يفرز التغير الاجتماعي في صيرورته إما كلفة على المجتمع والمؤسسات الاجتماعية في صيغة مشكلات وظواهر وقضايا، وإما مكتسبات اجتماعية في صيغة تقوية للعلاقات الاجتماعية وكبح لمهددات المجتمع أو استثمار لقدرات أفراده في تنميته وتقدمه. وفي كل الأحوال ترتبط المسألة بالقدرة على تخطيط عملية التغير الاجتماعي؛ والتي تتأتى من خلال السياسات الاجتماعية والاقتصادية، التي تتدخل في مسارين أساسيين: إما الحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم، وتدعيم استقرار المجتمع، ووضع أساسات لديمومة الصلات الاجتماعية والتضامن الاجتماعي، أو في مسار إحداث التغيير إما على دور بعض المؤسسات الاجتماعية، أو المهام المتوقعة من أنساق المجتمع؛ سواء كان النسق التعليمي أو القيمي أو الديني أو التبادلي الاقتصادي أو غيرها من الأنساق.
في الواقع إن مراقبة التغير الاجتماعي لا يزال يستشعر من خلال البيانات الرسمية؛ أي تلك التقارير التي تضعها المؤسسات العامة العاملة مع المجتمع فيما يتعلق بالحالات أو نوعية الطلب على الخدمات، أو في المشكلات التي تلتمس من خلال نسق عمل تلك المؤسسات. وتوظيف تلك البيانات غالبًا ما يكون للأغراض الرسمية، وتدخلات السياسة العامة في بعض الأحيان، وهو أمر محمود أن تكون هناك بيئة متكاملة من البيانات المولدة عن المجتمع؛ ولكن في تقديري هناك عنصران مفقودان: الأول هو الاشتغال البحثي الكافي على تلك المعلومات والبيانات الخام المولدة، والثاني هو أنها تعكس منظورًا واحدًا (مصدرًا واحدًا) لمراقبة حالة التغير الاجتماعي. ومن هنا فإننا نتصور أن المنظومة الفاعلة التي يمكن أن تؤدي دور مراقبة التغير الاجتماعي تكتمل أطرافها حين تكون ممثلة من: مؤسسات حكومية معنية بالسياسة والقضايا الاجتماعية وتستطيع التنبيه الأولي إلى المخاطر المحتملة والتغيرات الاجتماعية -مؤسسات أكاديمية وبحثية تتبع مسارات جادة للرصد الاجتماعي وتعمل ضمن منظومة تكاملية على برامج استراتيجية لرصد التغيرات الاجتماعية- مؤسسات مجتمع مدني تقيس التغيرات الاجتماعية الطارئة في مجالات خدمتها ونشاطاتها وتشتغل بتكاملية لفهم التغيرات الاجتماعية- وحدات وطنية تشتغل على رصد الاتجاهات العالمية والإقليمية الناشئة وتستشرف مستقبل المجتمع في ضوئها وتقدم اقتراحات بناءة للسياسات الاجتماعية لمحاولة توجيه تأثير تلك الاتجاهات -أدوات ذكية تستخدم أحدث منهجيات التقنية لرصد التعبيرات التكنولوجية عن التغير الاجتماعي.
ولتوضيح العنصر الأخير فالنشاط الافتراضي اليوم للفاعلين الاجتماعيين هو أداة معبرة عن شكل من أشكال التغير الاجتماعي؛ ولنجري تجربة على أداة مثل Google Trends التي يمكن أن تزودنا بطبيعة الموضوعات التي يبحث عنها الأفراد في مكان معين عبر الإنترنت، ومقارنته بأماكن أخرى من العالم، عبر أوقات مختلفة. إن ما يبحث عنه الأفراد عبر الإنترنت هو في جزء كبير منه تعبيرٌ عما يشغل عقولهم، اهتماماتهم، تطلعاتهم، هواجسهم. مؤكدا أن الأداة في ذاتها لا تعكس صورة المجتمع وحالته الكلية؛ لكن في الوقت نفسه هي مدخل للفهم ولطرح الأسئلة واختبار الفرضيات حول ما يحوز اهتمام أفراد المجتمع وتغيراته عبر الوقت. لقد قدم أيضًا حقل الإنسانيات الرقمية Digital Humanities مساهمات معتبرة أيضًا في فهم نشاط الأفراد عبر المنصات الرقمية، حيث تمكن أدوات هذا الحقل من رصد الحالة المشاعرية والتفاعلية للمجتمع إزاء ما يدور من قضايا باستخدام اللغة المعبر عنها افتراضيًا. فأدوات مثل Lexalytics Semantria وMonkeyLearn المطورة من هذا الحقل تستطيع اليوم أن تتمكن من التحليل باستخدام مجموعة بيانات في نصوص وتعبيرات الوسائط الاجتماعية. ومثل هذه الأدوات تتمكن اليوم من رصد اتجاهات المشاعر الاجتماعية وفق تعبيرات وتفاعلات وأنشطة الأفراد عبر الوسائط الاجتماعية وبالتالي فهم شكل من أشكال النشاط الاجتماعي وتمكين القدرة على التنبؤ أو مراقبة التغير الاجتماعي في شق منه.
