دكتور الوليد آدم مادبو

"كل قصيدة من قصائدي تدفن موتاكم"
(أنيز كولتز، العالم يمشي معي، ترجمة الخضر شودار)

كل صرخة من صرخات الحرب توقظ فينا عِرقاً ظننا أنه قد يبس واعتراه الموات فالحرب لم تأت صدفة بل كانت نتيجة لإنهيار منظومة قيمية وأخلاقية شملت جميع المؤسسات السياسية والعسكرية والشرطية والدينية والطائفية، ومن ورثوا الإنقاذ وجدوا الطريق ممشياً تُعَبِّده الرشاوي ويقننه شراء الذمم، فلم يكن هناك حائلاً يمنعهم من الوصول إلى أهدافهم غير الثورة التي عملوا على تصفيتها بالتآمر مع "قادة الثورة" من المدنيين الذين تهافتوا يوما للقاء العسكر، قننوا لهم وضعهم القانوني في الوثيقة الدستورية، غضوا الطرف عن جرائمهم التي شملت فض الاعتصام ورمي جثث الشهداء في النهر، الانقلاب على النظام السياسي العاجز واستبداله بنظام سياسي راجز ينشد الديمقراطية ويمهد إلى الشللية وابتكار الحيل الإقصائية مما جعله عالة على المنظومة المتهالكة والمتهاوية، فلم يجد الفرقاء بدًّا من محاولة الإقتتال حبكاً لروايتي التمرد والفلول كي يتسنى لأحدهما الاستفراد بالحكم.



إن حيثيات التفاوض في العواصم المختلفة تفضح كلا الفريقين وتوضح أن دمار الوطن ومعاناة المواطن لم يكن يوماً من ضمن اهتماماتهم وأنهم شلة واحدة متحدة تُفَرِّقها المصالح وتجمعها الغنيمة. لن يتعافى هذا البلد إلّا بالتخلص من اللجنة الأمنية لعمر البشير التي دأبت على استثارة النعرات العنصرية والقبلية واستشاطت في نشر العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد مستخدمة البنادق المأجورة والنفوس المأفونة.

كانت الدولة القديمة متحفزة للتخلص من الدعم السريع الذي استخدمته لخدمة أغراضها الخبيثة لفترة من الزمان فاستنكف قائده الاستمرار في دور "البندقجي" (ذاك الذي يقاتل ببندقيته نيابة عن آخرين)، بعد أن توفر له المال والرجال وبعد أن أُعدت وهُيئت له المعينات الخارجية فأراد أن يختط لنفسه درباً يخرجه من الوصاية المحلية ويجعله سيد نفسه المرهونة طواعية ودون لأوى للوصاية الإقليمية والدولية. كان من الطبيعي لقائد الدعم السريع أن يستهين بالمجتمع السياسي والمجتمع المدني، حتى ذاك العسكري، إذ رأي الجميع متماهين مع طموحاته ولاهثين وراء ثرواته، فلم يتوان لحظة عن المحاولة لابتلاع الدولة. وهنا حدث الشرخ الذي تغفل عنه "رواية الفلول" التي لا تصمد وهلة أمام الوقائع الميدانية التي عاشها كل الناس ولم تصبح بعد تاريخاً يحكى. كلاهما، الجيش والدعم السريع، كان متحفزاً ومتحيناً للفرصة التي يقضى فيها على الأخر. لربما استشعر الإسلاميون هذا الأمر بحاستهم الكيدية فاستثمروه سياسياً بعد أن اوقعوا الكل في مصيدتهم الإعلامية.

لم يعد مهما سؤال: من بدأ الحرب؟ فقد أخرجت الأنفس اسقامها وظهر جلياً أن الأمة السودانية لم تكن بتلك العافية الأخلاقية المعهودة أو ذاك التسامي الإنساني المنشود، على الأقل في الأغاني والأهازيج؛ لكن المحير هو انقسام الشعب إلى فئتين: فئة مؤيدة للدعم السريع تحت ذريعة الظلامات التاريخية وأخرى منحازة للجيش تحت مسمّى القومية والمؤسسية علماً بأن قادة الدعم السريع لم يدخروا جهداً في الإنضمام لنادي الرأسمالية النهبوية يوم أن أتيحت لهم الفرصة، أمّا الجيش قد فارق تلكما المحطتين - القومية والمؤسسية - يوم أن قررت الجبهة الإسلامية أدلجته في العشرية الأولى ويوم أن قررت ذات المجموعة المنقسمة على نفسها عنصرته (من العنصرية) في العشرية الثانية، فتدحرج تماماً نحو الخانة الشخصية يوم أن أصبح البشير رئيساً مؤبَّداً في العشرية الثالثة.

