توسعت الحرب واتسعت الأزمة وأصبح الإقليم على صفيح ساخن، خرجت الحرب عن حدود غزة، وتجاوزت مساحة الأرض الفلسطينية المحتلة، ولم يعد طرفاها الجيش الإسرائيلي وجماعة حماس، إنما انضمت أطراف أخرى مجاورة وغير مجاورة. الكل يتوعد ويهدد. البعض يقول إن هدفه وقف إطلاق النار في غزة، والبعض يستهدف تأديب «الخارجين» عن إرادته ومحوهم من الوجود، وكأن 130 يوماً من القتل والإبادة والتخريب لا تكفي لتحقيق الهدف وتأكيد «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها».
توسُّع الحرب يؤكد أن الدبلوماسية في زمن الحروب مهمتها فقط منح بعض المسكنات للرأي العام العالمي أملاً في تخدير إرادته وتخفيف حدة الأذى النفسي الذي يلحق به من مشاهد القتل المجاني للأطفال والتهجير القسري للأسر والتجويع الجماعي لمن تخطئ الطريق إليهم الصواريخ القادمة من كل اتجاه وقاذفات المدفعية الذاهبة إليهم في المنازل والمخابئ، والحصار اللاإنساني لكل كائن حي فوق الأرض المغضوب عليها بسبب تمرد بعض أبنائها على حصار امتد لسنوات والحرمان المتعمد من كل وسائل العيش ومقومات الحياة. دبلوماسية التخدير تريد أن تفقد الإنسان إنسانيته ويصبح كائناً لا تحركه مشاهد انتهاك إنسانية الآخرين، وأن تصبح المشاهد المرعبة القادمة من غزة والمتجولة حول العالم في الفضاء الإلكتروني، مشاهد وهمية في فضاء، يكون وهمياً عندما يريدون ويكون حقيقياً عندما يحمل مضموناً يتوافق مع رؤاهم ويروج لمصالحهم!.
كل الدبلوماسيين حول العالم طالبوا بعدم السماح بتوسع الحرب واتساع دائرة العنف، وتجاوز هذا المطلب حدود الدبلوماسية وكان مادةً للتصريح لدى الكثير من وزراء الدفاع وقادة الحروب ومُنظّري الإعلام العالمي، وأصبح هو المطلب الذي يتسيّد المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات ومساحات الإعلام التقليدي والحديث، ولكن الواقع مختلف، جماعات مسلحة وميليشيات تسعى للانتقام من إسرائيل وأمريكا في البحر الأحمر وفي قواعد عسكرية أمريكية بالمنطقة، وفي المقابل يأتي الرد مضاعفاً من أمريكا وحلفائها، والنتيجة الحرب تتوسع والفجوة تتسع، ودوائر الفعل ورد الفعل تتواصل حتى تظل النار مشتعلة، لا بل يمكن أن يزيدها اشتعالاً ويمددها إلى مناطق جديدة.
المتابع للتصريحات الأمريكية منذ السابع من أكتوبر الماضي يجدها تركز على جزئيتين، أولهما هو «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» وهو المبدأ الذي دافعت عنه واشنطن رئاسياً ودبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً، دعم بالمال والسلاح، و«فيتو» جاهز في مجلس الأمن للتصدي لأي مطالب دولية لوقف الحرب، ودبلوماسية تشكّك في كل من يحاول دفع إسرائيل لوقف الحرب حتى ولو كان ذلك عَبر القانون الدولي وعبر محكمة العدل الدولية؛ أما الجزئية الثانية فهي العمل على عدم توسع نطاق الحرب وامتدادها إلى دول أخرى في المنطقة، وهو الأمر الذي بذلت لأجله الولايات المتحدة الكثير من الجهد الدبلوماسي عبر السعي لعدم دخول أية أطراف خارجية على خط الصراع، والجهد العسكري بالتهديد والوعيد لكل من يفكر في هذا الأمر، والإعلان الصريح أنها هي التي ستتصدى لكل من يطلق قذيفة تستهدف مصالح إسرائيل أو مصالح واشنطن.
من حق الولايات المتحدة الدفاع عن مصالحها في المنطقة، ولكن من واجبها أيضاً أن تراعي مصالح دول المنطقة التي تأثرت سلباً جراء هذه الحرب، ومن واجبها أن تدرك أن السبيل الأوحد لحل هذه الأزمة الممتدة للشهر الخامس هو وقف الحرب على قطاع غزة والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية من دون قيود.
أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي زار المنطقة خمس مرات منذ السابع من أكتوبر، ناهيك عن زيارات الرئيس جو بايدن ووزير الدفاع لويد أوستن قبل مرضه ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، والعنوان الرئيسي لمعظم الزيارات في البداية هو منع توسّع الحرب ودعم إسرائيل، ومؤخراً أصبح العنوان السعي لهُدن إنسانية تضمن الإفراج عن المختطفين وإدخال المساعدات، وقد نجحت أمريكا في تحقيق هدف دعم إسرائيل بامتياز، حتى ولو كان ذلك على غير رغبة قطاع لا يستهان به من الأمريكيين، ولكنها أيضاً فشلت بامتياز في عدم توسيع الحرب، بل وأصبحت طرفاً أصيلاً فيها، وأصبحت قواعدها ومصالحها في المنطقة هدفاً لميليشيات مسلحة في أكثر من دولة، كما فشلت بامتياز في فرض الحد من استهداف إسرائيل للمدنيين الذي طالبتها به مراراً، كما فشلت بامتياز في فرض أي هدن على إسرائيل، بل وأصبحت واشنطن هدفاً لليمين الإسرائيلي المتطرف الذي تجاوز وزراءه على الرئيس الأمريكي شخصياً، وسيزداد الهجوم على واشنطن وقد لا تفيق لحقيقة أن إسرائيل، الابن المدلل الذي اعتاد أن يأخذ بلا مقابل، واعتاد عدم الاستماع إلى «والديه»، لا بد أن ينقلب عليهما يوماً ويسقيهما من الكأس المر، إلا بعد فوات الأوان.
دائرة العنف في المنطقة تتسع يوماً بعد يوم، والضربات الأمريكية على أهداف في أكثر من دولة لن توقف استهداف مصالحها، وأمريكا تعي ذلك، وتدرك قبل غيرها أن القضاء على العنف لن يتحقق سوى بوقف الحرب، ولكن يبدو أن الابن المدلل خرج عن السيطرة ولا يريد وقفاً للحرب إلا بعد إحراق المنطقة وإشعال العالم.
محمود حسونة – جريدة الخليج
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی المنطقة
إقرأ أيضاً:
غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
بقلم : سمير السعد ..
في عالمٍ تُثقله الحروب وتغرقه الفواجع، تبرز قصيدة “تهويدة لا تُنيم” للشاعر العراقي غسان حسن محمد كصرخة شعرية تحمل وجع الوطن، وتجسِّد الإنسان العراقي في زمنٍ لم يعد فيه للتهويدات مكان، ولا للطفولة حضنٌ آمن. غسان، ابن العمارة ودجلة والقصب، هو شاعر يكتب بقلبه قبل قلمه، ويغزل قصائده من نسيج الوجع العراقي بأدقّ خيوط الإحساس وأصفى نبرة صدق.
يفتتح الشاعر قصيدته بمشهد يختزل حجم الانهيار الداخلي في صورة جسدية/معمارية رمزية:
“من ربّت على ظهرِ الجسر..،
حتى انفصمت عُراه.”
ليتحوّل الجسر، رمز العبور والحياة، إلى معبر نحو الفقد والانفصال، ولتمتدّ صورة اليُتم على النهر كلحن لا يُفضي إلى الوصول:
“ليمتدَّ اليتمُ على كامل النهرِ،
يعزفُ لحنَ اللاوصول؟!”
هنا لا يتحدث الشاعر عن اليتيم بمعناه الفردي، بل يُحوّله إلى حالة جماعية تسري في جسد المكان، حالة بلد بأكمله يُرَبّى على غياب الآباء، وانقطاع الحكايات.
تدخل الحرب بوصفها شخصية غاشمة، لا تنتظر حتى تهدأ التهويدة، بل تُباغت الزمن وتفتك بالطمأنينة:
“الحرب..،
الحرب..،
(لعلعةٌ..):
كانت أسرعَ من تهويدة الأمِّ لوليدها”
هكذا يضع الشاعر التهويدة، رمز الحنان والرعاية، في مواجهة مباشرة مع صوت الحرب، لنعرف أن النتيجة ستكون فاجعةً لا محالة. ولا عجب حين نسمع عن الوليد الذي لم تمنحه الحياة حتى فرصة البكاء:
“الوليدُ الذي لم يفتر ثغرهُ
عن ابتسام..”
