أكاديمية فلسطينية: تدمير منزل لا يعنى انهيار الوطن
تاريخ النشر: 27th, March 2024 GMT
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا للأستاذة المساعدة في الهندسة المعمارية في جامعة سيراكيوز، إيمان فياض، قالت فيه إن السلطات الإسرائيلية قامت في 9 تموز (يوليو) 1998، بهدم منزل صغير أصبح فيما بعد رمزا للصمود في قرية عناتا شمال شرق القدس للمرة الأولى.
مشيرة إلى أن المنزل تقطن فيه عائلة الشوامرة، المكونة من تسعة أفراد، بني في جزء من الضفة الغربية تسيطر عليه إسرائيل عسكريا.
وأصبح المنزل هدفا لعمليات الهدم المتكررة لأن الأسرة رفضت المغادرة. وفي كل مرة هدمته السلطات الإسرائيلية، أعادت الأسرة بناءه، بالتعاون مع متطوعين من اللجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل. أصبح المنزل، المعروف الآن باسم بيت عربية، رمزا لصمود أهله.
وتقول الكاتبة إن قصة هذه العائلة تجسد الطبيعة المحفوفة بالمخاطر للحياة كفلسطيني، سواء كان يقيم في الوطن أو في الخارج في الشتات.
وأضافت: "عندما زرت منزل عربية في عام 2012 للاحتفال بإعادة بنائه للمرة الخامسة، كنت أدرك تمام الإدراك أن دمارا آخر قد يكون وشيكا، وبينما يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى عندما يتعلق الأمر بتهجير الفلسطينيين من منازلهم بشكل جماعي، يظل هناك شيء واحد واضح بالنسبة لي: على الرغم من أن المنزل يمكن أن يكون مؤقتا، إلا أن الوطن دائم".
وأردفت فياض قائلة إن "تعريفي لـ "الوطن" هو تعريف معقد. على الرغم من الحنين الذي أشعر به كلما زرت مسقط رأسي - ريستون، فيرجينيا، إحدى ضواحي واشنطن - أو أي من المدن الأمريكية التي عشت فيها كشخص بالغ، إلا أنها ليست أماكن اعتبرتها موطنا لي على الإطلاق. عندما يسألني أحد من أين أنا، أقول أنا من القدس".
فـ "القدس هي المكان الذي نشأت فيه، منذ أن كنت في الخامسة من عمري تقريبا حتى تخرجت من المدرسة الثانوية. إنه المكان الذي ولدت فيه أمي، حيث ولد والداها وأجدادها، وحيث تكمن معظم ذكرياتي التكوينية. القدس، مع عدم استقرارها واستقرارها في آن، هي المكان الذي تعلمت فيه أن الفضاء المادي يشكل هويتنا. لقد علمتني أن أفهم العالم المادي كمكان للتدفق الدائم، وهو أمر أساسي لعملي كمهندسة معمارية ومحاضرة اليوم".
وتضيف الكاتبة: "عندما كنت طفلة، أحببت التجول في القدس مع أفراد عائلتي، والاستماع إليهم وهم يروون المناظر الطبيعية للمدينة. كان المبنى المهجور المتاخم لمحكمة إسرائيلية دار سينما كانوا يترددون عليها عندما كانوا مراهقين. كان هناك مطعم مملوك لإسرائيليين يقع في مكان كان بلا شك المنزل القديم لعائلة فلسطينية.
وتكمل فياض مقالها قائلة إن الطريق السريع الإسرائيلي أدى إلى تقسيم الأحياء التي كانت متصلة ذات يوم، مما أدى إلى تقسيم الضفة الغربية إلى نصفين وتوفير خط صدع فعلي تم من خلاله إنشاء وتوسيع المستوطنات غير القانونية.
وتشير الكاتبة إلى أنه على مدار عدة سنوات، شهدت ظهور إحدى هذه المستوطنات تدريجيا في الحي الذي أعيش فيه. تضمنت المحادثات الكثير من قول "كان هذا في السابق" وقضيت طفولتي في استحضار نسخ بديلة للقدس، أعيش بين الماضي والحاضر".
وأكدت إيمان فياض أنه رغم تمتعها بحقوق أكثر وحياة أكثر كرامة في نيويورك مما كانت ستعيشه كفلسطينية في القدس، فمن المفارقات أن المدينة التي تشعر أنها تنتمي إليها هي المكان الوحيد الذي لا يمكن أن يكون موطنها مرة أخرى.
وقالت إن "إسرائيل" تحرمها فعليا من حق كسب لقمة العيش أو امتلاك أو استئجار منزل أو حتى قيادة سيارة في القدس. لا تنطبق هذه المعاملة التمييزية على مواطني الولايات المتحدة الآخرين. على الرغم من جنسيتها الأمريكية، فإن هويتها كفلسطينية تجعلها شخصا استثنائيا".