وفي جانب مؤسسات المجتمع المدني فهذه المؤسسات تشتغل اليوم مع قطاعات واسعة من المجتمع، سواء في قطاعات العمل الخيري، أو مجتمعات المهن والوظيفة، أو نسق قضايا المرأة. وتتعاطى بشكل مستمر مع قضايا وظواهر ومشكلات ناشئة في كل حقل تعمل معه، وبالتالي فإنه إذا ضمنا تركيز هذه المؤسسات على تفعيل عمل الرصد الاجتماعي من خلال الدراسات والاستقصاءات وأدوات التتبع الاجتماعي بالشراكة سواء مع المؤسسات الأكاديمية أو البحثية أو المؤسسات العامة فإننا سنكون أمام صورة شبه مكتملة من التحليلات الاجتماعية التي تمكننا من مراقبة التغير الاجتماعي وفهم صيرورته. كما أن استشراف مستقبل المجتمع نظير التغيرات الهيكلية التي تحدث فيه، أو الاتجاهات العالمية والإقليمية الناشئة المؤثرة عليه، أو نتاج السياسات العامة الموجهة لعملياته ونظم تنميته يعد أمرا ذا أهمية قصوى. ووجود وحدات معنية بهذا الصدد تشتغل على استشراف مستقبل قطاعات المجتمع من شأنه أن يعزز من مراقبة التغير الاجتماعي وبالتالي تحسين بيئة تخطيط المجتمع. إن التغير الاجتماعي ليس بالضرورة أن يكون أحداثًا محورية فارقة، كما أنه ليس فقط مجرد ظهور مشكلات غير مألوفة أو ظواهر عارضة على المجتمع. يكمن التغير الاجتماعي في تفاصيل دقيقة ومحددة؛ في اللغة، والتعبيرات، والرموز الاجتماعية، وتمثلات الهوية، في السلوكيات، وتحول العادات، في ما يهتم به الأفراد، وما ينصرفوا عنه، فيما يعطيه الأفراد قيمة، وما ينتقص الأفراد من قيمته، في الكيفية التي ينظر بها الأفراد إلى القضايا المحورية، وفي الكيفية التي تحوز فيها قضية معينة على اهتمام الأفراد. هذه أمثلة على المستوى الجزئي (المبسط)، ولكن مراقبتها بشكل دقيق وحاسم يحقق أجزاء موسعة من فهم ومراقبة التغير الاجتماعي.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
درجات حرارة مرتفعة.. مظاهر التغير المناخي تؤثر على ولايات سودانية
بورتسودان – بأنفاس متقطعة، يمسح الشاب محمد عمر العرق عن جبينه بقطعة قماش، ويقول إنه لم يتصور أن تكون درجات الحرارة بهذه القسوة، ويشكو من ارتفاع درجات الحرارة التي صعّبت مهمته كحمَّال على عربة يجرها بيديه، الأمر الذي اضطره للجوء إلى الظل طلبا لنسيم خفيف كل حين.
يوضّح عمر -وهو نازح عشريني- أنه اضطر لتقليل عدد ساعات عمله خلال اليوم بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وأضاف " لم أتصور أن الطقس في بورتسودان بهذه القسوة، الآن أنا مضطر للعمل إما باكرا أو بعد الظهيرة لتفادي التعرض المباشر والطويل للشمس".
وتعاني مدينة بورتسودان خلال هذه الأيام وطوال الأسبوع الماضي من طقس متقلب، حيث شهدت درجات الحرارة ارتفاعا غير مسبوق وتعدت 47 درجة مئوية مع رياح مثيرة للغبار، الأمر الذي فاقم معاناة الناس، وحدّ من حركتهم خلال ساعات النهار.
وقبل يومين، ألغت إدارة مطار بورتسودان الرحلات الجوية، وأعلنت "تعليق الرحلات مؤقتا بسبب سوء الأحوال الجوية، حفاظا على سلامة الركاب والطائرات"، وفق ما نقل بيان مقتضب عن إدارة المطار قبل أن تستأنف الرحلات لاحقا.
ظواهر متطرفة
أظهرت نتائج دراسة قام بها عدد من علماء المناخ الأفارقة بكلية "إمبريال الجامعية"، ومقرها الخرطوم، العام الماضي، أن السودان قد يتعرض لظواهر مناخية متطرفة كل 3 أعوام.
