أخبارنا:
2024-05-23@14:14:44 GMT

خطوات فرنسية لإعادة العلاقة القوية مع الرباط

تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT

خطوات فرنسية لإعادة العلاقة القوية مع الرباط

بقلم: بلال التليدي

قبل أقل من أسبوع، قام وزير التجارة الخارجية الفرنسي فرانك ريستر بزيارة إلى الرباط في خطوة متقدمة لتقوية الشراكة الاقتصادية وطي الخلاف معها وإرساء أسس متينة لعلاقة مستدامة بين البلدين. المؤشر القوي الذي حملته هذه الزيارة هو إعلان ريستر عزم فرنسا الاستثمار إلى جانب الرباط في الصحراء، وهو ما يعتبر تقدما إضافيا في اتجاه حسم الموقف من هذه القضية لصالح الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه.

المعطيات المتعلقة بأجندة إصلاح العلاقات الفرنسية المغربية، وطي صفحة الخلاف بشكل نهائي، تتحدث عن زيارة وشيكة لوزيري الاقتصاد برونو لومير والزراعة مارك فينو قبل نهاية الشهر الحالي، وذلك في أفق الترتيب للقاء القمة الذي يجمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والملك محمد السادس بالرباط لتتويج الموقف النهائي من الصحراء، والذي يرتقب أن يتم الإعلان عنه ضمن أجندة زيارة ماكرون للمغرب.

كان واضحا كما سبق وأشرنا إلى ذلك في مقال سابق، تعليقا على زيارة وزير الخارجية الفرنسي للرباط، أن رؤية فرنسا للسياسة الخارجية تغيرت بشكل كامل، بعد أن تعرضت لنكسات كبيرة في منطقة الساحل جنوب الصحراء، ثم في منطقة غرب إفريقيا بعد الانتخابات الأخيرة في السينغال، التي أصعدت رئيسا للحكم يحمل مشروع التحرر من النفوذ الفرنكفوني اقتصاديا وثقافيا، بحيث أصبحت باريس ترى أن مفتاح نجاح السياسة الجديدة التي من شأنها استعادة بعض نفوذها في المنطقة أو على الأقل إيقاف مسلسل تراجعه، هو إصلاح العلاقة مع الرباط، ولو كلف ذلك أن تذهب باريس بعيدا في موقفها من الصحراء لجهة الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه.

زيارة وزير الخارجية للرباط في آخر شهر فبراير الماضي ولقاؤه نظيره المغربي ناصر بوريطة، حملت جديدا مهما بالنسبة إلى الرباط، فقد أعاد تصريحاته السابقة بأن باريس كانت دائما داعما أساسيا لمقترح المغربي للحكم الذاتي، وأعطى إشارات بأن موقف باريس يسير في اتجاه التقدم، وفهم من ذلك أن هناك إكراهات، تتعلق بتوفير شروط تغير سياستها الخارجية دون الإجهاز على بعض المكتسبات، فرضت على باريس أن تدبر عملية الإعلان عن الموقف الإيجابي من الصحراء، وأن باريس تطلب بعض الوقت، على الأقل حتى تأتي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرباط، ويتم فيها الإعلان النهائي من قضية الصحراء.

الرباط تعاملت بإيجابية وحذر مع تصريح وزير الخارجية الفرنسي، واعتمدت مقاربة «ننتظر ما سيحدث من تغير في الموقف الفرنسي»، ولم تغامر بأي خطوة تشير إلى الحسم النهائي للخلاف بين البلدين، باستثناء التمويل الفرنسي لبرنامج إصلاح التعليم، الذي تبنته وزارة التربية الوطنية، والذي تزامن مع ترتيبات زيارة وزير الخارجية الفرنسي للرباط، إذ تم توقيع اتفاقيتين (قرض وهبة) بين وزارة الاقتصاد والمالية المغربية والوكالة الفرنسية للتنمية بقيمة حوالي 134,7 مليون يورو (ضمنها 4,7 مليون أورو هبة)، وهو ما يمكن أن يدرج في سياق تقاطع المصالح، أي استفادة الرباط من دعم مالي يمكن من تهدئة الإضرابات التعليمية التي دامت حوالي ثلاثة أشهر، وفي الوقت نفسه، دعم الإصلاح الموسوم بـ»مدرسة الريادة» الذي تبنته وزارة التربية الوطنية، وذلك في مقابل الاستمرار في دعم تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وتحسين مستويات تعلمها في المؤسسات التعلمية المغربية.