وتعود وتؤكد إيمان فياض أنه مع ذلك، لن تُزاح القدس من شخصيتها أبدا؛ لا تزال عائلتها تعيش هناك، وتزورهم كثيرا. قائلة "عندما أفكر في سؤال الجنود الإسرائيليين عند نقاط التفتيش عن أسباب وجودي في القدس، والذي كان ذات يوم جزءا من روتيني الصباحي للذهاب إلى المدرسة، فإن الإجابة على هذا السؤال تبدو اليوم أكثر وجودية من كونها عملية وحتى عندما كنت أعيش في القدس، كنت أعتبر زائرة، وليس مقيمة قانونية"
وتابعت كنت "اضطر أنا وأبي وشقيقاي إلى الحصول على تصاريح زيارة توافق عليها السلطات الإسرائيلية كل ثلاثة أشهر حتى نتمكن من الاستمرار في العيش في المدينة مع والدتي، التي، على عكسنا، من سكان القدس الأصليين – وهي مصطلح غير رسمي يستخدم لتحديد الفلسطينيين المولودين في القدس، وتدعي إسرائيل ولايتها القضائية على القدس الشرقية وهذا يسمح لها بتقييد حركة حاملي بطاقات هوية الضفة الغربية والوصول إلى أي جزء من المدينة)".
وتقول إن الطرد والتهجير القسري لعشرات الفلسطينيين أولا من منازلهم ثم في نهاية المطاف من وطنهم – في نكبة عام 1948، عندما تأسست إسرائيل؛ وفي عام 1967، عندما فُقدت المزيد من الأراضي؛ وفي الجولات اللاحقة من العنف، بما في ذلك الحرب الحالية، خلقت أعدادا متفرقة من اللاجئين في العالم تصل إلى حوالي ستة ملايين شخص، و "أحب أن أعتقد أن وطننا موجود داخل كل واحد منا، بغض النظر عن مكان وجودنا. لكن هذا التهجير المنهجي هو في جوهره مأساوي للغاية".
وأضافت أن في غزة، تعرض ما يقدر بنحو 70% من الوحدات السكنية المحتلة للتدمير أو لأضرار بالغة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، مما أدى إلى نزوح حوالي 85% من سكان القطاع داخليا. وهذا التدمير الشامل للمساكن، والذي يُشار إليه عموما بإبادة المنازل، يجعل مساحات كاملة من الأرض غير صالحة للسكن. وتشير التقديرات إلى أنه في الضفة الغربية تم هدم أكثر من 1395 مبنى في العام الماضي، لتنضم إلى حوالي 60 ألف مبنى آخر تم هدمها في العقود الأخيرة في الأراضي المحتلة.
مشيرة إلى أن إسرائيل تبرر العديد من عمليات الهدم هذه باعتبارها قانونية بموجب أنظمة تقسيم المناطق، التي تصنف حوالي 72% من الضفة الغربية على أنها أراض زراعية أو حدائق وطنية، وفقا للجنة الإسرائيلية ضد هدم المنازل. (كان هذا هو الحال في بيت عربية؛ حيث تم رفض الطلب الأول لعائلة الشوامرة للحصول على تصريح بناء لأن أراضيهم تقع ضمن هذا التصنيف، على الرغم من أنها كانت صخرية للغاية بحيث لا يمكن زراعتها، حسب تقديراتهم). حيث يمنع الفلسطينيون البناء على الأرض التي تعتبرها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية محتلة منذ عام 1967.
قد يكون من المستحيل تقريبا على الفلسطينيين أن يخلصوا أنفسهم من الشعور بالزوال الذي يلوح في الأفق، سواء كانوا يعيشون في الشتات أو يكافحون من أجل التمسك بمنازلهم في الأراضي المحتلة. تخيل ما تشعر به عندما تكون لاجئا في وطنك.
وتابعت "من الغريب أن تكون من مكان لدى الجميع تقريبا رأي فيه. في بعض الأحيان، أكثر الكلمات التي أخشى سماعها هي "من أين أنت؟" لأن المحادثة التي تتلو ذلك ليست واضحة أبدا ونادرا ما تكون مريحة، ونادرا ما تكون كلمة "فلسطين" خيارا في استمارة الإشارة إلى الجنسية، حيث تم ترك البلد الأصلي في الملف الرسمي في الكلية فارغا لأن البلد الأصلي لم يكن موجودا.
واردف الكاتبة أنها كثيرا ما تفكر في ما يعنيه أن يكون الشخص فلسطينيا دون وجود فلسطين معترف بها دوليا. وحتى هذا الشكل من المحو الجيوسياسي مؤلم"، فيجسد الشاعر الفلسطيني محمود درويش جوهر محنتنا في الحوار الداخلي لمرثيته الذاتية "في حضرة الغياب". حيث قال:
"وتسأل: ما معنى كلمة لاجئ
سيقولون: هو من اقتلع من أرض الوطن
وتسأل: ما معنى كلمة وطن
سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى.
وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات وتضيق بنا".
وقالت إنه في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، تم تدمير البيت للمرة السادسة والأخيرة. وعلى الرغم من كل الصعاب، تمكنت عائلة الشوامرة من الصمود بعد التدمير المتكرر وإعادة بناء منزلهم. مشيرة إلى أن قصتهم في المثابرة هي قصة فلسطينية في جوهرها: فقد حاولت إسرائيل مرارا وتكرارا اقتلاعهم من أرضهم، لكنهم بقوا - إن لم يكن في منزلهم الأصلي، ففي منزل آخر ليس بعيدا جدا.
