طوبى للمُنصفين. مَن يُصححون خطأ ويرممون نسيانا لعظيم. هُمش كثير من الأفذاذ عن قصد ودون قصد، وأجزل عظماء العطاء للبشر فكرا وعلما، ونُسوا لأنه كما يقول عمنا الكريم نجيب محفوظ «آفة حارتنا النسيان». لكن العدل الإلهى يُقيض لنا كُل حين مَن يُعيد ترتيب الأوراق وينكش فى الذاكرة الجمعية ليّذكرنا بعزيز ونبيل وطيب.
ففى مجال الإصلاح الدينى رأينا كثيرين طرحوا مسارات للتجديد والتنوير، بعضهم لمع وتخلد اسمه، وكثير منهم انزاحوا فى موجة النسيان، وكان من المُبشر أن التفت مفكرون وباحثون لذلك وأعادوا قراءة وتقديم سير المصلحين المنسيين. وربما كان أكثر ما أسعدنى مثلا فى السنوات الأخيرة قيام المفكر النابه الدكتور أحمد سالم، باعادة تقديم سيرة عبدالمتعال الصعيدى كواحد من رواد الإصلاح الدينى العظماء لنُدرك كيف كانت هذه الأرض ولادة بالأفذاذ.
وهاهو الباحث الجاد والكاتب الفذ إيهاب الملاح، يُسعدنا ببحث آخر عظيم يُقدم فيه سيرة واحد من المجددين العظماء وهو الشيخ حسن العطار، والذى لم نقرأ عنه إلا شذرات ولم يكتب أحد عن مشروعه سوى النذر اليسير رغم عظم ما قدم.
وكتاب إيهاب الملاح الجديد، الصادر منذ أيام عن دار «ريشة» للنشر يقدم لنا بتفصيل وتأصيل سيرة مفكر استثنائى ولد فى زمن المماليك سنة 1766، وشهد تحولات كبرى فى مصر تزامنا مع الحملة الفرنسية ثم حكم محمد على ومشروعه الاستقلالى ومحاولاته للنهضة، مقدما أفكارا وأطروحات عظيمة للتحديث حتى وفاته سنة 1835.
وفى تصور «الملاح» فإنه لا يمكن دراسة رفاعة الطهطاوى دون دراسة وقراءة ما قام به حسن العطار، كما لا يُمكن فهم واستيعاب مشروع محمد عبده الإصلاحى دون إلمام بالخطوات الأولى التى خطاها حسن العطار.
وكان عبدالحمن الجبرتى، المورخ الشهير صديقا لحسن العطار وكتب عنه « إنه قطب الفضلاء وتاج النبلاء، ذو الذكاء المتوقد والفهم المسترشد، الناظم الناثر الملم بالعقول الأدبية والعقلية بحظ وافر».
ولم يكتب عن الشيخ العطار سوى قليلين منهم الباحث الأمريكى بيتر جران، وعمر الدسوقى والأديب الكبير أحمد تيمور، لكن أهم ما ينقلونه من أفكاره هو قوله «إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها.. ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها».
وكان والد حسن عطارا بالفعل، وكان يصطحبه صغيرا إلى الدكان ويعلمه البيع والشراء، لكنه لاحظ تعلقه بالعلم فألحقه بالأزهر، وأتم حفظ القرآن الكريم، وحصل على الإجازة وتم تعيينه شيخا بالأزهر سنة 1799، وصارت له حلقة شهيرة، يجتمعون عليها الطلاب لبعده عن الجمود ودعوته للحداثة. وكان يُدرس كتابى «فقه اللغة «للثعالبى و»مقامات الحريرى، وعرف كناقد كبير للأفكار السابقة. وعندما جاءت الحملة الفرنسية هرب إلى أسيوط وشهد بها وباء الطاعون وكتب لصديقه الجبرتى عن هذا الوباء وأفكاره لمواجهته ما يدلنا على أنه كان على علم بالطب.
وبعد استقرار الحملة الفرنسية عاد للقاهرة، واتصل بالفرنسيين وكان يعلمهم اللغة العربية ويتناقش مع علمائهم وفنانيهم، وأعجب بأفكارهم وحداثتهم واهتمامهم بالتفكير والفلسفة وسائر العلوم الحديثة، وهو ما عرضه بعد جلاء الفرنسيين للاتهام بموالاتهم، فسافر إلى بلاد الشام وتركيا.