الرباط استقبلت تصريحات وزير التجارة الفرنسية بترحيب كبير، واعتبرت أن ذلك يشكل خطوة مهمة في اتجاه الاعتراف بسيادتها على الصحراء، لكنها مع ذلك، بقيت محتفظة بقدر كبير من الاحتياط والحذر، فالإعلان الفرنسي عن النية في الاستثمار، لا يحقق كل ما تريده الرباط، ولذلك، فهي لا تزال تنتظر خطوة أخرى أكثر تقدما، حين يتم تحويل النية إلى أفعال من خلال مشاريع واتفاقيات يتم المصادقة عليها في الخطوة القادمة، أي عند زيارة وزيري الاقتصاد والزراعة الفرنسيين إلى الرباط قريبا.

الجزائر استقبلت هذا الإعلان الفرنسي بامتعاض كبير، وجبهة البوليساريو اعتبرت الموقف الفرنسي الجديد استفزازا غير مقبول، بينما تحرك الرباط كل أوراقها لتدفع باريس إلى الخروج من دائرة الازدواجية والإعلان النهائي عن سيادة المغرب على صحرائه، بما في ذلك استعمال ورقة الاستثمار في الهيدروجين الأخضر الذي أعلنت الرباط بصدده عرضا مغريا أشعل منافسة المستثمرين الدوليين، وتسعى لتعبئة مليون هكتار من أجل استقبال الشركات المستثمرة (300 ألف هكتار في المرحلة الأولى)، وستكون مدينة العيون في الصحراء محورا لعدد كبير من هذه الاستثمارات، ولا تريد باريس أن تفقد نصيبها الوافر من هذا العرض الذي تعول فيه الرباط أن تكون فاعلا عالميا في مجال الطاقة النظيفة، وتعزز به الاستثمارات الضخمة التي قامت بها في مجال الطاقات المتجددة.

 واضح أن وزير التجارة الفرنسي جاء إلى الرباط ليعطي زخما لتصريحات وزير الخارجية الفرنسي السابقة التي حاول فيها أن يشرح التقدم في الموقف بالصحراء في علاقة مع المشاركة في تنمية الأقاليم الجنوبية، فالمعطيات التي رشحت من هذه زيارة وزير التجارة الفرنسي للرباط، تشير إلى أن باريس تسعى أن يكون لها حظ وافر في مشروع إنشاء محطة توليد الكهرباء باستعمال الهيدروجين الأخضر بنسبة 100 في المائة في مدينة العيون، والذي يتوقع أن يدعم زيارة إنتاج المغرب من حصة الطاقة المتجددة من 40 في المائة إلى 52 بالمائة بحلول 2030.

الرباط أخذت أيضا تعهدا من وزير الخارجية الفرنسي في زيارته السابقة بدعم باريس لها في الضغط لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وبالتحديد ما يتعلق منها بضمان مشاركة الجزائر في الموائد المستديرة التي ينظمها المبعوث الشخصي مع الأطراف المعنية للتوصل لحل سياسي للنزاع حول الصحراء.

الكثيرون يرون بأن أي تحول في السياسة الفرنسية لجهة المغرب، سينتج عنه توتر مع الجزائر، وأن سياسة التدرج التي انتهجتها فرنسا في تدبير موقفها لن تحول دون إفساد علاقتها مع الجزائر، لكن باريس اختارت منهجية استثمرت فيها عنصر الزمن بنحو ذكي، فالجزائر مقبلة على انتخابات وسط خلافات عميقة داخل مربع الحكم حول الولاية الثانية للرئيس الحالي عبد المجيد تبون، وقد قدمت الانتخابات إلى سبتمبر القادم، أي قبيل الزيارة التي تم الإعلان عنها للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لباريس، أي أن باريس أضحت اليوم متحررة نسبيا من ضغط الزيارة، ولها مدى زمني أوسع للمناورة بعد أن يتم حسم مرشح مراكز القوة للرئاسة، وتجرى الانتخابات ويتم انتخاب الرئيس المنتخب الجديد، والجزائر في هذه الظرفية لا تملك أن تقوم بردود فعل غير مدروسة حتى تنجح ترتيبات انتقال أو تجديد شرعية السلطة، والرئيس الجديد أو القديم الجديد سيجد نفسه في نهاية المطاف أمام واقع تغير السياسة الفرنسية في المنطقة، وسيكون ملزما بالتكيف، بحكم أن السياسة الخارجية بالمنطقة كلها تغيرت في اتجاه معاكس، بما في ذلك ليبيا، التي أعلنت مؤخرا أنها غير معنية بأي هيكل سياسي في المنطقة يكون بديلا عن اتحاد المغرب العربي أو يروم إقصاء وعزل المغرب.