من بين الشكوك التي تبدو لا حصر لها والتي تواجه الفلسطينيين اليوم، هناك حقيقة أبدية أصبحنا نعرفها جيدا وهي أنه يمكنك تدمير منزل، لكن لا يمكنك أبدا أن تأخذ وطن.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية القدس الضفة الغربية الجنود الإسرائيليين التهجير القدس الضفة الغربية التهجير الجنود الإسرائيليين سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الضفة الغربیة على الرغم من فی القدس إلى أن
إقرأ أيضاً:
تجويع غزة.. عندما تستخدم إسرائيل أكثر الأسلحة خسة في التاريخ
منذ بداية الحرب على غزة، اتخذت إسرائيل التجويع سلاحا تراه فعالا لتحقيق أهدافها؛ لكنها لم تستطع أن تُرّكع القطاع الصامد، أو تحقق أهدافها فيه. وفي أوائل شهر مارس آذار 2025، ومع عودة الحرب في غزة، لجأت إسرائيل مرة أخرى إلى سلاح التجويع. وكان الهدف وفقًا لمجلس الوزراء الإسرائيلي: جعل الحياة في غزة لا تُطاق، أو كما قال سموتريتش "فتح أبواب الجحيم في غزة بأسرع ما يمكن وبطريقة مميتة".
وفي هذا المقال نتناول سلاح التجويع في غزة، وهل يمكن حساب إسرائيل عليه؟ وما هي العقبات التي تواجه عمل الجنائية الدولية في هذا الخصوص؟ مع عرض خلفية تاريخية لسلاح الجوع، ولماذا تأخر إدراجه في القانون الدولي كجريمة إبادة جماعية وجريمة حرب تستوجب العقاب؟ كما سنتناول آثار المواجهة القانونية الدولية على إسرائيل ومستقبل الصراع.
ومصادرنا في ذلك ما يلي:
1 ـ منظمة جيشاه الحقوقية الإسرائيلية، مثل إخراج الروح من الجسد، 6/2/2025.
2 ـ منظمة جيشاه الحقوقية الإسرائيلية، المشردون، 28/2/2025.
3 ـ بويد فان ديك، إسرائيل وغزة وسلاح التجويع، فورين أفيرز، 30/4/2025.
4 ـ مؤسسة السلام العالمي WPF، كم عدد الأشخاص الذين ماتوا من الجوع في غزة؟، 17/12/2024.
5 ـ تامي كانر وبنينا شارفيت باروخ، مذكرات الاعتقال الصادرة من الجنائية الدولية خطيرة وخطيرة: ماذا الآن، معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب INSS، 8/12/2024.
6 ـ بنينا شارفيت باروخ، إسرائيل على طريق العزلة الدولية، معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب INSS، 4/7/2024.
7 ـ تامي كانر وأودي ديكل، خطة الجنرالات: الاتجاه الصحيح والتنفيذ الخاطئ، معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب INSS، 15/10/2024.
التعريف القانوني للتجويع
تقول مؤسسة السلام العالمي: "التجويع قانونًا هو الحرمان من ضروريات الحياة: الغذاء، الماء، الصرف الصحي، الدواء، المأوى، رعاية الأمومة للأطفال الصغار، ومجموعة من الضروريات الأخرى. أما على المستوى الفردي، فيُعرّف الجوع بأنه حالةٌ جسديةٌ وطبيةٌ لسوء التغذية الحاد الوخيم المُهدد للحياة، وزيادةُ قابليةِ الفردِ الذي يُعاني من سوء التغذية للإصابة بالأمراض والموت بسبب الجفاف".
إسرائيل تريد تدمير شعب وجيل بأكمله
في ظل هذا الصمت العربي والإسلامي المخزي، تمارس إسرائيل واحدة من أكبر جرائم الإبادة الجماعية في القرن الحادي والعشرين، وتستخدم الجوع سلاحا أساسيا فيها، إضافة إلى القتل وتدمير كافة مقومات الحياة. إنها تريد تدمير جيل بأكمله، وهذا ما تؤكده التقارير الدولية والمنظمات الحقوقية الإسرائيلية:
1 ـ 70% في شمال غزة يعانون من الجوع الكارثي. وفي منتصف فبراير/شباط 2024، أفادت وكالات الأمم المتحدة أن 5% من الأطفال دون سن الثانية يعانون من سوء التغذية الحاد.
"التجويع قانونًا هو الحرمان من ضروريات الحياة: الغذاء، الماء، الصرف الصحي، الدواء، المأوى، رعاية الأمومة للأطفال الصغار، ومجموعة من الضروريات الأخرى. أما على المستوى الفردي، فيُعرّف الجوع بأنه حالةٌ جسديةٌ وطبيةٌ لسوء التغذية الحاد الوخيم المُهدد للحياة، وزيادةُ قابليةِ الفردِ الذي يُعاني من سوء التغذية للإصابة بالأمراض والموت بسبب الجفاف".2 ـ إصابة 475 طفلا شهريا بمعاناة جسدية مدى الحياة، بسبب بتر الأطراف وفقدان السمع أو البصر.
