يتابع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق منوشهر متكي تحركاته عربيا ودوليا دعما للمقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية، مستفيدا من شبكة العلاقات التي كسبها عندما كان طالبا وباحثا في الهند وسفيرا لبلاده في اليابان في عهد الرئيس "الإصلاحي" والمثقف محمد خاتمي ثم وزيرا للخارجية ما بين 2005 و2010 في عهد الرئيس المحافظ أحمدي نجاد بعد أن ترأس الحملة الانتخابية لمنافسه رئيس البرلمان "المحافظ البراغماتي" علي لاريجاني.



على هامش زيارة منوشهر متكي مؤخرا إلى تونس حيث شارك في  تظاهرات ثقافية وإعلامية داعمة للمقاومة الفلسطينية واللبنانية التقاه الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس وأجرى معه الحوار التالي لـ "عربي21":



س ـ أولا كيف ينظر الديبلوماسي والسياسي المخضرم منوشهر متكي إلى التعقيدات الحالية التي بدأت في فلسطين المحتلة وتوسعت لتشمل لبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران والباكستان وكامل المنطقة وانخرطت فيها واشنطن ودول من الحلف الأطلسي؟ هل تسير الأوضاع نحو تصعيد أخطر وحرب واسعة بين إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما من جهة والمقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية وايران وكل حلفائها من جهة ثانية؟

 ـ الصراع بين قوات الاحتلال وحركات المقاومة لم يبدأ مع حراك "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر2023، ولكن قبل عشرات السنين.

 الأسباب العميقة للحرب الحالية في فلسطين ومحيطها تناقض المواقف والأهداف والأولويات بين مشروع احتلال وإرادة شعوب تكافح من أجل التحرر الوطني والاستقلال .

تلقى سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود دعما ماليا وعسكريا ضخما من أمريكا وحلفائها. وكانت منذ عشرات السنين تتهم المقاومة الوطنية بـ "العنف والإرهاب" عندما كانت منظمات الكفاح الوطني يسارية وعلمانية وليبيرالية وقومية. وتجدد إطلاق نفس الاتهامات عندما أصبحت ابرز قوى المقاومة وطنية إسلامية وتقدمية تتزعمها قيادات حركات حماس والجهاد وحزب الله ..

وبالنسبة لإيران فالموقف كان دوما واضحا، منذ انتصار ثورتها الشعبية الإسلامية في 1979 عندما قررت قيادتها بزعامة آية الله الخميني غلق "السفارة الإسرائيلية" الضخمة في طهران وتسليم نفس المقر لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات ورفاقه.

ومنذ ذلك التاريخ انفتحت إيران على كل قوى المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية بصرف النظر عن مواقفها الفكرية اليسارية والقومية والإسلامية.. وسواء كانت سنية أو شيعية أو علمانية أو ليبيرالية  ..

حروب بالوكالة؟

س ـ هناك من يعتبر أن إيران تدعم الحوثيين وحماس والجهاد وحزب الله وفصائل عراقية وسورية لتخوض "حربا بالوكالة" نيابة عنها مع إسرائيل وأمريكا وحلفائهما ..ما صوابية ذلك؟

 ـ إيران الثورة قررت منذ عهد الإمام الخميني رحمه الله أن لا تعوض حركات المقاومة للاحتلال في مهمتها وأن لا ترسل قوات إيرانية.. وأن لا تتدخل في شؤون حركات المقاومة ..

والجميع يعلم أن قيادات طهران وحزب الله لم تكن طرفا مباشرا في تفجير "طوفان الأقصى" بل كان القرار فلسطينيا وداخل قطاع غزة المحتل ..

 طهران تكتفي بتقديم دعم سياسي وإعلامي ومادي لقوى المقاومة، مثل المشاركة في تدريب بعض قادتها ومجاهديها الذين يطلبون ذلك حتى يخوضوا مباشرة مع شعبهم معركتهم الوطنية من أجل التحرر والاستقلال .

وقد لاحظ العالم كيف نجحت المقاومة الفلسطينية المحاصرة ونظيرتها اللبنانية في التحكم في التكنولوجيا وفي صنع أسلحة وطنية محلية وفي تطوير أسلحة تقليدية مثلما كسبت ورقت تدريب آلاف المقاتلين والمجاهدين ضمن أجندتها وحسب خصوصياتها .