المصدر: أخبارنا

كلمات دلالية: وزیر الخارجیة الفرنسی وزیر التجارة إلى الرباط زیارة وزیر أن باریس فی اتجاه

إقرأ أيضاً:

تحول مثير.. لماذا قررت فرنسا دعم تحرك المحكمة الجنائية ضد نتنياهو؟

متوشحا بالسواد المعبّر عن الحداد نزل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الطائرة الرئاسية الفرنسية في زيارة وصفتها صحيفة "لوموند" بالمتأخرة، بدا العنوان ظاهرا في كل خطوة يخطوها ماكرون، دعم إسرائيل ومواساتها بعد 17 يوما من طوفان الأقصى.

"على إسرائيل أن تتوقف عن قصف قطاع غزة وقتل المدنيين".

بواسطة إيمانويل ماكرون

Nous sommes liés à Israël par le deuil.

Trente de nos compatriotes ont été assassinés le 7 octobre. Neuf autres sont encore portés disparus ou retenus en otage.

À Tel-Aviv, auprès de leurs familles, j'ai exprimé la solidarité de la Nation. pic.twitter.com/d62qT7e8US

— Emmanuel Macron (@EmmanuelMacron) October 24, 2023

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"بيرقدار آقنجي".. لِمَ كانت الأفضل في إيجاد طائرة الرئيس الإيراني المفقودة؟"بيرقدار آقنجي".. لِمَ كانت ...list 2 of 2الموت الطائر.. لماذا تعد المروحيات أكثر خطورة وعرضة للسقوط؟الموت الطائر.. لماذا تعد ...end of list

منذ اللحظة الأولى حاولت فرنسا تبني الحزن الإسرائيلي بالتذكير بالضحايا من مزدوجي الجنسية، غرد ماكرون حول ذلك ودندنت به وسائل الإعلام الفرنسية إلا قليلا، لكن الود بين تل أبيب وباريس لم يدم طويلا، أو أنه يدوم بالطريقة التي رغبت بها حكومة نتنياهو، فقد جاء التحذير الفرنسي أكثر من مرة من تجاوزات الجيش الإسرائيلي، وانتهى الأمر بدعم  باريس إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن عزمه إصدار مذكرة اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزير الدفاع يوآف غالانت، إلى جانب 3 قيادات من حماس هم إسماعيل هنية ومحمد الضيف ويحيى السنوار.

وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت (يمين) ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

لم يكن مفاجئا طبعا مطالبة فرنسا برؤوس قادة المقاومة الفلسطينية، فهي التي كانت قد طالبت منذ بداية المواجهات بتشكيل تحالف دولي يقضي على المقاومة أسوة بتنظيم الدولة الإسلامية، لكن لا أحد ينكر أن دعم قرار دولي ضد قيادات الصف الأول الإسرائيلي -وعلى رأسها نتنياهو- فاجأ أحباب إسرائيل وكارهيها على حد سواء.

لماذا تغير خطاب ماكرون؟

بين ليلة وضحاها عدلت فرنسا بهدوء موقفها تجاه الحرب في غزة بشكل لم يكن متوقعا، إن باريس -التي تعد موطن أكبر المجتمعات اليهودية والمسلمة في أوروبا وتخوض حربا ضروسا في الداخل على كل مظاهر التدين الإسلامي- حولت تدريجيا بوصلة سياساتها منذ اندلعت معركة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ففي بداية الهجوم سارعت فرنسا للانضمام إلى نظرائها في الاتحاد الأوروبي، وأعلنت دعمها الكامل لحق الاحتلال الإسرائيلي المزعوم في الدفاع عن نفسه، فيما أضاء برج إيفل بألوان العلم الإسرائيلي.

