراءات "تصحيح المسار" إذا لم تكن انتظارا لتوافقات جديدة مع السلطة بشرط إقصاء حركة النهضة؟ وأخيرا كيف يمكن فهم "تصحيح المسار" ذاته إذا لم يكن في جوهره "توافقا" بين مشروع الرئيس وبين حاجة النواة الصلبة للمنظومة القديمة ورعاتها الإقليميين والدوليين؛ على إغلاق فاصلة "الربيع العربي" -أي إمكانية الحكم المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين- في دولته الأم؟
لن نجانب الصواب إذا ما سلّمنا بمنطق القائلين بأن "تصحيح المسار" لا يختلف عن التوافقات السابقة في النوع بل في الدرجة: التوافقات السابقة كانت تحتاج إلى أكثر من "شريك" بحكم منطق الديمقراطية التمثيلية" وتعدد الأجسام الوسيطة ومراكز القوى -المسنودة شعبيا- ولكن التوافق الحالي لا يحتاج إلا لشريك واحد وفره "تصحيح المسار" وجعله يستغني عن الأحزاب وباقي الأجسام الوسيطة إما باستهدافها أو بإضعافها وتحييدها
منذ المرحلة التأسيسية، كانت تونس في الحقيقة أمام توافقات تتحرك في اتجاهات مختلفة ولغايات متناقضة، ولكنها جميعا لا تستغني عن "المنظومة القديمة" ونواتها الصلبة. وهو واقع يجب استحضاره لفهم هشاشة الانتقال الديمقراطي ومخرجاتها "المُمأسسة"، بل لفهم نجاح "تصحيح المسار" باعتباره التوافق الأمثل في السياق الإقليمي والدولي الراهن. ولذلك لن نجانب الصواب إذا ما سلّمنا بمنطق القائلين بأن "تصحيح المسار" لا يختلف عن التوافقات السابقة في النوع بل في الدرجة: التوافقات السابقة كانت تحتاج إلى أكثر من "شريك" بحكم منطق الديمقراطية التمثيلية" وتعدد الأجسام الوسيطة ومراكز القوى -المسنودة شعبيا- ولكن التوافق الحالي لا يحتاج إلا لشريك واحد وفره "تصحيح المسار" وجعله يستغني عن الأحزاب وباقي الأجسام الوسيطة إما باستهدافها أو بإضعافها وتحييدها.
ولا شك عندنا في أن "الجبهة الديمقراطية" (أي التوافق على أساس إقصاء النهضة، أي تفعيل منطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي بصورة ضمنية)، و"التوافق 2" (أي التوافق على أساس تعديل شروط المنظومة القديمة بصورة سطحية تسمح بوجود النهضة شريكا أقليا داخل الحقل السياسي القانوني، وخارج المقاربة الأمنية-القضائية للصراع الأيديولوجي) ليسا في النهاية أقدر على تعديل موازين القوة مع السلطة من استراتيجية الاستئصال الصلب التي ما زالت تعتمدها الكثير من أطياف المعارضة "التجمعية الجديدة" (بقيادة الحزب الدستوري الحر) وبعض الفصائل اليسارية والقومية (مثل الوطد الموحد والتيار الشعبي). فكل هذه السرديات لا تمثل بديلا مقنعا لعموم المواطنين ولا تطرح أيضا أي بديل جماعي يتجاوز العودة إلى مربع ما قبل 25 تموز/ يوليو 2021.
وإذا كان "التوافق" شرطا ضروريا لحكم تونس ولبناء حقل السياسي طبيعي، فإن الإشكال ليس في التوافق في ذاته، بل في ارتهانه لمنظومة الاستعمار الداخلي، وبالتالي في نبذه لأي توافق ضد تلك المنظومة. وهي حقيقة تصرّ كل القوى السياسية على الرمي بها داخل دائرة "اللا مفكر فيه" أو المقموع في سردياتها، ولكنها حقيقة تجعل أي تغير في واجهة السلطة أمرا ثانويا لا تحدده المعارضة بقدر ما تفرضه النواة الصلبة للمنظومة القديمة حسب احتياجاتها السياقية، وحسب المعادلات الإقليمية والدولية المؤثّرة في صناعة القرار السيادي التونسي.
x.com/adel_arabi21