إيران قد تقدم الخبرة والدعم السياسي لبعض رموز المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية ولكنها لا تخوض الحرب نيابة عنهم.

إذن فإن المعركة ليست مع إيران ولكن مع شعب فلسطين الذي يكافح منذ عشرات السنين من أجل إنهاء الاحتلال وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس. وهي كذلك مع شعب لبنان وكل شعوب المنطقة التي تكافح من أجل التحرر الوطني والاستقلال .

صمود المقاومة سيدوم أعواما

س ـ وهل يمكن لحركات حماس والجهاد وحزب الله أن تصمد طويلا في صورة تمسك القيادات الإسرائيلية والأمريكية بتمديد الحرب وتوسيعها ومتابعة قصف ملايين المدنيين جوا وبرا وبحرا؟

 ـ حسب معلوماتي وتحليلي سوف تصمد المقاومة الوطنية الإسلامية في فلسطين ولبنان لمدة أعوام. ومهما كانت شراسة الحرب وحجم التدمير للمدن والمساكن والمدارس والمستشفيات وموارد رزق الملايين من المدنيين فإن المقاومة مرشحة لأن تصمد على الأقل عاما آخر .

لكن يبدو أن قيادات فلسطينية وعواصم عربية وإسلامية في المنطقة أعطت الضوء الأخضر لواشنطن وتل أبيب لأنها تريد بدورها القضاء على حركات حماس والجهاد وحزب الله وحلفائها في اليمن والعراق وإيران ..

س ـ هذا ليس جديدا ..

 ـ عايشت هذا عن قرب عندما كنت وزيرا للخارجية.. واكبته خلال حرب تموز / يوليو 2006 خلال لقاءاتي في القاهرة مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك وفي بيروت مع مسؤولين لبنانيين ووزير خارجية فرنسا ثم في عواصم دولية وعربية أخرى..

قال لي مبارك ورئيس حكومة لبنان ومسؤولون أجانب إن بعض الحكومات العربية والغربية وافقت على الحرب وتريد "القضاء على حزب الله" وحلفائه ..

وسمعت كلاما مماثلا بعد اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة أواخر 2008 ومطلع 2009 عندما كان الشعار "القضاء على حماس والجهاد" وحلفائهما ..

ولكني أجبت مخاطبي دوما: لا يمكن القضاء على شعب يقاوم الاحتلال وعلى فكرة التحرر الوطني ..

وكانت النتيجة أن غيرت الأطراف التي دعمت الحرب والعدوان والمجازر موقفها وانتصرت المقاومة في لبنان 2006 وفي فلسطين في 2009 ثم في المواجهات التي وقعت بعدها.. رغم حجم الخسائر وارتفاع عدد الشهداء والجرحى.. والجميع يعلم أن سقوط شهداء وجرحى "ثمن مطلوب" بالنسبة للقوى التي تقاوم الاحتلال في كل العصور وفي كل مكان ..

خلافات الإصلاحيين والمحافظين في إيران

س ـ كنت سفيرا مع الرئيس محمد خاتمي المفكر والسياسي الإصلاحي ثم وزير خارجية للرئيس أحمدي نجاد الذي يتهمه البعض بالتشدد وبكونه "محافظ".. هناك من يعتقد أن أمريكا قدمت تنازلات لإيران في الملف النووي وفي لبنان وفي كامل المنطقة في عهد "المحافظين" وليس في عهد الرؤساء "الإصلاحيين"، ما هو رأيك؟

 ـ أولا بالنسبة لإيران ليس هناك خلاف جوهري بين غالبية السياسيين والرؤساء والتيارات التي توصف بكونها "إصلاحية" أو"محافظة" أو "محافظة براغماتية"، فيما يتعلق بواجب تحرير فلسطين ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وغيرها من قوى التحرر الوطني ..

ثانيا بالنسبة للملف النووي خاضت الديبلوماسية بنجاح مفاوضات جدية مباشر وغير مباشرة مع الدول العظمى والأمم المتحدة والهيئات الدولية.. وتوصلنا إلى تفاهمات مع الرئيس باراك أوباما وفريقه عندما كان مرشحا للانتخابات الرئاسية قبل 2008 وبعد أن أصبح رئيسا ..