ومن بين كل الحلفاء اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تشكيل تحالف دولي ضد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على غرار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وفي الوقت ذاته حظرت على أراضيها التجمعات المؤيدة لفلسطين.

لم تكتفِ فرنسا بذلك، فبعد أسبوعين من عملية "طوفان الأقصى" التقى ماكرون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القدس ضمن جولة شملت مصر والأردن تضامنا مع تل أبيب، دون اكتراث بأعداد القتلى المدنيين في غزة.

لكن الدور الفرنسي لم يسر على الوتيرة نفسها، ففي غضون أقل من 3 أسابيع هدأت نبرة ماكرون الداعمة للاحتلال وخرجت تصريحاته نسبيا عن الاصطفاف الأوروبي، داعيا إسرائيل إلى وقف قتل المدنيين، فيما استضافت باريس مؤتمرا لجمع المساعدات الإنسانية من أجل الفلسطينيين، وتعهد المؤتمر بتوفير تبرعات فرنسية تتراوح بين 20 مليونا و100 مليون يورو هذا العام.

تشهد السياسة الخارجية لفرنسا في آخر عقدين تحولا بطيئا عن مواقف كانت في الماضي عقيدة فرنسية راسخة في ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، لقد كانت فرنسا ترى أنه لا يمكن تسوية الصراع إلا عن طريق حل الدولتين (وبالتالي رفضت باريس عام 2017 الاعتراف بقرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب جعل القدس عاصمة لإسرائيل، إذ اعتبرت أن القدس أرض محتلة)، ورغم ذلك فإن الرؤساء المتعاقبين منذ مطلع الألفية بدؤوا بالتخلي تدريجيا عن هذه العقيدة السياسية والاصطفاف بشكل أكثر صراحة مع مواقف إسرائيل.

تعود علاقة فرنسا الرسمية مع القضية الفلسطينية إلى نوفمبر/تشرين الثاني 1947 حين صوتت باريس لصالح قرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية والأخرى يهودية، وأسفر ذلك القرار عن إعلان تأسيس دولة الاحتلال التي اعترفت بها فرنسا.

لكن الوثائق السرية تشير إلى دور الحكومة الفرنسية الذي مهّد لظهور الكيان الصهيوني، بدءا من اتفاقية "سايكس بيكو" وموافقتها على وعد بلفور.

وبحلول الخمسينيات كانت فرنسا الحليف الذي لجأ إليه الاحتلال والمورد الرئيسي للأسلحة والعتاد العسكري حتى أن الفرنسيين كانت لهم المساهمة الكبرى ببناء المفاعل النووي في ديمونة بصحراء النقب.

ولم تقف الحماية عند ذلك الحد، بل تدخلت فرنسا إلى جانب بريطانيا وإسرائيل عام 1956 ضمن العدوان الثلاثي الذي هدف بالأساس إلى الإطاحة بحكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

بوصول الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى السلطة لم تعد مواثيق الصداقة بالمتانة ذاتها، وعقب حرب عام 1967 -التي احتلت إسرائيل على إثرها سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان- علقت فرنسا صفقات بيع الأسلحة لتل أبيب، كما دعمت قرارات مجلس الأمن لإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وكانت تلك الخطوات بمنزلة شرخ في العلاقات بين فرنسا وإسرائيل.

وقد استمرت العلاقات الدبلوماسية على ودها البارد، في الوقت الذي اتجهت فيه دولة الاحتلال إلى الاعتماد على تحالفها الوثيق مع واشنطن.

شهدت حقبة الثمانينيات بوادر تقارب جديد بوصول الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إلى السلطة وزيارته دولة الاحتلال، لكن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعتبرتها واشنطن وإسرائيل آنذاك منظمة إرهابية.

ثم استمرت فرنسا على هذا النهج عقب تولي الرئيس جاك شيراك الذي دعا صراحة للاعتراف بدولة فلسطين.

