ثمة اشتباك دائم بين الأدب والصحافة رغم اشتراكهما فى فعل الكتابة. فالجذر واحد لكن كل فرع ينافس زميله فى السمو بخيلاء.
الأديب يرى الصحفيين يعبثون باللغة، ويبسطون الكلام، ويمارسون مبالغاتهم وتهوينهم للمعانى لتحقيق رسائل بعينها. والصحفى يرى الأدباء مقعرين ومعقدين للأفكار والرسائل التى ينبغى طرحها بشكل مُبسط للناس.
وكل طرف يسخر من الآخر، وينال منه وينافح أن يمنعه من الدخول إلى مجاله. والحكايات فى هذا الشأن كثيرة، ربما أشهرها أن تعيين د. طه حسين رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية فى الخمسينيات إلى جوار كامل الشناوى وموسى صبرى أثار عواصف ومعارك عنيفة، دفعت صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس إدارة المؤسسة إلى التدخل مرارا للتوسط بينهم. وكان طه حسين يطالب زميليه بقراءة عناوين الجريدة عليه فى الهاتف قبل صدورها، ولما فعلا انتقد ما اعتبره عدوانا منهما على الدقة اللغوية، حيث رفض مثلا مانشيت يقول «إيدن فى أزمة» معتبرا أن الوضع الذى يعانى منه وزير الخارجية البريطانى وقتها هو موقف حرج فقط ولا يمكن توصيفه بالأزمة، واقترح تغيير المانشيت إلى «إيدن فى حرج»، وهو ما رفضه موسى صبرى. وتصاعد الخلاف، وصولا إلى حد تهديد موسى صبرى بتحكيم القراء فى الخلاف، ثم تدخل صلاح سالم فى النهاية ليخرج عناوين الجريدة عن مسئوليات طه حسين.
ويحكى البعض أن مصطفى أمين كان يسخر كثيرا من أولئك الذين يقرأون كثيرا ويستشهدون بمأثورات لأدباء عالميين فى كتاباتهم، وكان رأيه أن الصحافة هى حرفة البساطة، والقدرة على مخاطبة رجل الشارع العادى. وفى أرشيف مصطفى أمين مقال شهير بعنوان «قال أناتول فرانس» يسخر فيه من المثقفين العضويين ويقول إنهم يفتخرون بكلام لا يعرفه أحد زعما بأن ذلك يجعلهم متميزين. ومما بلغنى فى سنوات عملى الأولى بجريدة الوفد أن مصطفى أمين كان يجافى الكاتب الراحل جمال بدوى، وينفر منه بسبب كتاباته البحثية والأدبية وانتمائه لحقل المثقفين، وفى أكثر من موقف كان يحاول إرسال رسائل بذلك. وفى عام من الأعوام رُشح جمال بدوى لجوائز مصطفى وعلى أمين لأفضل كتاب المقالات، لكن أحدا أخبر جمال بدوى، أن لجنة التقييم رجحت فوزه بالجائزة إلا أن مصطفى أمين تدخل وألغى اختياره إيمانا منه بأن جمال بدوى مثقف ناجح، لكنه صحفى متوسط القدرات. لذا فقد بعث جمال بدوى بأغرب برقية يرسلها أحد أبناء مؤسسة أخبار اليوم إلى مصطفى أمين تضمنت كلمة واحدة بتوقيع جمال بدوى هى «ولو».
لكن للأمانة، ورغم اختلافى الفكرى الشديد معه، فإن الوحيد الذى استوعب ككاتب صحفى، المبدعين وأحسن توظيفهم كان الأستاذ محمد حسنين هيكل، والذى قدم كتابات صحفية قوية، مُدعمة بثقافة واسعة عالمية وعربية، فكان كثير الاستشهاد بروائيين وشعراء وأدباء من كافة أنحاء العالم. وفى عهد رئاسته لإمبراطورية الأهرام نجح الرجل فى حشد جمع عظيم من المبدعين والأدباء والمفكرين العظام من أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وغيرهم ضمن كتاب المؤسسة. وكان الرجل من الذكاء لدرجة القدرة على استيعاب ألوان الطيف الفكرى وتطويعها لتعظيم الأهرام.
