استغلال الطلبة والباحثين عن عمل
تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
يتمتع المجتمعُ العُماني بأخلاقياتٍ فريدةٍ، يمتاز بها عن أيِّ مجتمع آخرَ، ففيه تجد الفطرة النقية، وتلمس التعامل الكريم، المتأصل في الشخصية العُمانية، وحبّ التعاون، وتقديم المشورة، وحُسْن التبصر بالأمور، ودراسة العواقب بصورة متكاملة، وإفساح المجال للشباب الصاعد، والواعد، يحتويه، ويشجِّعه، ويؤازره، ويبذل معه قصارى جهده؛ ليمضي إلى بَرِّ الأمان، نرى هذا الأمر في جميع الفئات، ومعظم الشرائح المجتمعية، سواء أكان شخصًا مسؤولا، أم فردا عاديا في المجتمع، فالجميع لديه الاستعدادُ للتعاون.
غير أنَّ هناك ظاهرةً منتشرةً في الوقت الحالي، وهي قيام بعض المؤسسات؛ سواء الصغيرة منها، أو المتوسطة بطلب خدمات من بعض الطلاب، أو الباحثين عن عمل مقابلَ مبالغَ زهيدة، مقارنةً بالجهد الذي يبذلونه؛ حيث تُعَدُّ رحلة البحث عن عملٍ رحلةً شاقةً، ومريرةً، ورحلة طلاب الجامعات والكليات الطموحين الذين يتميَّزون بمواهبَ فريدةٍ، ويتمتعون بنفوسٍ تحب البذلَ، وتنشُد الكمالَ نحو بناءِ مسار مهنيٍّ مستدامٍ، إنها تعد بحقٍّ تحديًا في حدِّ ذاتها، ومع ذلك فإنَّ بعضهم يجد نفسه ضحيةً لهذا الاستغلال الوظيفيِّ الذي نراه من قِبَل بعض تلك المؤسسات التي تبحث عن الكفاءاتِ الفاعلة، ولكنْ بأجور زهيدة.
على سبيل المثال، قد يُطلَب من الطلاب الذين يتمتعون بمهاراتٍ خاصةٍ في مجالات مثل التصميم، والبرمجة، أو البحث العلمي، أن يقوموا بأعباءِ عملٍ هائلة، ولكنْ دون تقديمِ مقابلٍ ماديٍّ يناسب قيمةَ إسهاماتهم، ولا ينهض بحال من الأحوال للنظر في متطلباتهم، بحيث يمكنهم هذا التقدير المناسب لأعمالهم، وجهودهم من أن يمضوا في حياتهم هادئين، ولأعمالهم مطورين، ويساعدهم على النهوض بفكرهم، وإبداعاتهم: تجديدًا، وتوسيعًا، وتنميةً، وتطويرًا.
كما إن أصحاب الأعمال الخاصة يمكنهم أن يضاعِفُوا هذا المقابلَ مستنِّين في ذلك بالأخلاق العُمانية التي ذكرْنا بعضًا منها في مقدمة المقال، ومعتمدين على نماذجَ كثيرةٍ قام بها بعضُهم، وأدَّى فيها مهمَّتَه النبيلة، ويرتكزون في ذلك إلى ما نشأت عليه الآدابُ العُمانية الأصيلة التي تدعو إلى دوام المؤازرة، ومدِّ يد العون إلى أولئك المبدعين من أبنائهم، وبناتهم، ولا تنتظر ممن تراه أهلا لها أن يتفوَّه أمامهم بها، وإنما تتعجَّل، وتطرح بين أيدي هؤلاء منظومةَ عملٍ ترعَى فيها هاتيك المواهبَ، وتتكئ على النخوة العُمانية التي تنهض وحدَها عندما ترى مثل تلك المواهب المتفردة، والإبداعات الخاصة، التي لو وَجَدَتِ المالَ لَضَاعَفَتْ إبداعَها، وازداد تألُّقُها؛ بل يمكن أن ينهض لهؤلاء مَنْ يرعاهم، ويقومُ على احتياجهم، ويلبي رغباتهم، ويوفر مستوًى ماديًّا لهم، يرسخ فيهم هذا الانتماء الوطني، والصدق، والحب لتلك المؤسسة التي رَعَتْهُ ناشئًا، واحتضنته مبدعًا، فأسهمت بذلك في خدمة البلاد، وفي نفع العباد، واحتواءِ شريحةٍ مهمة من شرائح المجتمع العُماني، تسعى لبنائه، وتخلص في توطيد أركانه، وتعمل جاهدةً على قوة بنيانه.
ومن الحكمة أن تنظر تلك الجهات الخاصة إليهم على أنهم أبناؤهم، أو كأبنائهم، فهم ناشئون، وهم مبدعون، وباحثون عن عمل كريم، فتحمي حقوقَهم، وتمكِّنهم من هذا العمل الكريم، بحيثُ تساعدهم على قضاء شؤونهم، والتخفيف عن أُسَرِهِمْ، وتطوير مجتمعاتهم، واستدرار الإبداع، واستمرار الإنتاج في كلِّ الميادين، وبكلِّ صوره، وأنماطه.