عموما، عُدّت فترة حكم ميتران وشيراك العصر الذهبي للقضية الفلسطينية في باريس، ومع وصول نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه عام 2007 بالتزامن مع هجوم إسرائيل على غزة عقب سيطرة حركة حماس على القطاع شهدت السياسة الفرنسية نقطة تحول ومنعطفا جديدا كان أول شواهده استقبال الرئيس الفرنسي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون في باريس رغم جرائم الحرب التي ارتكبها جيشه بحق الفلسطينيين.

وقد استمرت السياسة الفرنسية على النهج الموالي لإسرائيل مع فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون، حيث قدّما نفسيهما على أنهما صديقان للاحتلال، من دون التخلي شكليا عن مبدأ حل الدولتين، والاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.

لكن الذي اختلف هو أن أحدا لم يعد يضغط بقوة من أجل حل القضية الفلسطينية بشكل عادل في ظل تطور العلاقات بين باريس وتل أبيب.

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (الأوروبية) من الدعم غير المشروط إلى الإدانة المشروطة

لم يكتفِ ماكرون بتقديم الدعم، بل طار إلى تل أبيب ليكون قريبا من حلفائه، ودعا من هناك إلى تشكيل تحالف دولي لاجتثاث حماس، لكن عقب مرور أسابيع من "طوفان الأقصى" فشل الاحتلال في استعادة أسراه أو إحداث أي انتصارات عسكرية ذات قيمة في المعركة، في الوقت الذي قتل فيه آلاف المدنيين الفلسطينين بدم بارد.

غيّر ماكرون تعاطيه مع الحدث، ووجه في لقاء له مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) انتقادات لحرب الاحتلال وحملته البرية على غزة علانية بقوله "يجب على إسرائيل أن تتوقف عن قتل الأطفال والنساء وكبار السن في غزة، لا يوجد مبرر للقصف".

وبعدما كان ماكرون يدعو العالم إلى الوقوف في صف إسرائيل تغيرت لهجته وبات يدعو القادة الأوروبيين والولايات المتحدة إلى دعم موقفه من أجل الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار.

تكشف بعض أسرار هذا التحول مذكرة كان من المفترض أن تكون سرية، لكنها سُربت لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، لقد كتب 12 سفيرا فرنسيا في الشرق الأوسط ومنطقة المغرب العربي مذكرة جماعية وقعوا عليها وأرسلوها إلى قصر الإليزيه ووزارة الخارجية الفرنسية، وهي سابقة في تاريخ الدبلوماسية الفرنسية.

تضمنت المذكرة اعتراضات صريحة وتحذيرات من تداعيات المواقف التي اتخذها ماكرون لدعم إسرائيل، وباتت فرنسا على إثرها متهمة بالتواطؤ في أعمال الإبادة التي قام بها الاحتلال في غزة، لقد تصاعد الغضب إلى حد تهديد أحد السفراء الفرنسيين العاملين في المنطقة بالقتل، ولذا اتخذ السفراء موقفا دبلوماسيا داخليا، في محاولة لتغيير موقف الحكومة الفرنسية والعودة بها مرة أخرى إلى التوازن.

ليست تلك الرسالة وحدها على ما يبدو هي ما دفع ماكرون إلى مراجعة سياسته، فالعملية التي شنتها حماس والغزو البري الإسرائيلي كانا كفيلين بإشعال التوترات العميقة في الداخل الفرنسي.

إن فرنسا موطن لنحو نصف مليون يهودي، وفي الوقت نفسه يمثل المسلمون ما لا يقل عن 6 ملايين نسمة من سكانها البالغ عددهم 70 مليون شخص، ومعظمهم من المغرب العربي، مما يجعلهم أكبر مجتمع مسلم في أوروبا.

كانت تلك اعتبارات من المفترض أن يضعها ماكرون في الحسبان قبل أن يعلن دعمه غير المشروط لإسرائيل، وقبل أن تتخذ شرطة باريس موقفا قاسيا ضد الاحتجاجات المناصرة للقضية الفلسطينية.

سرعان ما أصبحت فرنسا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تدعو رسميا وعلنا إلى وقف إطلاق النار في غزة وإلى هدنة مستدامة بين حماس والاحتلال لإنهاء الحرب.