واحترمت إيران والدول الأوروبية وروسيا تعهداتها، لكن واشنطن تراجعت في عهد الرئيس دونالد ترامب والرئيس الإيراني حسن روحاني ..

صحيح أن الرئيس الإصلاحي والمثقف محمد خاتمي فاجأ الغرب بإعلانه عن "تنازلات غير مسبوقة" فيما يتعلق بالملف النووي والتخصيب. لكن بعض قراراته وقع التراجع عنها في عهد الرئيس أحمدي نجاد بقرار رسمي دعمته مؤسسات الدولة الإيرانية. علما أن الديبلوماسية كانت تلعب دورا كبيرا في عهد أحمدي نجاد أيضا الذي سافر بدوره إلى نيويورك وأعلن في آخر عهده استعدادا لمزيد من المفاوضات والحوار .

وقد عرفت عن قرب عندما كنت سفيرا في اليابان الرئيس محمد خاتمي، الذي كان مفكرا ومثقفا منفتحا يؤمن بحوار الثقافات والحوارات. لكنه كان في نفس الوقت وطنيا يحترم سير مؤسسات الدولة وبينها مؤسسة المرشد ومواقف المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الذي يشرف على السياسات العامة للبلاد مع مؤسستي البرلمان، مجلس الشورى، ورئاسة الجمهورية .

س ـ ختاما.. لماذا يتواصل الحصار الأمريكي والغربي على إيران بعد 44 عاما عن ثورتها رغم حضورها الديبلوماسي وتزايد دورها الاقتصادي والسياسي الإقليمي والدولي؟

 ـ هناك المزيد من تقاطع المصالح بين ايران وأغلب دول العالم والمنطقة.. ونحن نسعى لأن تكون علاقاتنا متطورة مع كل الدول الإسلامية والعربية وفي العالم من أمريكا اللاتينية إلى آسيا مرورا بإفريقيا وأوروبا..

لكن بعض العواصم تعادي إيران بسبب دعمها للمقاومة الفلسطينية ومعارضتها للتطبيع بين بعض الأطراف السياسية والمحتل الإسرائيلي.. كما يعادي البعض إيران منذ ثورة 1979 لأنها تبنت الإسلام وقامت بخطوات كبيرة لبناء اقتصاد وطني وللتحرر من مخلفات التبعية التي كانت سائدة في عهد الشاه..

يحاربون المرجعيات الثقافية الإسلامية لإيران ودول المنطقة ويتجاهلون دور الإسلام وحضارات الشرق العلمي والثقافي والسياسي السلمي عالميا منذ قرون ..

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مقابلات الفلسطينية العلاقات الحوار إيران إيران فلسطين علاقات حوار المزيد في سياسة مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المقاومة الوطنیة التحرر الوطنی فی عهد الرئیس أحمدی نجاد القضاء على فی فلسطین عندما کان من أجل

إقرأ أيضاً:

أسطورة البطل جدعون وحرب الرموز بين الاحتلال والمقاومة

تكاد القضية الفلسطينية تكون الأولى في العالم على مستوى تعقيدات الصراع ونوعيته، فالصراع على هذه الأرض يتجاوز كونه صراعًا سياسيًا إلى جوانب متعددة منها الأيديولوجي، والاجتماعي، والاقتصادي، والديني، والنفسي، والاجتماعي، وربما تكون حرب الرموز والصور واحدةً من أبرز مظاهر هذا الصراع الطويل.

مشهد بنيامين نتنياهو قبل أيامٍ وهو يسير في نفق تحت أرض قرية سلوان الحالية- مدعيًا أن أرضية الطريق التي يسير عليها تعود للفترة اليهودية، وسار عليها "أجداده"- كان له رمزية مقصودة خلال احتفال دولة الاحتلال بما يسمى "يوم القدس" الذي يمثل ذكرى احتلال شرقي القدس عام 1967.

وكذلك كان مشهد أعلام الاحتلال التي رُفعت في صباح ذلك اليوم بكثافة لأول مرةٍ داخل المسجد الأقصى المبارك لتعلن أن "مسيرة الأعلام" التي تنفذ سنويًا في شوارع القدس، نفذت أولًا وقبل أي مكانٍ آخر داخل المسجد الأقصى.