ففى يوم ما زار الرئيس عبدالناصر، الأهرام ورأى نجيب محفوظ، وقال له «إنه لم يقرأ له من فترة أمرا لافتا»، فعلق هيكل قائلا بأنه «كاتب بكره حاجة تودى ف داهية» وعلق عبدالناصر قائلا «توديك أنت ف داهية يا هيكل». وهو تعليق يؤكد تقدير عبدالناصر نفسه لوجود اسم نجيب محفوظ فى الأهرام وإيمانه بأن هيكل قادر بذكائه وحكمته على ضبط أى توجهات نقد تمثل خروجا عن السياق.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد الأدب والصحافة الصحفيين مصطفى أمین
إقرأ أيضاً:
أول مجموعة قصصية تفوز بالبوكر.. تحوّل في مزاج الجوائز الأدبية العالمية
في لحظة غير متوقعة من تاريخ جائزة "البوكر" العريقة، تُوِّجت لأول مرة مجموعة قصصية قصيرة بالجائزة، متفوقة على عدد من الروايات الطويلة التي كانت مرشحة للفوز، الحدث أثار جدلاً واسعًا وفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة: هل تغيرت معايير التقييم؟ وهل نشهد تحولًا في الذائقة الأدبية العالمية؟
ما هي جائزة البوكر؟
جائزة البوكر (Booker Prize) تُعد من أعرق الجوائز الأدبية في العالم، وتُمنح سنويًا لأفضل رواية مكتوبة باللغة الإنجليزية ومنشورة في المملكة المتحدة أو إيرلندا، بدأت عام 1969، وكانت مقتصرة في بداياتها على كتاب الكومنولث البريطاني، قبل أن تتوسع لاحقًا لتشمل جميع الكتاب الناطقين بالإنجليزية حول العالم.
لماذا تُعد الجائزة مهمة؟
لا تُعتبر جائزة البوكر مجرد تكريم أدبي، بل تمثل جواز مرور إلى العالمية، الرواية الفائزة تشهد عادة ارتفاعًا هائلًا في المبيعات، وترجمات إلى عشرات اللغات، وتحويلات سينمائية أحيانًا، كما تفتح الجائزة أبواب النقاش الأدبي على مصراعيه، ما يجعلها مؤشرًا هامًا على توجهات الأدب المعاصر.
الفوز الأول لمجموعة قصصية: لماذا هو استثنائي؟
المعتاد في جوائز البوكر هو فوز الروايات الطويلة ذات السرد المركب والشخصيات المتعددة، لكن منح الجائزة لمجموعة قصصية قصيرة، يضع الأدب القصير تحت الضوء لأول مرة، ويكسر الصورة النمطية التي لطالما ربطت بين "الرواية" و"الجدارة الأدبية".
هذا الفوز يمثل انتصارًا للشكل القصير، ويعيد الاعتبار إلى فن القصة القصيرة الذي لطالما عانى من التهميش في سوق النشر، رغم أهميته الأدبية، كما يشير إلى تحول في أذواق لجان التحكيم والنقاد، ربما يعكس تغيرًا في طبيعة القراءة اليوم، حيث يميل الكثيرون إلى النصوص المكثفة والقصيرة بفعل إيقاع الحياة السريع.
ردود الفعل: احتفاء وجدال
لقي هذا التتويج ترحيبًا واسعًا من كتّاب القصة القصيرة ونقّاد الأدب، معتبرين أنه لحظة إنصاف لهذا النوع من الكتابة، لكن البعض رأى أن الأمر لا يخلو من المجازفة، وأن الرواية تظل الشكل الأوسع قدرة على الغوص في التجربة الإنسانية.
هل يتغير وجه الجوائز الأدبية؟
يبدو أن جائزة البوكر أرادت أن توصل رسالة ضمنية: الابتكار والتكثيف لا يقلان قيمة عن الامتداد والتفصيل، وربما يشهد المستقبل فوز أشكال أدبية أخرى كالنصوص الهجينة، أو روايات الرسوم المصورة، مما يعكس ديناميكية الأدب ومرونته.