???? مصر.. سلة غذاء العالم
تاريخ النشر: 25th, February 2024 GMT
نعم.. نحن ضمن كتائب حرس حدود الوطن؛ وحماة أرضه وتاريخه؛ ونحسب أنفسنا ــ كأكاديميين ــ في صفوف القوى الناعمة المصرية؛ وحملة مشعل التنوير في أركان المجتمع؛ وأحرَصْ الناس على تعضيد القيادة الوطنية المخلصة لتراب الوطن!
ولكن.. و(خللي بالك من لكن هذه!)؛ علينا الإضاءة في التوقيت المناسب؛ على بعض مشكلات المجتمع التي تعكر صفو المسيرة الوطنية المنطلقة نحو تحقيق الأمنيات التي يرجوها المجتمع المصري ــ برغم التحديات التي تحيط به من كل جانب ــ للوصول بالتنمية إلى أقصى معدلاتها؛ من أجل تأمين مصادر القوت الضروري؛ وتوفير الاحتياجات الحياتية الضرورية الضاغطة؛ فنجد في مقدمة تلك المشكلات: مشكلة “رغيف العيش” وما وصل إليه في الحجم والوزن والجًوْدَة؛ وخمسون جرامًا من الدقيق والماء والنار.
وصحيح أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”؛ ولكن ــ للأمانة ــ فإن الحد الأدنى منه يكفي لتتردد أنفاس الحياة بين ضلوعه؛ وحتى يمكن استيعابه لظروف الحياة من حوله؛ فكيف يهضم جائع مانبثه في عروقه من أساسيات الثقافة المعرفية المكلفين بها تجاهه؟
إذن.. ما الحل؟
ولكنني ـ وقبل أن أدلي بدلوي في بئر هذه المشكلة؛ ودون ادعاء معرفتي بالحلول الاقتصادية ــ أشير ـ بتصرف ـ إلى تجربة “مهاتير محمد” في ماليزيا (هو طبيب جراح قبل أن يكون سياسيًا بارعًا حاذقًا في المراوغة السياسية ضد خصومه المناوئين له.. مواليد 20 يونيو 1925؛ وحفر اسمه في تاريخ ماليزيا بعد أن حولها خلال عقدين من الزمن من دولة زراعية إلى دولة صناعية صاعدة)؛ فقد قدم هذا الرجل كرئيس لوزراء ماليزيا الأسبق؛ نموذجًا يُحتذى به للقائد الذي جمع بين العلم والحكمة والفطنة السياسية؛ وكان الرُّبَّان الماهر الذي قاد سفينة بلاده وسط أمواج بحر متلاطم؛ برغم أن تلك المسيرة لم تخل من بعض الإخفاقات في أحيانٍ كثيرة؛ ولكنه اكتشف بعقليته الواعية؛ أن “التعليم” هو الأساس المتين لكل انطلاق في أي اتجاه؛ وفي كتابه الذي حمل عنوان: “طبيب في رئاسة الوزراء.. يقول: سأكون مقصرًا لأني لم أنسب إلى من سبقوني فضل التقدم الاستثنائي؛ وأنا بنيت عليه فحسب؛ ولولا حكمتهم البالغة وبصيرتهم الواعية؛ لكانت مهمتي أصعب بكثير”!! ولكنه بعد تركه رئاسة الوزراء ــ التي امتدت من العام 1981 حتى 2003ــ وهو في السابعة والتسعين من العمر؛ يتقدم مرة أخرى للترشح من جديد لتولي رئاسة الوزراء.. ليؤكد أن الهمَّة والنشاط في عقل الإنسان.. وليس في قوة الأبدان!!
فلماذا لا تقوم الوزارات السيادية كالتعليم والزراعة والتموين والمالية؛ بالاطلاع على تلك التجربة الفريدة؟ فليس من العيب الاستفادة من تلك التجارب التي وصلت بشعوبها إلى تأمين مصادر الاحتياجات الحياتية الضاغطة؛ والخروج من “شرنقة” اجترار التجارب السابقة التي أوصلت “رغيف العيش” في مصر ـ أبوخمسة مليمات ــ إلى 1000 مليم!!