عوضاً عن تبيان الحقيقة للعوام وإرشادهم نحو الطريق الصواب، وقعت النخب ضحية لذات المفاصلة الثنائية التي عمدت إلى المفاضلة بين مجموعتين متحاربتين علماً بأن الذين يتصدرون المشهد من العسكريين ما هم إلّا زمرة من المرتشين، القتلة، المجرمين، المطبِّعين جهرةً مع الكيان الصهيوني، والمتواطئين عنوةً مع الامبريالية العالمية. يتسنى للجيش أن يصف الدعم السريع بالتمرد وكلاهما قد تمرد على إرادة الشعب وأقصى مأربه في السلام والحرية والعدالة، بل كيف يمكن لهذا الجيش أن يخوض "معركة الكرامة" وقد تسنمت قيادته فئة عميلة وخائنة قد تخلت عن الشعب وعجزت عن حمايته في احلك الظروف؟ وهي بعد لا تفتر عن مناشدة الشعب بالثبات فيما تنشط عناصرها في الهروب من المعترك إذ لم يعد للجند حافز مادي أو معنوي لخوض المعترك، فيما تفرغ القادة العسكريين لتهريب الأموال وشراء الفلل في شتى مناحي المعمورة.

ما إن أيست النخب الحماسية والعاطفية التي أصابها اضطراب نفسي ورعاش عقلي من جراء التعويل على جيش الهنا (الحارس مالنا وعرضنا)، الذي توالت هزائمه، حتى سؤّلت لها نفسها ابتداع فكرة "المقاومة الشعبية" علماً بأن المقاومة الشعبية تتطلب تماسك داخلي كالذي توفر لكوبا وكوريا الشمالية، عقيدة قتالية كالتي توفرت لحزب الله، قيادة كاريزمية كالتي توفرت في وقت من الأوقات للمقاومة الأفغانية وتلكم العراقية، إسناد خارجي وميزة جيو-استراتيجية تجعل من الصعب إذ لم يكن من المستحيل اختراق الحدود الجغرافية للبلاد كالتي توفرت لإثيوبيا في الحرب العالمية الثانية. هذه الشروط كلها تنتفي في الحالة السودانية فالحرب الدائرة هي حرب بين مواطنين سودانيين رغم أقوال المغرضين والمدعين الذين في حماقتهم يغفلون عن حقيقة مهمة مفادها أن هذا القتال رغم ضرواته هو قتال بين اخوة في العقيدة والوطن. بل من يدعمونه خارجياً يدركون أن كسر شوكة العرب من شأنها أن تقصم ظهر السودان، إذ هو في الأصل قتال بين العرب الرعويين والعرب النيلين.

هذه سياسة متعمّدة القصد منها إنهاك الشعب السوداني والقضاء على قدراته العسكرية، لكن العسكريين الذين من المفترض أن يكونوا استراتيجيين يهملون هذا الأمر، كما إن المدنيين قد فقدوا رشدهم وثبات أفئدتهم إذ استعرت الهوية وأشهرت كل اثنية عن سلاحها، فلم يجدوا بدًّا من الخضوع نفسيا وعقليا لعاطفتهم البدائية التي تستدفعهم للانضمام لمعسكراتهم القبلية والمناطقية. أمّا من انحازوا من النخب النيلية للدعم السريع، تحديداً قحت/تقدم، فقد حكّموا مبدأ الواقعية السياسية التي هي في الأصل انهزامية سياسية تجعل المرء ينحاز لفئة تتشدق بالديمقراطية والحقوق المدنية فيما ينتهك أفرادها أبسط قواعد الإنسانية، المروءة، والخلق القويم.

إن النخب العسكرية ليس لها ولاء إلا لذاتها ولا تعمل إلا للحفاظ إلا على مكتسباتها المادية والسيادية وقد كان حريُّ بالنخب المدنية أن تستفيد من تجربة النخب الدارفورية التي أوْلَت قادة الحركات يوماً تأييداً مطلقاً وساندتهم مساندة كاملة جعلت الأخِرين يعتقدون في أنفسهم أحقية وقدسية دون أن يمتلكوا الكفاءة الأخلاقية أو أن يحوزوا المقدرة الفكرية اللازمة لحمل هموم الشعب المغلوب أو أن يحفلوا بمستحقاته في الأمن والعيش الكريم، إنما فقط اعتماد حيل الانتهازية والميكيافيلية والوقاحة السياسية التي تهيئ لهم فرص التأمين لمكاسب شخصية. يجب أن يخضع العسكر من الأن فصاعداً لموجهات مدنية تُغَلِب مبدأ الشفافية والمحاسبية وتعتمد سبل التخطيط العلمي والاستراتيجي. بنهاية الوصاية العسكرية على الشأن السياسي المدني تكون هذه الحرب قد حققت إحدى أهم نتائجها الثانوية والجانبية الرامية لرسم المصير الوطني للأمة السودانية بعيداً عن تطلعات المليشيات وبمنأى عن طموحات "الجيش النظامي".