كما أنَّ إدخال قرابين حيوانيةٍ إلى المسجد الأقصى المبارك خلال ما يسمى "الفِصح الثاني" قبل أسابيع كان له رمزية كبيرة تتجاوز فكرة مجرد إدخال ماعزٍ إلى المسجد الأقصى، إذ اعتبر المستوطنون أن تمكنهم من إدخال القربان إلى حدود المسجد إشارةٌ إلهيةٌ بقرب تمكنهم من ذبح القربان داخله.

إعلان

ولم يكن المشهد الدرامي الذي شهده المسجد الأقصى المبارك في الثاني من يونيو/ حزيران الجاري خلال احتفال المستوطنين بما يسمى "عيد نزول التوراة" بعيدًا عن تلك الصورة الرمزية كذلك. فقد تسلل ثلاثة مستوطنين بصحبة قطع تقطر دمًا من لحم ماعزٍ مذبوح باعتباره قربانًا، وحاولوا وضعه على أرضية قبة السلسلة المجاورة لقبة الصخرة المشرفة، لولا تدخل المرابطات والمرابطين في المسجد الأقصى والقبض عليهم في اللحظة الأخيرة.

ولم تكن العملية المطلوبة يومها تتجاوز مجرد وضع هذا اللحم والدماء على أرض قبة السلسلة فقط لتتم الصورة الرمزية المطلوبة، حيث يعتقد هؤلاء المستوطنون أن موضع قبة السلسلة هو المكان الذي كان فيه "المذبح" أيام المعبدَين: الأول والثاني المُتَخَيَّلَين، ومجرد وضع دماء ولحم هذا "القربان" في أرض "المذبح" كان سيعني لهذه الجماعات انتصارًا رمزيًا كبيرًا، إذ إنه سيكون قد نجح في ترسيم هذه النقطة مذبحًا كما ورد في شروح التوراة تمامًا، وإن لم يتمكن من حرقها كما هي العادة الدينية، أو لم يتمكن حتى اللحظة من تنفيذ طقس ذبح القربان نفسه داخل المسجد الأقصى.

الأمر لا يقتصر على القدس، بل حتى في حرب الإبادة الجارية على غزة لم تغب فكرة الرمزيات عن عقلية الاحتلال، فعمليته الأخيرة التي أطلق عليها "عربات جدعون"، تشير إلى أسطورة البطل "جدعون" التوراتي في سِفر القضاة، والذي أرسله الرب ليجمع بني إسرائيل ويحارب بهم أهل مَديَن الأقوياء، ولم يبقَ معه من كل الشعب الذي خذله غير 300 محارب تمكن بهم فقط من الانتصار على العدو، في قصةٍ تشبه إلى حد بعيدٍ قصة "طالوت" التي ذكرها القرآن الكريم.

وبذلك قدم نتنياهو نفسه لشعبه في هذه الصورة الرمزية باعتباره "جدعون" الجديد الذي يقاومه ويخذله أغلب الشعب ولا يفهمه إلا القلة فقط، وبأنه مع ذلك سينتصر كما انتصر "جدعون".

إعلان

وكذلك فعل نتنياهو غيرَ مرةٍ في بداية حرب الإبادة حين حرص هو وأركان حكومته على الإشارة إلى الشعب الفلسطيني بلقب "العماليق" لتشبيهه بشعب العماليق الذي كان لا بد من إبادته كما ورد في التوراة.

منذ أن جثم الاحتلال الإسرائيلي على هذه الأرض، استخدم الرموز دائمًا في صراعه مع السكان الأصليين، ذلك أن الرمزية والصورة لها سحرها الخاصّ في تقوية مركز صاحبها في صراعه مع الطرف الآخر؛ لكسب الرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء دون الحاجة لكثير من التأويلات والشروح.

وسواء شئنا أم أبينا، فإن الأهمية الدينية الخاصة للأراضي الفلسطينية بشكل عام وللقدس بشكل خاص هي ما تعطي الرأي العام العالمي مكانةً لا يستهان بها في هذا الصراع.

وذلك ما رأيناه غير مرةٍ في محطاتٍ كثيرةٍ كان لتدخل القوى الدولية والرأي العام العالمي أهمية كبرى في توجيه شكل ونتيجة الصدام على الأرض، ولا أقل للتدليل على ذلك من قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا مجلس الأمن فقط، فكان بذلك قرارًا أمميًا عالميًا ما زالت إسرائيل ترفعه في وجه الفلسطينيين كلما مرت الأراضي الفلسطينية بمحطةٍ من محطات الصدام.