ويوضح رئيس وحدة الإنذار المبكر بالهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية الدكتور أبو القاسم موسى إبراهيم أن أسباب الطقس المتقلب في مدينة بورتسودان يعود إلى حركة الفاصل المداري، وهو الخط الفاصل بين الرياح الشمالية الجافة والرياح الجنوبية الرطبة.
ويعزو الخبير السبب إلى أن "أنظمة الضغط الموجودة في الشمال وأنظمة الضغط الموجودة في الجنوب وضعت مدينة بورتسودان في حالة تأرجح بين الكتلتين الهوائيتين، الرطبة الموجودة جنوب الفاصل المداري والتي تحمل الرياح الجنوبية الغربية، والكتلة الجافة القادمة من الشمال وفيها الرياح الشمالية".
إعلانوأضاف أن الصراع بين هذه الكتل أدى إلى حركة رياح غير معتادة في هذا التوقيت وفي هذه البيئة الصحراوية، وهو ما أنتج الأتربة الشديدة التي شهدتها المنطقة.
وأكد إبراهيم أن الأرصاد السودانية أصدرت تنويها قبل يومين وإنذارا شديد الخطورة بهذا الخصوص. وقال إن "الفاصل المداري وصل هذه المرة إلى شمال مدينة بورتسودان، وهو أمر غير معتاد بالنسبة للمنطقة، وهذا يأتي متزامنا مع موجة الحرارة الشديدة".
ويوضح، في حديثه للجزيرة نت، أن "موجات الحرارة الشديدة هي إحدى مظاهر التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، وأن بورتسودان ليست استثناء"، وأضاف أن السودان أصبح يشهد كل عام إحدى الظواهر المتطرفة، سواء كان ذلك سيولا أو موجات حر شديدة، أو موجات برد قاسية".
كما توقع أن تكون التقلّبات هي السمة الغالبة للطقس المتوقع خلال الفترة المقبلة بمدينة بورتسودان، موضحا أنه "قد تهدأ حِدة الأتربة لبعض الأيام ثم تعود تارةً أخرى، إذ لا يزال الفاصل المداري جنوب المدينة، ومن المتوقع أيضا هطول أمطار جنوب ولاية البحر الأحمر، الأمر الذي قد يخلق فوارق في الضغط تثير الغبار والأتربة، لكن لا يتوقع زيادة في درجات الحرارة خلال الفترة القادمة".
ويقول إن أحد ظواهر التغيرات المناخية هو هطول أمطار في ولاية البحر الأحمر خلال شهور غير معتادة في السابق، حيث كانت الأمطار شتوية في شهور أكتوبر/تشرين الأول، ونوفمبر/تشرين الثاني، وديسمبر/كانون الأول، ولكن نتيجة للتغيرات المناخية أصبحت هناك أمطار في شهري يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول، وهي ظاهرة جديدة، حسب قوله.
دفع الطقس المتقلب إدارة المرور في ولاية البحر الأحمر لإصدار تنويه لسائقي المركبات ومستخدمي الطرق حول تأثر الولاية بالغبار والأتربة والعواصف الرملية، التي قد تؤدي إلى تدني مستوى الرؤية، وناشدت مستخدمي الطريق بالحذر وتقليل السرعة واستخدام الإضاءة الأمامية حفاظا على الأرواح.
وأكدت مديرة إدارة الطوارئ الصحية والأوبئة بوزارة الصحة السودانية ليلى حمد النيل، في تصريح للجزيرة نت، وصول 3 حالات تعاني من ضربات الشمس تم التبليغ عنها رسميا، حتى الآن، وتمت معالجتها، مع احتمالية وجود حالات لم تصل المستشفى.
وأكدت الدكتورة أن هناك عددا من المخاطر المترتبة على تقلب الطقس، منها ارتفاع درجات الحرارة، وإثارة الغبار والأتربة التي قد تؤثر على مرضى الجهاز التنفسي، مع التوصية بتقليل الحركة خلال فترات الطقس المتقلب.
وأوضحت أن ارتفاع درجات الحرارة ليس فقط في مدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر، وإنما في الولايات الشمالية ونهر النيل سنويا أدت إلى حالات إصابة بضربات الشمس والإجهاد الحراري.
وقالت إن وزارة الصحة السودانية تستعد باكرا من خلال تدريب الفرق الطبية وتوفير أدوية ومخفضات للحرارة، وتعيّن أماكن لمعالجة الحالات التي تتعرض لضربات الشمس والإجهاد الحراري، مشيرة إلى أنها بدأت في بورتسودان منذ أسبوعين بتنفيذ الخطة مع تقييم أسبوعي.
إعلانوأشارت إلى تجهيز سيارات الإسعاف لنقل أي حالة تأثرت بارتفاع درجات الحرارة في الولايات المعنية، وتدريب وتأهيل فرق الاستجابة السريعة، وتوفير طرق للتبليغ السريع عن الحالات.