ووفقا للأمم المتحدة، فإن عدد الأطفال الذين فقدوا طرفا واحدا أو أكثر هو الأعلى في التاريخ الحديث ، كما أن مدى الصدمة النفسية العميقة بين الأطفال هائل.
3 ـ طوال الحرب، أصدرت إسرائيل أكثر من 100 أمر إخلاء أو تهجير. وحتى 19 يناير/كانون الثاني 2025، نزح تسعة من كل عشرة من السكان، بعضهم نزح أكثر من عشر مرات. وفي ذروة الحرب، كانت 86% من أراضي القطاع خاضعة لأوامر إخلاء نشطة من قِبل الجيش الإسرائيلي.
4 ـ واجه الغزيون في مواقع النزوح نقصا حادا في المياه النظيفة والغذاء ومرافق الصرف الصحي، وأُجبروا على المشي أحيانا لأميال للوصول إلى نقاط ومرافق توزيع المساعدات، والوقوف في طابور أمامها لساعات. وأدى النزوح المتكرر للعاملين في المجال الإنساني إلى صعوبة تقديم مساعدات للمحتاجين.
5 ـ أدى التدمير الإسرائيلي الممنهج لنظام الرعاية الصحية في غزة والقيود على دخول المساعدات إلى انتشار سوء التغذية على نطاق واسع، وزيادة عدد الأشخاص ذوي الإعاقة وتفاقم حالتهم. وما يقرب من 25% من جميع المصابين منذ بداية الحرب يحتاجون إلى إعادة تأهيل فورية ومستمرة.
6 ـ هناك علاقة طردية بين سوء التغذية والإعاقة، إذ يؤدي سوء التغذية إلى إضعاف جهاز المناعة، وزيادة التعرض للعدوى، وتقليل قوة العضلات - وهي قضايا تؤدي إلى تفاقم قيود الحركة الموجودة مسبقا وتجعل التعافي أكثر صعوبة. وتعرض حلقة التغذية الراجعة الخطيرة هذه حياة الآلاف للخطر، مع تفاقم سوء التغذية، وفي كثير من الحالات، يسبب إعاقات جسدية ومعرفية الشديدة.
تجويع غزة اختبار رئيسي للقانون الدولي
أصبح تكتيك التجويع، والمبررات التي يقدمها الإسرائيليون لاستخدامه، اختبارًا رئيسيًا للقانون الدولي. وتعقد محكمة العدل الدولية جلسات عقب طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة للتحقيق فيما إذا كانت إسرائيل قد انتهكت ميثاق الأمم المتحدة بعرقلة عمل "الأونروا"، وكالة الإغاثة الرئيسية في غزة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف دولية ضد نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ إلا أن جوهر الاتهامات الموجهة إليهما هي تنظيم سياسة تجويع إجرامية ضد المدنيين في غزة. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تُركز فيها محكمة جرائم حرب على هذه التهمة تحديدًا.
الجنائية الدولية تواجه معركة شاقة وتهديدا وجوديا
رغم الآثار الجلية لسياسات التجويع في غزة، تواجه الجنائية الدولية معركةً شاقةً وتهديدا وجوديا. فلم يحدث قطّ محاكمة زعيم دولة غربية. ووضعت مذكرات التوقيف الدول الأعضاء في المحكمة، وعددها 125 دولة، خاصةً حلفاء إسرائيل الأوروبيين وكندا، في موقفٍ حرج. فإذا دخل نتنياهو أو غالانت إحدى هذه الدول، فإن سلطاتها مُلزمة قانونًا باحتجازه. ومن جانبها، عارضت الولايات المتحدة بشدة القضية المرفوعة منذ البداية، وشرع ترامب في تدمير المحكمة نفسها، فسحب دعم الولايات المتحدة لمحاكمة بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، وأذِن بفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة في فبراير شباط الماضي لعرقلة عملها بشكل كبير. لذا، سارعت المحكمة إلى دفع رواتب موظفيها مُقدمًا، وناشدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدات طارئة. ومن المفارقات أن السلاح الذي تحاول المحكمة الجنائية الدولية مقاضاة نتنياهو عليه، وهو الإكراه الاقتصادي، يُستخدم الآن ضدها. وقد صرّحت رئيسة المحكمة الجنائية الدولية أمام البرلمان الأوروبي في مارس/آذار: "تواجه المحكمة تهديدًا وجوديًا".
وليست المعركة الشاقة هنا فقط بسبب أشخاص المتهمين أو دعم الغرب لهم وتواطؤه معهم، وإنما أيضا لصعوبة إثبات قضية تجويع المدنيين. فعلى الرغم من التاريخ الطويل والمدمر لسلاح التجويع، فإنه يصعب إثبات التجويع المتعمد للسكان المدنيين، ونادرًا ما تُحاسب الأطراف المتحاربة التي استخدمت هذا التكتيك. وسواء نجحت القضية أم لا، فإن السابقة التي تُرسيها قد تُعيد رسم الحدود القانونية للحرب وتُجبر الدول على مراعاة قواعد ظنت يومًا أنها لن تنطبق عليها أبدًا.