دهشت إذ رأيت نخب (قحت) في إثيوبيا بتاريخ (Jan 4th 2024) تهرع إلى لقاء السيد "القائد" وهي متلهفة وولهة يستدفعها الطمع ويحثها المأرب فذكرتني تلك الحيثية بمسرحية "المومس الفاضلة" للفيلسوف جان بول سارتر، فهم أي قادة (قحت/تقدم)، في كل مرة يتم استرضائهم بجملة من الشعارات وحفنة من الدولارات، لكنهم هذه المرة كانوا في شغل عن كل ذلك بمشاهدة ولي نعمتهم … أي والله … وقد توهموا موته وعنوا لحين من الدهر بخبر مقتله. كيف لا وهو يمثل إكسير الحياة بالنسبة لهم في هذه المرحلة بالذات التي اصبحوا فيها فئة منبوذة لا يقل دورها في إذكاء نار الحرب عن دور الفلول، بيد أنها لا تملك الشجاعة الأدبية التي تنافح بها عن الدعم السريع وكثيرا ما تكتفي بالتعريض "بالفلول" الذين لا يحتاج المواطن فقرة دعائية للتذكير بجرائرهم، لكن ما نحتاجه هو التعريف بمشروع قحت/تقدم الفكري وقد رأينا خذلانها للشعب في محطات عدة وخبرنا بؤسها الأخلاقي والمهني وعانينا من ضعف أداء حكوماتها المتعاقبة كما شاهدنا وشاهد العالم ضعف وقلة حيلة قطبانها المشري المكري. باختصار فشل الكيزان لا يمكن أن يكون بمثابة "مشروع حضاري" لقحت/تقدم، فلتبحث السيدة الفاضلة عن حيلة أخرى ناجعة. لا تحدثونا عن الكيزان فالشعب قد انتفض عليهم وعرف مخبأهم، حدثونا عن مشروع لكم يحرسه "الأشاوس" الذين لن يتوانوا عن سحقكم في اللحظة الحرجة وقد زعموا وعزموا على أن يكون الفريق البرهان هو أخر ملوك الجلابة!  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع قحت تقدم

إقرأ أيضاً:

14 قتيلا في قصف لقوات الدعم السريع على مخيم للنازحين غرب السودان

الخرطوم- قتل 14 شخصا في قصف لقوات الدعم السريع على سوق في مخيم للنازحين في إقليم دارفور، وفقا لما أفادت به مصادر إغاثية الأحد 18 مايو 2025، مع تكثيف هذه القوات هجماتها في غرب وشرق السودان.

وقالت غرفة طوارئ معسكر أبو شوك في بيان إن القصف طال "سوق نيفاشا.. وأجزاء أخرى من داخل المعسكر كالمساجد والمنازل القريبة من المرافق العامة" في المخيم الذي يشهد تفشيا للمجاعة.

وأكدت أن "حجم الخسائر كبير ولكن لسوء الأوضاع الأمنية" كانت هناك صعوبة في حصر "كل الضحايا والمصابين".

ويقع مخيم أبو شوك في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وهي آخر المدن الرئيسية التي ما تزال تحت سيطرة الجيش، بينما تسيطر الدعم السريع على معظم أنحاء الاقليم ذي المساحة الشاسعة في غرب السودان.

وكثفت قوات الدعم السريع هجماتها على مواقع تابعة للجيش في الفاشر وضواحيها بعد هزيمتها أمام الأخير في العاصمة الخرطوم قبل شهرين.

وبالقرب من الفاشر، أعلنت قوات الدعم السريع الشهر الماضي السيطرة على مخيم زمزم بعد هجمات عنيفة أسفرت عن مقتل المئات ونزوح 400 ألف على الأقل من قاطنيه الذين كانوا نزحوا إليه خلال الحرب أو أثناء معارك سابقة في إقليم دارفور.

ويشن الجيش وقوات الدعم السريع هجمات متبادلة في أنحاء البلاد سعيا للسيطرة على أراض أو قطْع إمدادات المعسكر الخصم.