ونزيد القضية وضوحًا في أمثلة من شأنها أن تجعل ذوي الحلِّ والعقد يسارعون في احتواء هؤلاء، والقيام بحقوقهم، ومراعاة احتياجهم، من ذلك منها: أنه قد أخبرني أحدُ الباحثين عن عمل الموهوبين في مجالِ التصميم، والإنتاج الإعلامي عن تجربته المؤلمة، وشرحها بكل أمانة، وبيَّن كل ما في الموضوع من جميع جوانبه. وفي بداية الأمر، نالني شيء من الاستغراب من راتبه القليل جدًّا؛ حيث طلبتْ إحدى المؤسسات منه تصميمَ منشوراتٍ، وإنتاج أفلام، فضلًا عن إدارة جميع حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل هذا مقابل 70 (سبعين ريالًا فقط)، يا للعجب 70 ريالًا فقط؟! كأنها تسعى إلى استخدامه كآلةٍ إبداعيةٍ بدلًا من تقديم فرصةٍ حقيقية لتطوير مهاراته، وتحقيق تقديره المالي الحقيقيِّ.
ومنها أنه، في سياقٍ مشابهٍ، حكى ليَ آخرُ وهو لا يزال طالبًا في إحدى الكليات عن تجربته مع إحدى المكتبات التي طلبتْ منه إدارةَ حساباتها على مواقع التواصل، والتصميم، بمقابل لا يتجاوز 50 (خمسين ريالًا فقط شهريًّا). هذا المبلغ اليسير يُظهِرُ- بشكلٍ واضحٍ؛ بل بشكل صارخٍ- تجاوزَ تلك المؤسسات حدودَ الاستغلال؛ حيث يجد الفردُ نفسه يقدِّم خدماتٍ ذاتَ قيمة عالية، ولكنْ، بمقابل زهيد جدًّا، لا يقوم بمتطلباته، ولا يتمكن من خلاله من مواصلة أعماله، فيشعر بأسًى في داخله، وتضيع مثل تلك الكفاءات في أَتُون الحاجة، وتَذْوَى تحت وطأة الفاقة، فتقلُّ المواهبُ، وتجفُّ المنابعُ، وكان يمكن للمسؤولين في تلك المؤسسات رعايتهم واحتوائهم، والمحافظة عليهم، لأنهم كفاءات في تخصصات نوعية، ويملكون مهارات فنية متميزة.
التساؤل المشروع في هذه الحالات الواقعية هو: هل يُعقل أن يقوم شخصٌ بإدارة حسابات، وإنتاجِ محتوًى إعلاميٍّ، وتصميمِ جرافيك، وكلُّ هذا العمل المتواصل يكون مقابل مبلغ زهيد جدًّا؟!
إن هذه الظاهرة تعكس حقيقة مؤلمة لحال الطلاب، والباحثين عن عمل الذين يجدون أنفسهم مضطرين لقبول العُروض الوظيفية ذات الأجور المتدنية؛ بسبب ضيق الموارد المالية والحاجة الماسة لتلبية احتياجاتهم اليومية. ففي ظل التحديات المالية الكبيرة، يصبح قبول أيِّ عرض وظيفي- حتى وإن كانت الرواتب زهيدة- خيارًا لا بديل عنه لهؤلاء الشبان الذين يَسْعَوْنَ لتحسين أوضاعهم المالية.
وأكاد أجزم أن السبب وراء هذا الاستغلال يعود إلى حاجة الطلاب الماسة للدخل المالي، خاصة أولئك الذين يواجهون تحدياتٍ إضافية مثل تكاليف السكن، والدراسة في مدن ليست مساكنَهم الأصليةَ؛ حيث يجدون أنفسهم في مواجهة ضغوط مالية تفوق إمكانياتهم، وهذا الأمر نفسه ينطبق على الباحثين عن عمل الذين يحتاجون لدخل يساعدهم في سدِّ احتياجاتهم؛ مما يجعلهم عرضة للاستغلال من قِبَل بعض المؤسسات التي تسعى للإفادة من قدراتهم، ومهاراتهم بأجور لا تعكس قيمتهم الحقيقية، ولا جهودهم الكبيرة.
إنَّ التحديَ الذي يطرأ هنا هو كيف يمكن تحويل هذا الواقع القاسي إلى بيئة عمل أكثر عدالة، واستدامة؟ ولا نعلق الأمر على الجهات الحكومية وحسب، ونبدأ بتحفيز تلك المؤسسات التي يعمل بها هؤلاء المبدعون لأن تدفع أجورًا ملائمةً لأصحاب هذه المواهب، وتلك المهارات، ووضع معايير أخلاقية تقوم على احترام حقوقِ هؤلاء العمالِ، وتقدير جهودهم بشكل فرديٍّ منهم، كما يجب أن نُوقِظَ في أولئك الكرام النخوةَ العُمانية، وأخلاقياتِ مجتمعِنا الكريم، وهم بأنفسهم سيغيِّرون الوضعَ إلى آخرَ يحقق رضا جميع الأطراف وخاصة العاملين، كي تمضي قافلة الإبداع، والتميز بين أبناء عُمان معًا: أصحاب أعمال، وموظفين لديهم، مبدعين، ومنتجين.