التجويع.. سلاح الغرب المُفضّل!!
لقد لقي ملايين المدنيين حتفهم في القرن العشرين نتيجةً لاستراتيجيات الحصار والتجويع؛ إلا أنه لم يتم حظر استخدام سلاح التجويع في القانون الدولي حتى عام ١٩٧٧. ومنذ ذلك الحين، ورغم الحظر الصريح، أصبحت مُلاحقة مرتكبي هذه الجريمة نادرةً للغاية. ولم تُدرج مُعظم المحاكم الجنائية الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية التجويع القسري في أنظمتها الأساسية، ناهيك عن السعي لمُقاضاة مرتكبيه. والسؤال هنا: لماذا؟!! والجواب يكمن في أن حصار التجويع كان طوال القرن العشرين جزءًا لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي الغربي الذي اعتبره أداة مهمة للحفاظ على النظام الدولي نفسه. وكان هذا التكتيك فعالًا بشكل مرعب لدرجة أن المنتصرين والمهزومين اعتبروه سلاحًا لكسب الحرب في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لماذا تجاهل القانون الدولي سلاح التجويع؟
استمر تبني الغرب الاستراتيجي للتجويع لفترة طويلة بعد سقوط هتلر. لذا، غاب النقاش حول هذا التكتيك بشكل ملحوظ عن معظم هياكل القانون الدولي بعد الحرب، ولم تتناوله صراحة اتفاقية الإبادة الجماعية لعام ١٩٤٨ ولا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن صياغة اتفاقيات جنيف هي التي تُقدم أوضح نافذة على أسباب تهميش جرائم التجويع بعد الحرب العالمية الثانية. إذ عندما اجتمع ممثلو الدول في جنيف عام ١٩٤٩ لصياغة اتفاقيات لحماية ضحايا الحرب، سعت دول عديدة إلى ترسيخ ضمانات إنسانية أقوى للنزاعات المسلحة ووضع ضمانات لحرية مرور المساعدات الإنسانية وحظر تدمير المواد الأساسية لبقاء المدنيين؛ لكن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أصرّتا على الحفاظ على قدرتهما على فرض الحصار، وقاومتا أي بنود قد تحد من قوتهما البحرية أو الجوية، ونجحتا في تخفيف هذه المقترحات. ورغم أن اتفاقيات جنيف لم تحظر هذا التكتيك، فإنها وصمت نهب الأراضي، وحمّت عمال الإغاثة، واعترفت اسمياً بمبدأ الوصول الإنساني ــ والذي أضعفه إلى حد كبير الشروط التقييدية وصلاحيات التفتيش الشاملة، مما سمح للمحاصِرين بعرقلة المساعدات حتى لمجرد أدنى شك في أنها قد تفيد العدو.
وبعد عام ١٩٤٩، استطاعت قوى الحصار وضع استثناءات مهمة، حيث يُمكن اعتبار موت المدنيين غير المتعمد أمرًا مقبولًا قانونيًا في ظروف محددة. وعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة أساليب التجويع على نطاق واسع في حرب فيتنام، بتدميرها الممنهج للمحاصيل في المناطق المشتبه في إيوائها لعصابات شيوعية. وفي هذا الإطار الناشئ، يُمكن لحكومة في حالة حرب أن تدّعي أن تجويع المقاتلين الأعداء لا يزال قانونيًا. وكما هو معروف، نادرًا ما يمكن وصف المجاعات في زمن الحرب بأنها متعمدة من البداية إلى النهاية؛ بل غالبًا ما تكون نتيجة لسياسات الحصار التي تُعطي الأولوية للاحتياجات العسكرية على أرواح المدنيين.
تعديل منقوص ومعيب للقانون الدولي
مع حلول سبعينيات القرن الماضي، قامت الدول حديثة الاستقلال بحملة جديدة لتشديد وصم أساليب التجويع. وفي المفاوضات التي أفضت إلى إضافة بروتوكولين جديدين إلى اتفاقيات جنيف عام ١٩٧٧، ضغطت هذه الدول من أجل وضع قواعد صارمة ضد القصف العشوائي، وتدمير المحاصيل، والتجويع. ونتيجةً لذلك، كبح الهيكل القانوني الدولي الجديد أساليب التجويع في الحروب بين الدول وأثناء الاحتلال، لكنه لم يُجرّم هذا السلاح بالكامل، وكان لهذه النتيجة عواقب وخيمة. ظلت الأقليات عديمة الجنسية أو المهمشة عرضة للحصار المسبب للمجاعة من قبل الحكومات المعادية. وحتى بعد أن صنف نظام روما الأساسي التجويع كجريمة حرب، فإن هذا التصنيف ينطبق فقط على النزاعات المسلحة بين الدول. واستغرق الأمر حتى عام 2019 حتى تعترف الدول رسميًا بالتجويع كجريمة في الحروب الأهلية. وعلى الرغم من ذلك، استمر التجويع المتعمد استراتيجية عسكرية رخيصة وبسيطة وفعالة للغاية ومن الصعب جدًا المعاقبة عليه.