فهو لم يعرف الفجيعة بعد، ولم يلعب، ولم يسمع من أبيه سوى حكاية ناقصة، تُكملها المأساة:
“لم يَعُد أباه باللُعبِ..,
لم يُكمل حكايات وطنٍ..،
على خشبتهِ تزدهرُ المأساة لا غير.!”
في هذا البيت تحديدًا، يكشف غسان عن قدرة شعرية مدهشة على تحويل النعش إلى خشبة مسرح، حيث لا تزدهر إلا المأساة، في تورية درامية تفتك بالقلب.
ثم يأتي المشهد الفاصل، المشهد الذي يُكثّف حضور الغياب:
“عادَ الأبُّ بنعشٍ.. يكّفنهُ (زهرٌ)
لم يكُن على موعدٍ مع الفناء.!”
فالموت لم يكن مُنتظرًا، بل طارئًا، كما هي الحرب دومًا. لقد كان الأب يحلم بزقزقة العصافير، وسنابل تتراقص على وقع الحب:
“كان يمني النفسَ
بأفقٕ من زقزقات.،
وسنابلَ تتهادى على وقع
أغنية حبٍّ..
تعزفها قلوبٌ ولهى!”
بهذا المشهد، يقرّب الشاعر المأساة من القلب، يجعل القارئ يرى الأب لا كمقاتل، بل كعاشق كان يحلم بأغنية، لا بزئير دبابة. حلمُ الأب كُسر، أو بالأدق: أُجهض، على خيط لم يكن فاصلاً، ولا أبيض، بين الليل والنهار:
“حُلم أُجهض على الخيط
الذي لم يكن فاصلاً..،
ولا ابيضَ..
بين ليلٍ ونهار”
لا زمن في الحرب، لا بداية ولا نهاية، ولا فاصل بين حلمٍ وحطام. فالحرب تعيش في الفراغ، وتُشبع نهمها من أجساد الأبناء دون أن ترمش:
“ذلك أن لا مواقيت لحربٍ..
تُشبعُ نهمَ المدافع بالأبناء..”
وفي النهاية، تأتي القفلة العظيمة، القفلة التي تحوّل الحرب من آلة صمّاء إلى كائنٍ لو امتلك عيناً، لبكى، ولابتسم الطفل:
“فلو كانَ للحربِ عينٌ تدمع.،
لأبتسم الوليد!”
ما أوجع هذا البيت! إنه انقلابٌ شعريّ كامل يجعل من التهويدة التي لم تُنِم أيقونةً لفجيعة كاملة، وابتسامة الوليد غاية ما يتمنّاه الشاعر، وكأنّها وحدها قادرة على إنهاء الحرب.
غسان حسن محمد الساعدي ، المولود في بغداد عام 1974، والحاصل على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية، هو عضو فاعل في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق. صدرت له عدة مجموعات شعرية ونقدية منها “بصمة السماء”، و”باي صيف ستلمين المطر”، و”أسفار الوجد”، إضافة إلى كتابه النقدي “الإنصات إلى الجمال”. شاعرٌ واسع الحضور، يكتب بروح مغموسة بجماليات المكان وروح الجنوب العراقي، وينتمي بصدق إلى أرضه وناسها وتاريخها الأدبي والثقافي.
شاعر شفاف، حسن المعشر، لطيف في حضوره، عميق في إحساسه، يدخل القصيدة كمن يدخل الصلاة، ويخرج منها كما يخرج الطفل من حضن أمه، بكاءً وشوقًا وحلمًا. هو ابن العمارة، وابن دجلة، وابن النخيل والبردي، يدخل القلوب دون استئذان، ويترك فيها جُرحاً نديًّا لا يُنسى.
في “تهويدة لا تُنيم”، لا يكتب الساعدي الشعر، بل يعيش فيه. يكتب لا ليواسي، بل ليوقظ. لا ليبكي، بل ليُفكّر. قصيدته هذه، كما حياته الشعرية، تُعلن أن الشعر ما يزال قادراً على فضح الحرب، وردّ الضمير إلى مكانه، لعلّ الوليد يبتسم أخيرًا.