لم تكن الدوافع الفرنسية نتيجة صحوة متأخرة بقدر ما كانت مرتبطة بأسباب براغماتية مرتبطة بطموح فرنسا لإعادة تأثيرها المفقود على الساحة العالمية، وإعادة موضعة نفسها في الشرق الأوسط كي تحظى بمصداقية كافية تتيح لها أن تكون وسيطا حقيقيا ذا صوت مسموع.

يأتي كل ذلك في إطار سياسة "الاستقلال الإستراتيجي" عن واشنطن التي تتبناها باريس تحت قيادة ماكرون، في محاولة منه لاستدعاء الإرث القديم لديغول، بعد أن اتجهت باريس إلى الاصطفاف أكثر مع واشنطن منذ رئاسة ساركوزي.

حسابات معقدة

يمكن قراءة التحولات المفاجئة في تصريحات ماكرون أيضا في خضم الصراعات الداخلية في فرنسا بين التيارات السياسية المختلفة، فقد انقسم المشهد السياسي في البلاد إلى 3 تيارات أساسية: اليمين المتطرف بقياداته المختلفة، واليسار الراديكالي بقيادة حزب "فرنسا الأبية"، ثم هنالك ما يعرف بـ"التيار الماكروني" الذي لا يعبر فقط عن داعمي الرئيس الفرنسي الحالي، لكنه تيار سياسي واسع لا ينتمي إلى التيارات السياسات الكلاسيكية ويشق خطا مختلفا له.

في البداية، اختار ماكرون وتياره اتخاذ موقف حاد من هجوم المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وذلك من خلال إظهار انحياز واضح لتل أبيب، وذلك لتجنب مزايدات اليمين المتطرف الذي يحاول في السنوات الأخيرة التخلص من عار الوصمة النازية، والتعبير عن دعم كامل لليهود ممثلين في إسرائيل، لتجاوز بعض التصريحات والمواقف القديمة التي وضعت هذا التيار في خانة "معادية للسامية".

لذلك، دعمت الحكومة الفرنسية إسرائيل، محاولة في الوقت نفسه الاستئثار بهذا الدعم عبر التذكير بالمواقف القديمة لليمين المتطرف، وهو ما جاء في تغريدة لرئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن قالت فيها إن حضور حزب مارين لوبان في "المسيرة ضد معاداة السامية" التي نظمت في 12 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي "لا يخدع أحدا".

وفي التغريدة ذاتها قالت بورن إن غياب حزب "فرنسا الأبية" يتحدث عن نفسه، وهنا تظهر قطعة أخرى من الأحجية السياسية الفرنسية، فمنذ بداية الأحداث اتخذ حزب "فرنسا الأبية" موقفا داعما لغزة، مسلطا الضوء على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين.

كما وصف بعض أعضاء الحزب ما يحدث في القطاع بالإبادة العرقية، في الوقت الذي كانت البرامج الحوارية الفرنسية تمجد دولة الاحتلال ليل نهار، وتشن هجوما قويا على كل شخص يتجرأ على انتقاد تل أبيب، بل ونتنياهو.

كانت إستراتيجية الحكومة الفرنسية دائما هي اعتبار اليسار الراديكالي وجها آخر لليمين المتطرف عبر اتهامه بمعاداة السامية وتأجيج الرأي العام ضد إسرائيل، وهو ما يعد محرما في فرنسا، ناهيك عن وصفه حركة "حماس" بأنها "حركة مقاومة"، وهو ما يعد خروجا كبيرا على النغمة السياسية السائدة في باريس.

لكن مع استمرار الحرب الإسرائيلية القاسية ومواصلة حزب جون لوك ميلانشون دعمه لغزة مسجلا حضورا دائما في المظاهرات الداعمة لفلسطين حتى في فترة المنع الرسمي وجد ماكرون نفسه مطالبا بإيجاد موقف متوازن لتأكيد سياسته المختلفة عن سياسات "التيارات المتطرفة" -من وجهة نظره- على الجانبين.