صعوبة مقاضاة إسرائيل على جرائم التجويع
تسعى مذكرات التوقيف الصادرة من الجنائية الدولية ضد قادة إسرائيل إلى الطعن في هذا الإفلات من العقاب طويل الأمد. لكن القضية تُسلط الضوء أيضًا على الصعوبات المستمرة في مقاضاة جرائم التجويع: إذ يتعين على المدعين إثبات أن القيادة الإسرائيلية حرمت السكان المدنيين في غزة، عمدًا وعن علم، من مواد لا غنى عنها لبقائهم. وكما هو الحال في الإبادة الجماعية، غالبًا ما يكون إثبات النية أمرًا بالغ الصعوبة. فقد يتمكن القادة السياسيون أو العسكريون من تصوير أي وفيات ناتجة على نتيجة مؤسفة للحرب الحديثة. علاوة على ذلك، فإن طريقة فرض الحصار قد تُصعّب تحديد الجرائم، وعادةً ما تتكشف آثاره المدمرة مع مرور الوقت، وغالبًا ما تكون بعيدة عن الأنظار. وهذه العملية الخفية غالبًا ما حمت حملات التجويع من الملاحقة القانونية لفترة طويلة.
تصريحات تدين إسرائيل
باعتبار الحرب في غزة أول محاكمة تُجريها المحكمة الجنائية الدولية لجرائم التجويع، يبدو أن المحكمة قد خلصت إلى أن التصريحات العلنية الصريحة للقادة الإسرائيليين تُقدّم أدلةً ملموسةً على النية، بغض النظر عن مختلف العقبات القضائية. فبعد يومين من بدء الحرب، أعلن غالانت فرض حصار كامل على غزة، وأمر بقطع جميع إمدادات الكهرباء والغذاء والوقود، وأشار إلى سكان غزة على أنهم "حيوانات بشرية". ورفض نتنياهو علنًا السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وفي الآونة الأخيرة، ضاعفت القيادة الإسرائيلية من خطابها حتى مع إعادة فرض حصار كامل واستئناف حملة القصف في مارس آذار الماضي. لقد حوّلت هذه التصريحات العلنية الصادرة عن القيادة السياسية الإسرائيلية التجويع من جريمة حرب لم تُلاحق قضائيًا قط إلى ما وصفه بعض خبراء القانون الدولي بـ"الغاية السهلة المنال". ولو تجنبت القيادة الإسرائيلية الإعلان صراحةً عن حصار تجويع، لكانت التهم قد اقتصرت بدلاً من ذلك على "مسؤولية القيادة" عن الهجمات المباشرة على المدنيين والجرائم ضد الإنسانية.
هل هناك أهمية لجر إسرائيل إلى ساحة المواجهة القانونية الدولية؟
قد يعتقد البعض أنه لا قيمة فعلية للإجراءات القانونية المتخذة ضد اإسرائيل في المحاكم الدولية، وأنها لن تسفر عن شئ ملموس؛ لكن الحقيقة غير ذلك، فآثار المواجهة متعددة المجالات والساحات ولها آثار بعيدة المدى تؤثر على مستقبل الكيان وشرعية وجوده:
1 ـ نقطة تحول قانونية مهمة: في ظلّ الرياح السياسية المعاكسة الهائلة التي تواجهها المحكمة الجنائية الدولية الآن؛ إلا أن أوامر الاعتقال الصادرة بحق القادة الإسرائيليين تُمثّل نقطة تحول قانونية مهمة، إذ قد تُوضّح، بل وتُخفّض، الحدّ اللازم لإثبات النية في الملاحقات القضائية المستقبلية، سواءً في المحاكم المحلية أو الدولية. وقد جاء قرار المحكمة الجنائية الدولية في وقت مهم على المستوى الدولي وتحولات النظام العالمي، إذ تزامن مع تحول حاسم طويل الأمد في المواقف العالمية تجاه استخدام التجويع كسلاح. ولا شك أن هذا التكتيك لا يزال متشابكًا مع الأولويات الاستراتيجية لأقوى دول العالم، مع استعداد الصين لحصار خانق محتمل على تايوان، واستمرار الولايات المتحدة في قبول حصار التجويع كأساليب حرب قانونية محتملة ضد الأعداء.