ولعلي ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ أشير إلى ضرورة دراسة بيع الرغيف بالوزن؛ فليس من المعقول أن تحدد وزارة التموين وزن الرغيف بتسعين جرامًا.. والمعروض بالأسواق لايتجاوز ـ بأي حالٍ من الأحوال ـ سبعين جرامًا! والبيع بالميزان.. سيكون هو الحكم العدل والفيصل في الأسواق؛ لإرضاء البائع.. والمستهلك!!
إن حقول “الحنطة” في المحروسة؛ التي يسقيها نهر النيل العظيم؛ كانت تكفي أهل البلاد طوال العام؛ ولنا في محنة “سيدنا يوسف” ــ بعد الاستدعاء من السجن ــ خير دليل وبرهان على أهمية النصيحة باتخاذ الحيطة والحذر والحرص على منتجات الأرض المعطاء وقت بُخلها بالمحصول الوافر والغزير؛ والقرآن الكريم ـ في هذا الصدد يقول :
﴿ وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ إِنِّيٓ أَرَىٰ سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰاتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰاتٖۖ يَٰٓأَأيُّهَا ٱلۡمَلَأُ أَفۡتُونِي فِي رُؤياَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّؤيَا تَعۡبُرُونَ ﴾ ( يوسف: 43)
وكان رد الصديق يوسف :
(قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتُم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهُن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون (49)!!
ونحن لا نريد أن نترك “الحنطة” في سنابلها؛ ولكن نريد دراسة التوسع في زراعتها على كل مساحة خضراء في وادينا الجميل؛ وليكن ذلك على حساب بعض المحاصيل التي تُعد من الكماليات في حياة الإنسان المصري؛ مثل بعض الفواكه التي تم استيراد شتلاتها من الخارج؛ وقد لا تتناسب مع جو الزراعة في مصر؛ ولا حرج في هذا التصرف الحكيم؛ حتى تشعر أجهزة الدولة السيادية بأنها قامت بالعمل الجليل الذي يخدم مصلحة الشعب العامل الكادح في المصانع والحقول؛ وحتى تعود مصرنا المحروسة سلة لغذاء العالم من حولنا.
أسرعوا.. حتى لا يأكلنا “رغيف العيش”.. بدلاً من أن نأكله!!
* أستاذ العلوم اللغوية والتأليف والكتابة الإبداعية بأكاديمية الفنون
ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق وعضو اتحاد كتاب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
هل تُعيد "جايكا" الأمل لسلة غذاء عُمان؟
أحمد الفقيه العجيلي
في الحادي والثلاثين من أكتوبر، يحتفل العُمانيون بيوم الزراعة العُماني، وهو يوم يستحضر قيمة الأرض والمنتِج والمزارع، ويؤكد أن الزراعة ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل ركيزة من ركائز الأمن الوطني والتنمية المستدامة.
ويأتي هذا اليوم هذا العام متزامنًا مع خطوة تحمل الكثير من التطلعات، تمثلت في توقيع سلطنة عُمان اتفاقية تعاون فني مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي "جايكا" لإعداد وتنفيذ المخطط الرئيس لتنمية منطقة النجد بمحافظة ظفار، وهي اتفاقية تُعيد الأمل في مشروع طال انتظاره، وتضع المنطقة من جديد تحت مجهر التنمية.
وتمتد منطقة النجد شمال جبال ظفار، وتشمل نطاقات مثل حنفيت ونيابة الشصر ودوكة. وهي منطقة ذات إمكانات زراعية كبيرة، تتميز بأراضٍ خصبة قابلة للاستصلاح، وموارد مائية جوفية وفيرة، ومساحات شاسعة مهيأة للإنتاج. وقد بدأت فيها الزراعة فعليًا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وشهدت تجارب في زراعة القمح والخضراوات والفواكه والأعلاف. ومع ذلك، ظل أثر هذه المشاريع محدودًا، ولم تتحول النجد بعد إلى مركز إنتاج غذائي يعكس حجم إمكاناتها.