وكون الجمعية العامة في ذلك الوقت هي التي تبنت هذا القرار، يعطي ذلك إشارةً إلى حجم التأييد العالمي الواسع في ذلك الوقت للسردية التي قدمتها الحركة الصهيونية، لا سيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في مقابل ضعف السردية التي تبناها العالم العربي أمام بقية دول العالم.

وهذه السردية الصهيونية اعتمدت كثيرًا على الرمزيات، فالحركة الصهيونية طالما ربطت اسمها بجبل صهيون في القدس، وجعلت "الأمل" عنوانًا لنشيدها الوطني، وحتى العملة الإسرائيلية الأصغر "العشر أغورات" على سبيل المثال تحمل صورةً لعملةٍ قديمةٍ متآكلة وجدت في القدس وعليها نموذج لشمعدانٍ يهودي، وصارت هذه العملة القديمة رمزًا للأحقية التاريخية لليهود في هذه الأرض!

إعلان

والتسميات التي اختارها الاحتلال للمواقع والمستوطنات كلها حملت رمزياتٍ خاصةً مرتبطةً بالتوراة والتاريخ اليهودي في هذه المنطقة حسب رؤية الاحتلال.

كل ذلك لتجعل من نفسها جزءًا أصيلًا من سردية التاريخ في هذه الأرض، بما يقنع بقية العالم بحقها "الطبيعي" في الوجود على هذه الأرض، وإن كان الثمن إحلال شعبٍ مكان شعب، وإجراء عملية تطهير عرقي غير مسبوقةٍ خلال النكبة الفلسطينية.

في المقابل، فإن حرب الرمزيات ليست بعيدةً عن المقاومة الفلسطينية التي تعلمت الكثير من الدروس خلال الصراع، وتبنت رؤيةً إستراتيجية واضحةً تحتوي العديد من الرمزيات التي تقدمها أمام العالم كله، وتحاول من خلالها تعريف نفسها وتوجهاتها بشكل واضح وسهل. وذلك بعد أن كان الجانب الفلسطيني حتى الثمانينيات تقريبًا بعيدًا عن التفوق في حرب الدعاية والرمزيات.

فالمقاومة الفلسطينية حرصت دائمًا على أن تقدم صورتها باعتبارها حركة مقاومةٍ مرتبطةٍ بهذه الأرض بالذات، ولذلك نجد خريطة فلسطين الانتدابية جزءًا من الشعار البصري لأغلب الفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية.

وتحرص الفصائل الفلسطينية الإسلامية بالذات – كحركتَي حماس والجهاد الإسلامي- على إبراز صورة قبة الصخرة المشرفة، وهي رمز المسجد الأقصى المبارك وقلبه، في شعاراتها وشعارات أجنحتها العسكرية. وهذا الأمر يجعل المسجد الأقصى المبارك برمزيته الدينية الكبرى جزءًا أصيلًا من رسالة هذه الفصائل.

ولا تغيب رمزية التسميات كذلك عن عقلية الفصائل الفلسطينية، فانتفاضة الحجارة كان لها مفعول السحر في لفت النظر للقضية الفلسطينية باعتبار الفلسطيني المدني يقاوم الاحتلال بالحجر، وهو أبسط المكونات، وكذلك كانت رمزية انتفاضة الأقصى التي ارتبطت بالمسجد الأقصى.

أما الحروب المتتالية في قطاع غزة فشهدت ذروة الإبداع الفلسطيني في معركة الرمزيات، حيث أطلقت المقاومة الفلسطينية على تلك الحروب تسميات ذات بعد رمزي كبير وعميق مثل: معركة الفرقان عام 2008، ومعركة حجارة السجيل عام 2012، ومعركة العصف المأكول عام 2014، ومعركة سيف القدس عام 2021، وصولًا إلى عملية طوفان الأقصى عام 2023.

إعلان

والمتعمق في فهم مكونات هذه التسميات يلحظ تدرجًا في الأسماء وترابطًا فيما بينها وصولًا إلى أضخم عمليةٍ أطلقتها المقاومة الفلسطينية في تاريخها وهي طوفان الأقصى، وهو ما يعطي انطباعًا بتدرج الفعل الفلسطيني من التمايز والتحضير وتمركز القدس في المعركة إلى التحرك العارم الكبير باسم "الطوفان".