لا يوجد دليل يدعم الافتراض بأن حصار غزة وتجويعها سيؤدي إلى إطلاق سراح الرهائن أو سيركع غزة ويجبر أهلها على الخروج منها أو يجبر حماس على الاستسلام. علاوة على ذلك، تشكل خطة التجويع خطرا على الرهائن، حيث من المرجح أن يكونوا أول من يحرم من الطعام والماء مع تضاؤل الإمدادات في غزة. وليس هناك يقين من أن مقاتلي حماس سيستسلمون بسبب المجاعة.مع ذلك، فإن قضية المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل - يحمل دلالات على إمكانية محاسبة حتى حلفاء الغرب الأقوياء. وبينما تسعى القوى الأوروبية الكبرى إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بسرعة في عالم لم تعد فيه مظلة الدفاع الأمريكية مضمونة، تواجه حكوماتها خيارًا: إما تطبيق المبادئ الدولية التي طالما دافعت عنها، أو التخلي عن ادعائها بالقيادة الأخلاقية. وعلى نفس القدر من الأهمية، يجب على الدول الكبرى في الجنوب العالمي أن تتدخل الآن، وعليها دعم جهود المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ليس فقط قولًا بل بالفعل. وإلا، فقد تُفقد المحكمتان والقواعد الدولية التي تسعيان إلى تطبيقها أهميتها.
2 ـ إسرائيل نظام نازي: إصدار أوامر قضائية ضد القادة الإسرائيليين، يتوقف تنفيذها على قرار ملزم من مجلس الأمن، بل تخلق وصمة عار شديدة ضد إسرائيل، وتصورها على أنها ترتكب أخطر جريمة ممكنة ـ الإبادة الجماعية. وهذه الجريمة، التي حددها فقيه يهودي وناج من الهولوكوست فيما يتعلق بالأفعال النازية ، تحمل وزنا تاريخيا عميقا. وفي الوقت الحاضر، ينتشر هذا الاتهام في الاحتجاجات ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم ويظهر عبر الشبكات الاجتماعية، مما يعزز الفكرة الصادمة بأن إسرائيل أقرب إلى النظام النازي.
3 ـ إسرائيل رمز عالمي للشر: الاحتجاجات الجماهيرية ضد إسرائيل في جميع أنحاء العالم غير مسبوقة، مما يجعل إسرائيل رمزا عالميا للشر. وأي بحث على الإنترنت عن مصطلحات سلبية مثل الإبادة الجماعية والتعذيب والتدمير يؤدي إلى إسرائيل، مع عدد لا يحصى من مقاطع الفيديو والمقالات والمقالات التي تقدم إسرائيل كقوة وحشية لا ترحم. وفي العديد من اللغات والبلدان. تتحول إسرائيل بسرعة إلى "دولة منبوذة". وتنتشر هذه التصورات بشكل كبير ، مما يجعل من الصعب للغاية مواجهة تأثيرها الضار وإعادة الجني إلى الزجاجة. ويُنظر إلى إسرائيل اليوم على أنها أقرب إلى جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري، وتتعالى دعوات مقاطعتها بالكامل.
4 ـ إسرائيل لا تجد من يدافع عنها: أحد أكثر الجوانب إثارة للقلق لدى إسرائيل ومؤيديها أن التعبير عن دعم إسرائيل أصبح إشكاليا وخطيرا. ويعرف المثقفون ورجال الأعمال والصحفيون وغيرهم من الشخصيات المؤثرة أنهم سيدفعون الثمن إذا عبروا عن آراء إيجابية حول إسرائيل، لذلك يختارون التزام الصمت أو حتى الانضمام إلى المنتقدين. وبالتالي، فإن الرواية المعادية لإسرائيل، التي تعتبر الرواية "المناسبة"، تهيمن على الخطاب. وفي المقابل، تتضاءل الأصوات المعارضة، حيث يأتي معظم الدعم المفتوح لإسرائيل من مصادر إسرائيلية أو يهودية، ينظر إليها على أنها متحيزة، أو من اليمين المتطرف، الذي يزيد ارتباطه من نفور الجمهور الليبرالي عن إسرائيل.
5 ـ إسرائيل دولة مارقة منبوذة: منذ اندلاع الحرب، قطعت عدة دول العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو استدعت سفراءها. وأصدرت العديد من الدول بيانات عدائية، وأطلقت مبادرات ضد إسرائيل، وصوتت ضدها في الأمم المتحدة. وفرضت دول مختلفة عقوبات على كيانات إسرائيلية، ولا سيما على المتطرفين اليهود المشتبه في قيامهم بأعمال عنف ضد الفلسطينيين. واعترفت بعض الدول بدولة فلسطين. وفي الوقت نفسه، تتزايد حالات المقاطعة المعلنة أو الضمنية ضد الإسرائيليين، خاصة في العالمين الأكاديمي والثقافي. ومع استمرار الحرب، تصبح صورة إسرائيل كدولة منبوذة أكثر رسوخا وسيكون من الصعب التخلص منها. هذا صحيح بشكل خاص إذا لم يكن هناك تغيير جذري في السياسة الإسرائيلية.
6 ـ آثار بعيدة المدى على الكيان: بعض الإجراءات لها آثار طويلة الأجل، لا سيما إذا اشتدت الإجراءات الرامية إلى سحب الاستثمارات أو فرض المقاطعة والعقوبات ضد إسرائيل. كما أن الضرر المهني الذي يلحق بالباحثين الإسرائيليين في العلوم والتكنولوجيا والأوساط الأكاديمية سيكون له آثار دائمة. والضرر الاقتصادي الناجم عن الإجراءات الحالية، مثل تجنب الاستثمار في إسرائيل وهجرة الأدمغة في الخارج، سيبقى محسوسا لسنوات قادمة. وسيكون من الصعب الحفاظ على مكانة إسرائيل كدولة ناشئة في ضوء هذه العمليات.
