إلى مسندم مع التحية
تاريخ النشر: 20th, February 2024 GMT
د. خالد بن حمد بن سالم الغيلاني
khalid.algailni@gmail.com
@khaledalgailani
شُرفت بزيارة مسندم 3 مرات، على سنوات مُتباعدة، كانت الزيارة الأولى وأنا لا زلت على مقاعد الدراسة رفقة والدي- رحمة الله تعالى عليه- ثم بعد سنوات من تقديم برنامج تدريبي، وهاتان الزيارتان كانت الوجهة فيهما ولاية خصب حاضرة المحافظة.
أما الزيارة الثالثة فقد كانت قبل أيام، ومن خلالها شرفت بزيارة ولايات المحافظة الأربعة؛ ولاية مدحا، وولاية دبا، وولاية بخا، وولاية خصب، وهذا الترتيب وفقًا لبرنامج الزيارة التي رافقت فيها نخبة مباركة من رجالات المجتمع.
مسندم محافظة من محافظات بلادي الغالية، تقع في أقصى شمال السلطنة، وتمثل رأسًا لسنام العِزّ والمجد.. رأسٌ يحكي تاريخًا مجيدًا، وأنفة عظيمة، وشموخًا يُطاول عنان السماء.
بين بحرها وجبالها علاقةُ محبة عجيبة، وتواصل يمتدّ لآلاف السنين، لا زال البحر يخط حبال مودته في جبال مسندم العالية، لا زال يظهر محبته خيوطًا من جمال، ونقوشًا من عشق. أي علاقة هذه، وأي تواصل هذا، الذي يجمع بين خَلقين عظيمين من خلق الله سبحانه وتعالى، جبال شاهقة، وبحر لُجّيّ مُتلاطم الأمواج.
ولهذين العظيمين أثرهما الواضح في أهل مُسندم، الذين هم طود شامخ، وأصالة مُمتدة، وحضارة واضحة المعالم، كرم قلَّ نظيره، وبذل ندر مثيله، كيف لك بمن يعشيون بين جبل وبحر إلا أن يأخذوا من هذا شموخه وعلوه وعنفوانه وثباته، ومن ذاك كرمه وسخاؤه وعطاؤه، وصبره وسطوته.
يعتزون بعمانيتهم أيما اعتزاز، ويفخرون أنهم جزء أصيل من وطن عظيم، هم هناك حرس لإنجازات الوطن، ودرع لمكتسباته، جند حق في محراب الولاء المطلق، والانتماء الخالص، والطاعة على حقيقتها لسلطان البلاد المُعظم.
بداية الزيارة كانت بولاية مدحاء؛ ولاية جميلة في انسياب مياهها، وعلو جبالها، وطيبة أهلها، تحيط بها دولة الإمارات الشقيقة من كل الجوانب، في علاقة (جيوسياسية) تؤكد عمق العلاقات بين البلدين، وثقافة الشعبين، ورقي القيادتين، في التعامل مع هكذا تقارب وتواصل وتداخل.
ومنها إلى ولاية دبا ذات الإرث الحضاري، والتبادل التجاري، يشدك جمال شواطئها، وروعة تعامل أهلها، وترحابهم بالضيف الزائر الذي هو صاحب دار ومنزل.
بعد ذلك مررنا بولاية بخا وصولاً إلى خصب حاضرة المحافظة، ومركزها الإداري، وفيها الثقل السكاني، مزيج عجيب بين ثقافات مُتعددة، ولغات رائعة، مما شدني وجود عديد من القرى المنتشرة، تحت سفوح جبالها، مسالكها وعرة، صعبة بسبب التضاريس، ولا يُمكن بلوغها إلا عن طريق البحر، وما أسعدني توفر العديد من الخدمات لأهل هذه القرى.
ثم ختمنا الزيارة بولاية بخاء، ولاية رائعة الجمال، رغم قلة المساحة لكنها كبيرة بإرثها، وأهلها، ورونقها، وأبراجها، وقلاعها.
أنا والصحب الكرام ونحن نغادر مسندم، فقد تأكدت لنا جميعًا العديد من الحقائق التي يجب ذكرها؛ أبناء مسندم عمانيون بدرجة عالية جدا من الوطنية، والمحبة، والإخلاص، والولاء، والانتماء، عمانيون قلوبهم في العامرة مسقط، شموخهم في سمحان ظفار، أصالتهم في العفية صور، ثقافتهم في بيضة الإسلام نزوى، سموهم من قلعة المجد صحار، وجدتهم في مسندم حضورا وفي كل الوطن ألقًا ومحبة، هم حراس ذلك المجد، وحماة الوطن.