وخلال الحرب الجارية، نلاحظ كذلك اعتماد المقاومة على عنصر الرمزية كثيرًا في طريقة تسليم الأسرى بملابس عسكرية للعسكريين ومدنية للمدنيين، ونشر شعارات محددةٍ في المنصات خلال تلك العمليات التي شهدها العالم على الهواء مباشرةً.

ويصل السجال الرمزي إلى الذروة مع حرص المقاومة على إظهار فهمها للرسائل الرمزية الإسرائيلية والرد عليها بمثلها في العملية الجارية حاليًا خلال كتابة هذه السطور، وهي العملية التي يطلق عليها نتنياهو اسم "عربات جدعون" كما ذكرنا آنفًا، في تبنٍّ للقصة التوراتية القريبة لقصة طالوت في سورة البقرة في القرآن الكريم، لترد المقاومة بإطلاق سلسلة عمليات باسم "حجارة داود"، ومن الواضح هنا أن المقصود هو النبي داود عليه الصلاة والسلام، والذي تقول القصة التوراتية إنه قتل عدوه بحجر ومقلاع، وكأن المقاومة في ذلك تقول لإسرائيل: إن نتنياهو ليس "جدعون" التوراتي ولا "طالوت" القرآني، وإنما هو "جالوت" العدو الذي قضى عليه الفتى داود الذي لم يتخيل أحد أن يتمكن منه، وأنه كما ورد في القصة الدينية سينتصر ويؤتيه الله المُلك، وأنه يقاتل بالحجر أبسط الأدوات، معيدةً بذلك الاعتبار للحجر كذلك، وهو رمز الانتفاضة الأولى.

هذه الرمزيات بكثافتها تشكل مادةً خصبةً في الحرب النفسية بين الجانبين، ولعل رمزية ربط الحدث كله بالمسجد الأقصى المبارك تعتبر إحدى أهم النقاط التي راهنت وما زالت المقاومة الفلسطينية تراهن عليها في ربط هذه المعركة بامتداد الأمة بمفهومها العربي والإسلامي.

إعلان

بينما يعول الطرف الآخر على جرّ التيارات الدينية المحافظة في الغرب بالذات لمعسكره من خلال استخدام الرمزيات الدينية التوراتية.

هذه الحرب، إذن، ليست مجرد معركةٍ محليةٍ أو إقليمية، فلها امتدادات تتجاوز الحدود الفلسطينية وتتجاوز الإقليم، وكل ما نراه فعليًا من آثار عالمية لما يجري اليوم في الأراضي الفلسطيني يؤكد ذلك.

ولعل هذا ما يعطي القضية الفلسطينية برمتها دفعةً إلى الواجهة العالمية بعد محاولاتٍ طويلةٍ من أطرافٍ متعددةٍ لإلغائها وحصرها في الشعب الفلسطيني وحده تحت شعار: "فلسطين ليست قضيتي"، أو "القدس ليست قضيتي" التي كانت تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، لتأتي هذه الحرب وتثبت أن تلك الشعارات لم تكن في الحقيقة تتجاوز شاشات الهواتف فقط.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • «الخارجية الفلسطينية» ترحب برفع عضوية فلسطين إلى «دولة مراقب» في منظمة العمل الدولية
  • أسطورة البطل جدعون وحرب الرموز بين الاحتلال والمقاومة
  • فرحات في خطبة العيد: للتمسّك بخيار الوعي والمقاومة
  • البيت الأبيض: إيران أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم
  • شاهد.. منتخب فلسطين ينعش آماله بالتأهل لكأس العالم وقطر تفوز على إيران
  • عمليات نوعية لمجاهدي المقاومة الفلسطينية تكبّد العدو خسائر في الأرواح والعتاد
  • الرئيس الشرع يتلقى برقية تهنئة من رئيس دولة فلسطين بمناسبة عيد الأضحى المبارك
  • الرئيس المشاط: نتعاطى بمسؤولية مع الشركات المستثمرة في كيان العدو الصهيوني التي أبدت استعدادها للمغادرة
  • “الأحرار الفلسطينية”: واهم من يظن أن المقاومة في غزة انتهت
  • المقاومة الفلسطينية تقتل وتصيب جنود الاحتلال في جباليا والشجاعية