بدأ هذا التغير تدريجيا، في البداية كان التساهل نسبيا مع تنظيم تجمعات ومظاهرات داعمة لفلسطين، لينتهي الأمر بانتقاد رغبة إسرائيل في القضاء على حماس بحجة أن هذا الهدف غير واقعي ويمكن أن يطيل أمد الحرب لسنوات، والمطالبة بوقف دائم لإطلاق النار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)

لا يمكننا قراءة هذا التغير في الموقف الفرنسي الرسمي بوصفه رؤية إستراتيجية بقدر ما يمكن رؤيته على أنه رد فعل ناجم عن الضبابية الكبيرة التي يعيش فيها الإليزيه في ما يخص عددا كبيرا من القضايا، ومنها الملفات الخاصة بالشرق الأوسط، حيث لا يمكننا وصف التحركات الفرنسية في المنطقة بكونها ناجحة، بما في ذلك تحركاتها في لبنان، الساحة الأبرز للنفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط.

وفي الوقت نفسه، فإن هذا السعي الحثيث وراء أحلام العودة إلى لعب دور خارجي أوسع يُفقد ماكرون وبلاده الكثير من المصداقية كما ترى أنييس لوفالوا الكاتبة والباحثة في معهد الأبحاث والدراسات بشأن البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، خصوصا حين نادى بتشكيل تحالف للقضاء على حماس.

لا تملك فرنسا أيضا أي وسيلة حقيقية لتحقيق الحل الذي لطالما نادت به، وهو حل الدولتين، كما أنها تعلم يقينا أن مسألة تسليم غزة للسلطة الفلسطينية لا يقل صعوبة عن إنهاء المقاومة الإسلامية في القطاع.

يملك ماكرون إلى جانب كل هذه الأسباب سابقة الذكر سببا مهما لاتخاذ موقف مختلف ألا وهو أن استمرار الحرب يزيد انفجار الموقف داخليا بسبب تنامي الإسلاموفوبيا والعداء للسامية في آنٍ واحد على الأراضي الفرنسية.

لذا بات الرئيس الفرنسي مجبرا على البحث عن توازن دقيق لا يُغضب المسلمين ولا ينفر المجتمع اليهودي على السواء لتفادي تفاقم الاستقطاب الداخلي، وفي الوقت نفسه لمحاولة استعادة نفوذ باريس الضائع.

لقد أثبتت الأيام الأخيرة تخبط مساعي الأطراف التي حققت مكاسب فورية من إشعال التوترات العميقة في فرنسا أملا في الفوز بحصة من أصوات الناخبين على اليمين أو اليسار، والأهم أن الدعم الغربي الأعمى للاحتلال فتح الباب لوسطاء جدد بعيدا عن لندن وواشنطن وبرلين.

وتعد تلك فرصة في نظر ماكرون للعودة مجددا إلى المبدأ الديغولي القديم واستعادة السياسة الفرنسية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية.

ولعل اتخاذ باريس موقفا مختلفا بطريقة راديكالية عن حليفتها واشنطن في ما يخص قرار المحكمة الجنائية الدولية يؤكد لنا أكثر فأكثر أن خط فرنسا الخارجي أصبح يخضع لحسابات أعقد بكثير من حسابات التحالفات الكلاسيكية.

مقالات مشابهة

  • الرئيس الفرنسي يدعو إلى التهدئة في كاليدونيا الجديدة
  • فرنسا تعتمد التدريج في زيارات كبار المسؤولين إلى الرباط قبل مجيئ ماكرون
  • الخارجية الإسرائيلية تشكر باريس بعد موقفها من الاعتراف بدولة فلسطين
  • باريس: الاعتراف بدولة فلسطينية ليس من المحظورات
  • "الخارجية الروسية": العلاقات بين موسكو وباريس تمر بأزمة عميقة
  • نائب بريطاني يتهم سفير بلاده في الرباط بمعارضة الاعتراف بمغربية الصحراء
  • التقارب بين باريس والرباط متواصل وزيارة رسمية مرتقبة لرئيس الحكومة الفرنسية للمغرب
  • ماكرون يعتزم زيارة إقليم كاليدونيا المضطرب
  • وزير الخارجية الفرنسي: لا ينبغي للجنائية الدولية أن تضع إسرائيل وحماس على قدم المساواة
  • تحول مثير.. لماذا قررت فرنسا دعم تحرك المحكمة الجنائية ضد نتنياهو؟