وفى دمشق بدأ رحلة بحث عن تراث محيى الدين بن عربى، ثم تعلم الهندسة وعاش فى الإسكندورنة لفترة ثم عاد إلى اسطنبول لدراسة الطب وألف كتابا طبيا هو «راحة الأبدان فى نزهة الاذهان »عام 1814.
وفى عام 1815 عاد إلى مصر وبدأ تدريس العلوم الحديثة بمصر ونادى بذلك، وهو ما عرضه لهجوم التقليديين وأهل الجمود، لكنه لم يكترث مواصلا دروسه، وفى 1828 أسند له محمد على رئاسة تحرير الوقائع المصرية، وأنجز كتابه المهم فى أصول الدين، واختير سنة 1830 شيخا للجامع الأزهر وتوفى سنة 1835 ونهب اللصوص مكتبته فلم يبق لنا منها شيء.
لكنه كان علما يستحق الذكر ومجددا يستحق التحية.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد نجيب محفوظ ترتيب الأوراق حسن العطار
إقرأ أيضاً:
إعادة تدوير الماضى
لم تعد الأزمة فى الإعلام العربى، والمصرى تحديدًا، أزمة أدوات أو منصات؛ بل أزمة خيال مهنى فقد القدرة على اختراق الغد، وبات يعيش على فتات الأمس. اليوم، حين تفتح صحيفة أو موقع أو شاشة فضائية، ستجد إما صدى قديمًا لحدث انتهى، أو إعادة تدوير لعناوين شاخت حتى قبل أن تُكتب، أما أن تبحث عن المختلف، العميق، القادر على أن يشدّك، فذلك يشبه البحث عن واحة فى صحراء ممتدة.
الصحافة الحقيقية ليست تلك التى تتنفس على رئة «التريند»، ولا تلك التى تجرى خلف «بوست» أو «هاشتاج»؛ الصحافة الحقيقية هى التى تقرأ المستقبل، تفكّ شفراته، وتقدّم للقارئ ما لا يعرفه، لا ما يعرفه الجميع. فحين تصطدم بمادة صحفية محترمة، ستجد نفسك — رغمًا عنك — تروّج لها، حتى لو لم تكن جزءًا من هذا الكيان، فالمحتوى الجيد يفرض نفسه، دون إعلان، ودون دعاية، ودون ضجيج.
إن ما يرهق الناس اليوم ليس كثرة الأخبار، بل رخص التجارة المبنية على عناوين صفراء تُباع منذ أكثر من ربع قرن، تلك التى تُسمّى — مجازًا — «صحافة بير السلم».
عناوين مستهلكة، قضايا هزيلة، طرق عرض مكررة، وتناول لم يعد يصلح لزمن تغيّر فيه كل شيء… إلا بعض الصحف!
القارئ المصرى لم يعد هو قارئ التسعينيات؛ هو الآن قارئ فطن، مسلح بكمّ هائل من المعرفة، يستطيع فى ثوانٍ أن يصل إلى المعلومة، وتفكيكها، ومقارنتها، وربما كشف خطأ الصحفى نفسه. لم يعد ينتظر الصحيفة كى تخبره بـ«ماذا حدث؟»؛ هو يريد الصحفى الذى يخبره: «لماذا حدث؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟».
نحن اليوم فى سباق مع:
الصحافة المحلية والصحافة العربية والإقليمية، والصحافة العالمية، والقارئ نفسه الذى بات شريكًا فى صناعة المعرفة.
الأزمة إذن ليست «سقفًا» نعليه أو نخفضه؛ الأزمة فى المحتوى ذاته: ضعيف، مكرر، مستهلك، ومصدره الأساسى ويا للعجب السوشيال ميديا، التى يفترض أنها جزء من المادة الخام، وليست مصدرًا وحيدًا للكتابة.
إن بقاء الصحافة رهن «خبر عاجل» لم يعد ممكنًا.
وأن تبقى أسيرة «قالت المصادر» دون تحليل، ونبض، ورؤية، فهذا انتحار مهنى بطيء.
ما بعد الخبر أصبح اليوم أهم من الخبر ذاته.
الإعلام الذى يريد البقاء لا بد أن يقدّم أشكالاً صحفية جديدة: تحقيقات معمقة، تقارير استشرافية، ملفات كبرى، وثائق، ومحتوى يسبق الحدث لا يلهث وراءه.
الإعلام الذى يريد أن يكون مؤثرًا لا بد أن يتخلّى عن «النسخ واللصق»، ويعود إلى غرفة التفكير، لا غرفة العناوين.
فالإعلام الذى يقرأ المستقبل… هو وحده الذى يصنعه.