الجزيرة نت تحاور مصمما عالميا استعاد وجه الفرعون الذهبي وأدخلته سلحفاة موسوعة غينيس
تاريخ النشر: 16th, May 2024 GMT
كيف يستطيع رجال الشرطة استعادة ملامح المجني عليهم التي شوهها الجناة لمحو آثار الجريمة؟ وكيف يتمكن العلماء في الدراسات العلمية من وضع تصور لشكل الإنسان البدائي أو حتى البشر الذين عاشوا في حقب تاريخية قديمة؟
كنت أظن أن برامج الحاسوب سهلت هذه المهمة، وأن الأمر لا يحتاج لمهارة بشرية كبيرة، حتى قادتني الصدفة إلى دراسة علمية عن مومياء مصرية قديمة نجح الباحثون في استعادة ملامحها المفقودة، وعندما راسلت الباحث الرئيسي عن الدراسة بأسئلتي عن هذا العمل، أحالني إلى الباحث الأول، وشريكهم في العمل "سيسيرو مورايس" المصمم البرازيلي ثلاثي الأبعاد، فوجدته يتحدث في التفاصيل العلمية، وعندها أدركت أن المسألة أعمق بكثير من مجرد برامج يجيد الرجل العمل عليها حتى يتمكن استعادة الملامح المفقودة.
لم أتردد في طلب إجراء مقابلة صحفية معه لمحاولة الاقتراب أكثر وأكثر من تلك المهنة، لأتفاجأ أثناء الإعداد لهذه المقابلة بأنه الرجل نفسه الذي يقف خلف كثير من الإنجازات العلمية الشهيرة التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية في السنوات الأخيرة، ومنها استعادة وجه الفرعون الذهبي توت عنخ أمون، وإعادة تشكيل وجه امرأة قد تكون أقدم إنسان مشى على الأرض قبل 45 ألف عام، وإنتاج أول غلاف صناعي مطبوع بتقنية ثلاثية الأبعاد في العالم لسلحفاة، وهو العمل الذي أدخله موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية.
وفي حوارنا معه أجاب "سيسيرو مورايس" على 13 سؤالا عن تفاصيل مهنته التي تكشف أسرار الماضي وتزيل الغموض عن بعض أحداث الحاضر، وتساهم في تخفيف آلام البشر والكائنات الحية عبر المساهمة في التخطيط للعمليات الجراحية والطباعة ثلاثية الأبعاد للأعضاء والأطراف المفقودة.. فإلى نص الحوار.
حصلت على شهادة في التسويق، وتعلمت رسومات الحاسوب بنفسي، ودرست مبادئ التشريح، واليوم أساهم في العديد من الأبحاث مع الفرق الدولية المرتبطة بالجامعات.
وما الذي أثار اهتمامك بالتصميم ثلاثي الأبعاد وإعادة بناء الوجه؟تعرضت أنا وعائلتي في عام 2011 لعملية سطو، وهاجمت بنفسي اثنين من اللصوص المسلحين، ولم أكن مسلحا، وأصبت برصاصة في رأسي، وعلى الرغم من أنني نجوت دون إصابات خطيرة، فإن هذه الحادثة طورت قلقا حادا واكتئابا (بسبب التجربة غير السارة)، ولمقاومة هذه المشاعر بدأت في دراسة شيء كان يثير اهتمامي منذ التسعينيات، وهو إعادة بناء الوجه الشرعي، ولقد ساعدتني الدراسة في التغلب على كل شيء والتعافي تماما.
وكيف دخلت في مجال إعادة بناء وجوه المومياوات القديمة والحفريات البيولوجية؟منذ بداية دراستي، كنت مهتما بتقريب المومياوات، خاصة تلك المرتبطة بمصر القديمة، فهو مجال يحظى بتقدير كبير ودراسة من قبل علماء الآثار، والعديد من المتاحف لديها في مجموعاتها مومياوات ترغب في معرفة شكل الوجه من أجل تقديمه للزوار.
والأمر نفسه ينطبق على الحفريات، لأنه في اللحظة التي نعرض فيها وجها، فإن الاهتمام من جانب الزوار في المتاحف يزيد، ومتابعي المواقع الإلكترونية يُقبلون على قراءة المادة، مما يجعل الموضوع أكثر شهرة. ومن يعرف، فقد يكون ذلك سببا في ظهور علماء آثار أو مؤرخين جدد.