كرمهم يعود بك إلى تلك الأيام المسطرة بالفخر والبذل والعطاء، بيوت مشرعة للضيف، قلوب متلهفة للقاء، مشاعر تفيض حبا وتقديرا لكل زائر إليها.
وجدت جهودا حكومية تبشر بالخير، وتؤكد اهتمام الحكومة بهذا الجزء العزيز الغالي، منجزات متنوعة، وعطايا وافرة، ولكنها مسندم التي يجب أن تنال الخصوصية والسبق في كل شيء، نعم السبق في كل شيء.
كانت لزيارة مولانا أثرها على أهلها، ونتائجها التي بدأت تأتي ثمارها، ولأنها في محل القلب والعين عند جلالته، فالخير مُستمر مُتدفق لا ينقطع أبدًا.
ثم دعوة إلى كل مؤسسة حكومية، وأهلية ومدنية وأبناء عُمان لتكن مسندم وجهة للجميع، مزارا للجميع، محتضنا للفعاليات والأنشطة والبرامج واللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات والندوات والفعاليات الثقافية والرياضية والترفيهية.
عدنا من مسندم والشوق إليها يتجدَّد، عندنا من مسندم وكرم أهلها حكاية نرويها، عدنا من مسندم فوجدنا أننا عدنا بمسندم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تداعيات الواقع الديموغرافي في ولاية مطرح
أنور الخنجري
alkhanjarianwar@gmail.com
تُعد التحولات الديموغرافية من العوامل الأساسية التي تؤثر بعمق على المجتمعات من حيث تركيبتها السكانية وبُنيتها الاقتصادية، وتؤدي إلى آثار سلبية تطال سوق العمل، والنمو الاقتصادي، بل وحتى الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وفي هذا السياق، فإنَّ ولاية مطرح التي يمثل الوافدون فيها أكثر من ثمانين بالمائة، وفق احصائيات عام 2024، قد مرَّت خلال العقود الأخيرة بتغييرات عميقة بفعل عوامل متعددة أبرزها اعتماد السلطنة المتزايد على العمالة الوافدة القادمة من مناطق شبه القارة الهندية؛ حيث إنَّ تدفق أعداد كبيرة من هذه العمالة، قد غيّر بشكل واضح الكثير من ملامح التركيبة السكانية في البلاد، مما أدى إلى تراجع أعداد المواطنين في العديد من المحافظات والولايات العُمانية ومنها ولاية مطرح الصغيرة مساحة وسكانًا، حيث إن أغلب سكانها العُمانيين قد هجروها إلى أماكن أخرى بحثًا عن فرص أفضل للعيش والعمل.
هذا التحول لم يكن مجرد تبدل في الأرقام، بل امتد ليُعيد تشكيل ديموغرافية المكان، ويُحدث آثارًا مباشرة على الاقتصاد، وسوق العمل، والسكن، والهوية. ومع استمرار هذا التغيير، بات من الضروري التفكير في حلول شاملة، تبدأ من فهم الواقع وتنتهي باستحداث أفق عمراني واجتماعي جديد، يضمن التوازن والاستقرار؛ إذ إن التغيرات الديموغرافية ليست مجرد أرقام في تقارير الإحصاء، بل هي عوامل حاسمة تشكّل مستقبل المجتمعات واقتصاداتها الوطنية، والتعامل معها بوعي واستباقية هو ما يحدد قدرة الدولة على التكيف وتحقيق التنمية المستدامة في عالم سريع التغير.
لا شك أن التحول الديموغرافي في ولاية مطرح قد انعكس بوضوح على الاقتصاد وسوق العمل وعلى البنية الاجتماعية؛ فالوافدين في الولاية يشكلون العمود الفقري في قطاعات التجارة، والخدمات، والتجزئة، والبناء وغيرها من الأنشطة، ورغم مساهمتهم الضئيلة في عجلة الاقتصاد المحلي إلا أن جزءًا كبيرًا من دخول العمالة الوافدة يُحوَّل إلى الخارج، وهذه التحويلات تمثل استنزافًا للسيولة المحلية، كما إن وجود عمالة وافدة غير نظامية أو بأوضاع قانونية هشة، أدى إلى توسُّع الاقتصاد غير الرسمي؛ مما أضعف من فعالية السياسات الاقتصادية والضريبية وخلق تنافسًا غير عادل في سوق العمل.