واتّهمت منظمة "محامو الطوارئ" الحقوقية الأحد الجيش وقوات مساندة له بشن "هجوم غادر على قرية الحمادي بجنوب كردفان صباح الخميس 15 أيار/مايو 2025، أسفر عن مقتل 18 مدنيا – بينهم 6 نساء و4 أطفال – وإصابة أكثر من 13 آخرين، بحسب إحصائيات أولية".

وفق المنظمة "رافق الهجوم نهب واسع لمنازل المواطنين وسوق القرية، واعتقالات تعسفية بحق ناشطين، كما اضطر عشرات المدنيين للنزوح سيرا على الأقدام نحو قرى ومدن مجاورة في أوضاع إنسانية شديدة القسوة".

الى ذلك، حذرت منظمة أطباء بلا حدود الأحد من تأثر الخدمات الصحية في مستشفيات رئيسية بالعاصمة السودانية بعد قصف لمحطات كهرباء أدى لانقطاع التيار بالكامل عن الخرطوم.

- انقطاع الكهرباء في الخرطوم -

وقالت أطباء بلا حدود في بيان إن ضاحية أم درمان "تواجه رابع انقطاع كبير للكهرباء هذا العام عقب تقارير عن هجمات بطائرات مسيرة شنتها قوات الدعم السريع على ثلاث محطات كهرباء في ولاية الخرطوم".

وقال والي الخرطوم أحمد عثمان حمزة، في بيان غداة استهداف المحطات الأسبوع الماضي إن "انقطاع التيار الكهربائي بالكامل عن الولاية أدى إلى شلل كبير في الخدمات الأساسية المرتبطة بالكهرباء مثل المياه والمستشفيات وغيرها من المرافق الحيوية مما يفاقم من معاناة المواطن".

وأشار بيان أطباء بلا حدود إلى أن مستشفيي النو والبلك في أم درمان يعانيان "من نقص في الكهرباء والأكسجين والماء. كما تتعرض الرعاية الصحية على جميع مستوياتها إلى اضطرابات"، لافتا الى أن النوّ هو "المستشفى الرئيسي في المنطقة حيث يستقبل المرضى من أم درمان وبحري والخرطوم. وإذا ما توقفت خدماته، فسينقطع شريان حياة بالغ الأهمية".

وتوقع البيان ارتفاع معدلات الإصابة بالكوليرا جراء نقص مياه الشرب، حيث "سيلجأ الناس إلى مصادر مياه مختلفة" مع توقف محطات المياه عن العمل.

ودانت المنظمة في بيانها "جميع الهجمات على البنية التحتية المدنية. فهذه الغارات تفاقم الأزمة الإنسانية المريعة أصلا" داعية للوقف الفوري لاستهداف البنية التحتية.

وعلى مدار الأيام السابقة استهدفت طائرات مسيرة تابعة للدعم السريع مواقع حيوية في شمال شرق البلاد الذي يعاني مئات الآلاف من سكانه من انعدام حاد للأمن الغذائي.

وفي الأسبوعين الماضيين، شنّت قوات الدعم السريع هجمات باستخدام الطائرات المسيّرة على بنية تحتية مدنية في بورتسودان التي نزح إليها مئات الآلاف خلال العامين الماضيين وتتخذها الحكومة المرتبطة بالجيش مقرا موقتا لها، بما في ذلك ميناء المدينة على البحر الأحمر ومستودع الوقود ومحطة الكهرباء الرئيسيين.

ويشهد السودان منذ منتصف نيسان/أبريل 2023 حربا مدمّرة بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف ونزوح 13 مليون شخص، وأزمة انسانية تعدها الأمم المتحدة الأسوأ في التاريخ الحديث.

 

 

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني يعلن ولاية الخرطوم خالية من قوات الدعم السريع
  • اشتباكات بين الجيش والمتمردين قرب العاصمة السودانية
  • في السجون والبحار.. كم عدد الذين اختفوا خلال الحرب السورية؟
  • 14 قتيلا في قصف لقوات الدعم السريع على مخيم للنازحين غرب السودان
  • السودان.. مقتل 14 نازحًا في قصف الدعم السريع على سوق في دارفور
  • حكم بالإعدام على متعاون مع قوات الدعم السريع المتمردة
  • الإمارات تؤكد رفضها القاطع لادعاءات سلطة بورتسودان حول دورها في الأزمة السودانية
  • السودان: مقتل 14 شخصا في قصف لميليشيا الدعم السريع على معسكر للنازحين في الفاشر
  • مليشيا الدعم السريع تستهدف معسكر قوات درع السودان بجبل الأبايتور
  • أعلنت مليشيا الدعم السريع بولاية غرب كردفان حالة الطوارئ والتعبئة العامة