الاتفاقية الموقعة مع جايكا، في أواخر سبتمبر 2025، تهدف إلى إعداد مخطط تنموي شامل للمنطقة، بالاستفادة من الخبرات اليابانية في التخطيط الزراعي، وتوظيف التقنيات الحديثة لتحقيق التنمية المستدامة. وهي خطوة مهمة من حيث المبدأ، لكنها تأتي في سياق ذاكرة تنموية مثقلة بتجارب سابقة لم تكتمل. فقد شهدت المنطقة في العقود الماضية مبادرات طموحة انتهت إلى تعثر أو توقف، من أبرزها ندوة التصحر عام 2002 التي أوصت باستراتيجيات واضحة لمكافحة التصحر دون أن تجد طريقها للتنفيذ، وشركة النجد للحشائش التي تعثرت رغم أهميتها في تقليل استيراد الأعلاف، ومشروع خفض أعداد الإبل الذي لم يُنفذ بفاعلية، فضلًا عن مزرعة "زينة الصحراء" التي أنشئت بدعم من جايكا في وقت سابق لكنها فقدت زخمها لاحقًا بعد نقل تبعيتها إلى جهة أخرى.
لهذا تبدو النجد اليوم بمثابة "الفرصة المهدورة" التي لم تستثمر كما يجب. فلو أُحسن استغلالها، لأصبحت مركزًا زراعيًا وصناعيًا يغني البلاد عن استيراد كميات ضخمة من الحبوب والأعلاف والخضروات، ويسهم في تحقيق الأمن الغذائي وتنويع مصادر الدخل. ومع تصاعد المخاطر العالمية المرتبطة بسلاسل الإمداد والغذاء، تبدو هذه الخطوة أكثر من ضرورية. وتشير تقديرات محلية إلى أن استثمارًا مدروسًا في هذه المنطقة يمكن أن يخلق آلاف الوظائف في القطاعين الزراعي والغذائي، ويعزز من مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي، ويفتح آفاقًا للاستثمار الأجنبي في الزراعة الذكية والتقنيات الحديثة، بشرط إزالة العقبات البيروقراطية وتوفير الحوافز الجاذبة.
غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن في توقيع الاتفاقيات، بل في التنفيذ الفعلي. فقد أثبتت التجربة أن الفجوة بين التخطيط والتطبيق تظل العقبة الكبرى أمام المشاريع الوطنية الكبرى.
لذلك فإنَّ نجاح هذا المشروع مشروط بعدة عوامل أساسية: وجود خارطة طريق واضحة بتوقيتات محددة، وشفافية في المتابعة والتقويم، وشراكة حقيقية بين الحكومة والقطاع الخاص، ومشاركة مجتمعية تجعل سكان المنطقة شركاء في التنمية لا مجرد متلقين لها. فالمجتمعات المحلية حين تُقصى عن دوائر المشاركة تفقد الحماس والقدرة على صون المشاريع واستدامتها.
إنَّ الحديث عن النجد اليوم هو حديث عن اختبار جديد لقدرتنا على تحويل الرؤية إلى إنجاز؛ فالموقع الجغرافي الفريد، والبنية التحتية المتنامية، والمقومات الطبيعية الكبيرة، تجعل من هذه الأرض مرشحة لأن تكون مركزًا متقدمًا للزراعة الحديثة والصناعات التحويلية المصاحبة. وإذا ما تحققت الخطط المرسومة، فقد تُصبح النجد فعلاً سلة غذاء عُمان، ورمزًا لنقلة نوعية في منظومة الأمن الغذائي الوطني.
في الختام.. يمكن القول إنَّ الاتفاقية مع جايكا لا تمثل النهاية، بل البداية. النجاح لا يُقاس بعدد التوقيعات أو الدراسات؛ بل بما يُرى على الأرض من حقول مزدهرة، ومنتجات وطنية منافسة، ومزارعين مؤمنين بأنهم شركاء في مشروع وطني حقيقي. فالنجد ليست مجرد مساحة جغرافية، بل فرصة استراتيجية لبناء اقتصاد زراعي متنوع يخدم رؤية "عُمان 2040"، ويعيد للأرض مكانتها في معادلة التنمية.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل ننجح هذه المرة في تحويل الطموحات إلى واقع؟