وقد تكون العودة إلى هذا الوضع في المستقبل مستحيلة. إن شيطنة إسرائيل، التي تغلغلت في عامة الناس في جميع أنحاء العالم، ليست مجرد مسألة "صورة غير مبهجة" للبلاد، بل لديها القدرة على التأثير بشكل كبير على صانعي القرار في مختلف البلدان. ومع تزايد الضغط الشعبي في مختلف البلدان المعارضة لإسرائيل، قد ينظر إلى إسرائيل من قبل الدول المختلفة وقادتها على أنها عبء أكثر من كونها أصلا، مع تكاليف سياسية لدعمها.
ونتيجة لذلك، قد ينأى بعضهم بأنفسهم عن إسرائيل، حتى إلى حد قطع العلاقات على مختلف المستويات. ويمكن أن تؤدي التكلفة السياسية إلى الابتعاد عن إسرائيل. وبعبارة أخرى، فإن انتشار نزع الشرعية عن إسرائيل وتحولها إلى دولة منبوذة في جميع أنحاء العالم يدفعها نحو واقع العزلة الدولية. وستؤدي إلى أضرار اقتصادية جسيمة، وانخفاض كبير في مستوى المعيشة، وإلحاق الضرر بالأمن القومي. إن فكرة أن إسرائيل قادرة على التعامل بنجاح مع جميع تهديداتها الأمنية بمفردها غير عقلانية وغير عملية. والاستنتاج القاتم هو أن الحملة ضد إسرائيل قد خرجت عن نطاق السيطرة، وإسرائيل تهزم حاليا على الساحة الدولية.
إن العالم اليوم، وخصوصا العرب والمسلمين، أمام لحظة مفصلية وفارقة في التاريخ: إما أن ينصروا غزة ويوقفوا حرب الإبادة والتجويع؛ وإلا ستظل غزة بأطفالها وشيوخها ونسائها والأجنة في بطون أمهاتها تلعنهم أبد الدهر ، والتاريخ لا يرحم، وذاكرة الشعوب أبدا لا تموت.7 ـ فشل الخطاب الإسرائيلي عن معاداة السامية: إن الخسائر الجسيمة والدمار والأزمة الإنسانية الحادة في قطاع غزة، مع نشر الصور باستمرار في وسائل الإعلام وعلى الشبكات الاجتماعية، حولت إسرائيل في نظر الكثيرين إلى كيان قاسي يلاحق الفلسطينيين العاجزين بلا هوادة. وقد لعبت التصريحات الإسرائيلية لعبت لصالح منتقدي إسرائيل الذين استخدموها لإظهار نوايا إسرائيل الخبيثة المفترضة لقتل المدنيين الفلسطينيين وتجويعهم وطردهم.
واستخدمت هذه التصريحات كذخيرة مفيدة للذين يقاتلون إسرائيل على الساحة الدولية. لذلك، فإن إن الميل التفاعلي المعتاد لوصف كل الانتقادات ضد إسرائيل بأنها معاداة للسامية واللجوء إلى الهجمات الشخصية يصب في مصلحة أولئك الذين يديرون الحملة ضد إسرائيل. ويجعل من الواضح أن إسرائيل ليس لديها رد جوهري على الادعاءات الموجهة ضدها. كما أنه يدفع المنتقدين، الذين ليسوا بالضرورة معادين لإسرائيل، إلى المعسكر المناهض لها.
الخلاصة.. إسرائيل لن تحقق أهدافها من التجويع
لا يوجد دليل يدعم الافتراض بأن حصار غزة وتجويعها سيؤدي إلى إطلاق سراح الرهائن أو سيركع غزة ويجبر أهلها على الخروج منها أو يجبر حماس على الاستسلام. علاوة على ذلك، تشكل خطة التجويع خطرا على الرهائن، حيث من المرجح أن يكونوا أول من يحرم من الطعام والماء مع تضاؤل الإمدادات في غزة. وليس هناك يقين من أن مقاتلي حماس سيستسلمون بسبب المجاعة.
إن رفض المدنيين الإخلاء لن يجعل الحصار قانونيا. إذ يجب أن يمتثل الحصار لمبدأ التناسب، ويجب ألا يلحق أي ضرر بالمدنيين متناسبا. وبالتالي، فإن حقيقة أن الحصار يستهدف حماس لن تعفي إسرائيل من واجب السماح بدخول المساعدات الإنسانية وحظر تجويع السكان.
إن العالم اليوم، وخصوصا العرب والمسلمين، أمام لحظة مفصلية وفارقة في التاريخ: إما أن ينصروا غزة ويوقفوا حرب الإبادة والتجويع؛ وإلا ستظل غزة بأطفالها وشيوخها ونسائها والأجنة في بطون أمهاتها تلعنهم أبد الدهر ، والتاريخ لا يرحم، وذاكرة الشعوب أبدا لا تموت.