وفي ظل هذا الوضع، بات من الضروري وضع سياسات فاعلة لتشجيع أبناء الولاية على العودة والاستقرار في ولايتهم. ولتحقيق هذه الغاية، يُمكن تبنِّي مجموعة من المبادرات والإجراءات العملية المتمثلة في: تمكين أبناء الولاية من الاستقرار داخل النطاق العمراني للولاية، كخطوة أولى أساسية نحو عودتهم. ويمكن دعم ذلك من خلال إعادة صياغة التخطيط الحضري لولاية مطرح كإنشاء مدن جديدة حديثة توزع فيها أراض سكنية لأبناء الولاية وتكون مناسبة لبناء مساكن بسيطة ومتواضعة، بعيدًا عن تعقيدات العقار المُكلف أو العمران الفاخر، أو بناء مجمعات سكنية خاصة بأبناء الولاية تخدم مختلف شرائح الدخل في المجتمع مع ضمان توفر بنية تحتية تشجع على الاستقرار طويل الأمد مع مرافق أساسية (مدارس، مراكز صحية، مساجد، أسواق)، وبحيث تكون في بيئة اجتماعية وثقافية تحاكي طبيعة المدن والأحياء العُمانية الأصيلة.
وبحكم محدودية الأراضي الصالحة للبناء داخل النطاق الحضري في الولاية وازدياد الحاجة إلى حلول إسكانية مُستدامة، فإنه بات من الضروري التفكير خارج الصندوق، واللجوء إلى خيار استحداث أراضٍ جديدة في المرتفعات الجبلية المحيطة بالولاية كخيار إستراتيجي وواعد.
وهذا التوجه لا يهدف فقط إلى التوسع العمراني؛ بل إلى خلق أحياء جديدة تراعي خصوصية السكان وتُعيد التوازن الديموغرافي في ظل طغيان الكثافة الوافدة، مثل المساحات الفضاء الواقعة في المرتفعات الجبلية الممتدة من خلف مستشفى النهضة إلى مدخل قرية البستان، أو المرتفعات الجبلية التي تفصل مدينة مطرح القديمة عن مدينة روي أو تلك المرتفعات الفاصلة بين مدينة مطرح ومنطقة عينت ودارسيت، أو حتى تلك الجبال الواقعة على مسار سكة الخيل بين وادي خلفان ومنطقة ريام الساحلية، كلها مساحات فضاء غير مُستغلة عُمرانًا، وهي مهيأة بكل سهولة، ولو تم التفكير فيها جديًا لزيادة الرقعة السكانية في الولاية، ومع إجراء المسوحات الجيولوجية والهندسية اللازمة فإنها يمكن أن تتحول إلى مدن جديدة بتصميم عمراني مرن يسمح بالبناء التدريجي؛ حيث توفر هذه المرتفعات مناخًا طبيعيًا وموقعا يحاكي تراث المدن الجبلية التقليدية، خاصة وأن بعضها يطل على مناظر بحرية خلابة، الأمر الذي يشجع الأهالي على العودة والاستقرار في الولاية. وتشجيع أبناء الولاية على العودة لا يحقق فقط توازنًا ديموغرافيًا؛ بل يسهم أيضًا في استعادة النسيج الاجتماعي والثقافي، ويعيد توزيع الثروة وفرص العمل بشكل أكثر عدالة.
إنَّ ولاية مطرح تقف اليوم على مفترق طرق، بين واقع ديموغرافي مُتغير، واقتصاد هش في قبضة مافيا العمالة الوافدة، وهذه ظاهرة ذات أبعاد مُعقدة، تحمل في طياتها فرصًا اقتصادية وتحديات اجتماعية، إلّا أنَّ إيجاد توازن بين الاستفادة من هذه العمالة وتنظيم وجودها، مع تمكين المواطنين، هو المفتاح لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة؛ فالعمالة الوافدة أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من واقع الولاية، غير أن العمل على رسم ملامح المستقبل عبر تخطيط مدروس، وشراكة مجتمعية، وإرادة سياسية واضحة، يُتيح لولاية مطرح أن تعيد بناء ذاتها وتستعيد توازنها الطبيعي، لتكون مكانًا للجميع... ولكن بهويتها الأصلية التي لا تُشترى ولا تُستبدل.