وجملة القول: أنه يلزم أن يكون هناك توازنٌ بين استفادة تلك الشركات الخاصة، وهذه المؤسسات العاملة غير الداخلة تحت المظلة الحكومية- مراعاة تلك المواهب الطلابية، والنظر في حقوق هؤلاء الباحثين، والمبدعين، وذوي المهارات الخاصة، والكفاءات النادرة، والسعي نحو النهوض بهم، وبحاجاتهم، وتلبية مطالبهم: المادية، والمعنوية.
إنَّ تحقيق هذا التوازن سيُسهم- من غير شكٍّ- في خلقِ بيئةٍ أكثرَ عدالةً، واستدامةً للعمل البنَّاء، وفي تطوير مهنيٍّ مستدامٍ للطلاب، والباحثين المبدعين من ذوي المهارات الخاصة، والكفاءات النادرة، كما إن المجتمع يحتاج إلى إعادة النظر في تلك الممارسات، وتشجيع المؤسسات على تقديم أجور مناسبة للجهود التي يبذلها الشبابُ في سبيل التعليم، والبحث، والدراسة، وذلك كي تتحق العدالة الاجتماعية للجميع.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
التفاوت في الرواتب بين المؤسسات الحكومية.. إلى متى؟
حمود بن سعيد البطاشي
لا شك أن العدالة في الرواتب والمزايا بين الموظفين الحكوميين تُعدّ أحد ركائز الاستقرار الوظيفي والإنتاجية العالية. ولكن ما نراه على أرض الواقع في مؤسساتنا ويلاحظه الجميع، هو وجود فارق شاسع وغير مُبرَّر في الرواتب بين مؤسسات الدولة الحكومية، رغم أن الوظيفة واحدة، والمؤهلات متماثلة، والتدريب متقارب!
مثلًا: تجد موظفًا في وزارة يعمل بمسمى "أخصائي موارد بشرية" يحصل على راتب أساسي لا يتجاوز 700 ريال، في حين أن زميله في جهة حكومية أخرى (هيئة أو شركة حكومية) يتقاضى ضعف هذا الراتب أو أكثر، مع نفس المؤهل، ونفس المهام تقريبًا. ما الرسالة التي توصلها هذه الفجوة للعاملين في القطاع العام؟ إنها ببساطة تقول: "العدالة ليست أولوية".
هذا التفاوت لا يُضعف فقط من الروح المعنوية للموظف؛ بل يُغريه لترك موقعه والبحث عن فرص في الجهات الأعلى دخلًا؛ مما يخلق حالة من النزيف الوظيفي، والتكدّس في جهات معينة، وندرة الكفاءات في أخرى.
ويرجع سبب هذا التفاوت إلى غياب إستراتيجية وطنية موحدة للرواتب والمزايا في القطاع الحكومي؛ حيث تتبع كل جهة جدولها الخاص، بناءً على وضعها القانوني أو استقلالها المالي. وبعض الهيئات تستند إلى أنظمتها الخاصة، وشركات حكومية أخرى تعتمد على لوائح مُنفصلة تشبه القطاع الخاص، في حين تبقى الوزارات الخدمية مقيدة بنظام الخدمة المدنية الموحد.
لكن السؤال: هل من العدالة أن يعمل موظفان لنفس الحكومة، ويحملان نفس الشهادة، ويؤديان نفس المهمة، ويتقاضيان راتبين مختلفين؟ بالطبع لا!
وهذا التفاوت في الرواتب يؤثر سلبًا على الإنتاجية، ويخلق شعورًا بالغبن والإجحاف. فالموظف الأقل راتبًا قد يشعر بعدم التقدير، مما ينعكس على أدائه. كما أنه يقوّض الجهود الحكومية لتحفيز الشباب على الانخراط في الوظائف العامة، ويشجع على التسرب إلى القطاع الخاص أو الهجرة الخارجية.
المطلوب اليوم من الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارة العمل، إجراء مراجعة شاملة لهيكل الرواتب في القطاع الحكومي، ووضع إطار عادل ومنصف يراعي المؤهل، وسنوات الخبرة، والمهام الفعلية. كما يجب إنشاء قاعدة بيانات مركزية لمقارنة الرواتب، ونشرها بشفافية لتوضيح الفوارق، ومعالجتها تدريجيًا.
وفي الختام.. العدالة في الرواتب ليست رفاهية؛ بل ضرورة لخلق بيئة عمل صحية، ورفع الإنتاجية، وتحقيق الرضا الوظيفي، ولا يمكن لحكومة أن تُطالب موظفيها بالولاء والانضباط، بينما تُفرّق بينهم في الأجور لأسباب غير منطقية.. وقد آن الأوان لردم الفجوة، وإعادة بناء الثقة في هذا الجانب.