من المؤكد أن الجزء الأصعب هو ما يتعلق بقضايا الطب الشرعي، فنحن نعمل على قضايا يكون المطلوب فيها استعادة وجوه أشخاص مقتولين، وفي نهاية المطاف، مثل هذه الأحداث تكون وقعت حديثا، وهناك عائلة وأصدقاء عاشوا مع ذلك الشخص، ويأملون في التعرف عليه عند إعادة بناء وجهه ليتمكنوا من تحديد هويته لاحقا.
هل يحتاج هذا العمل إلى خلفية طبية أو علمية؟ليس بالضرورة، ولكن في حالتي أنا أحب أن يكون لدي خلفيات علمية وطبية، فهذا يجعل عملي مميزا، وبالصدفة أقوم بتطوير تقنية (مجانية ومفتوحة المصدر) للتخطيط الجراحي لدى البشر وفي المجال البيطري، ونحن نعمل في تلك التقنية على التخطيط الجراحي من الأطفال إلى البالغين، ولدي طلاب من 29 دولة مختلفة يتعلمون هذه التقنية.
وبالإضافة إلى ذلك، نعمل أيضا على تطوير الأطراف الصناعية للإنسان وفي المجال البيطري، وفي عام 2022 كان عملنا حاضرا في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأول غلاف سلحفاة مطبوع بطريقة ثلاثية الأبعاد في العالم، كما عملنا أيضا على العديد من الحالات الأولى الأخرى في العالم لكن لم تسجل بعد في موسوعة غينيس.
التحديات الرئيسية هيكلية، سواء عندما يكون جزء من الجمجمة مفقودا، أو عندما تكون الجمجمة مكسورة تماما ونحتاج إلى إعادة بنائها، أو حتى عندما نعمل على كائن حي منقرض، إذ نحتاج إلى العثور على بيانات من نظير حديث أو حيوان مماثل، ونحن نحل التحديات من خلال دراسة علم التشريح، وكلما أمكن، نشارك النتائج من خلال المنشورات، حتى يتمكن الآخرون من تكرار هذه التقنية.
وما هي خطوات عملية إعادة بناء الوجه من جمع البيانات الأولية إلى النموذج النهائي ثلاثي الأبعاد؟في البداية نحتاج إلى مسح الجمجمة، والذي يمكن إجراؤه باستخدام الأشعة المقطعية أو المسح بالليزر، ونستخدم بعد ذلك البيانات التي جُمعت من أشخاص أحياء، سواء عن طريق القياس الخارجي أو قياس الموجات فوق الصوتية أو القياسات المأخوذة عن طريق الأشعة المقطعية، وبشكل تقريبي نستخدم هذه البيانات لنمذجة الوجه، ولهذا السبب نود أن نسميها تقريب الوجه الشرعي وليس إعادة بناء الوجه، فالمصطلح الأول أكثر توافقا مع هذا النهج، وبالنسبة لعملي فأنا أستخدم بعض الحلول التي طورتُها بنفسي مع بعض الفرق البحثية.
تُعد الدقة مهمة جدا عندما تكون الجمجمة التي نعمل عليها كاملة، ولكن في بعض الحالات عندما يكون هناك هيكل مهم مفقودا، نحتاج إلى اللجوء إلى التوقعات بناء على المسوحات التي أجريت على جماجم أخرى.. وبشكل عام، نحن نصل إلى صورة تقريبة، لكن من الصعب جدا الحصول على دقة كاملة، لوجود جزء مفقود.
ما الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في عملك، وهل هناك أي تقنيات ناشئة في مستقبل إعادة بناء الوجه؟تُعد الرسومات الحاسوبية أمرا ضروريا في عملي، كما أن متابعة المقالات المنشورة في المجلات مهمة للتعلم، وقد ساعدني ذلك على تطوير التكنولوجيا الخاصة بي والتي استخدمتُها في أبحاث نشرت نتائجها في العديد من الدوريات، وفيما يتعلق بالتقنيات الناشئة يبدو لي حاليا أن الذكاء الاصطناعي واعد جدا في مجال تقريب الوجه، وأيضا في التخطيط الجراحي، ويمكنه تسهيل بعض المهام دون فقدان الدقة اللازمة، ومع ذلك فإن المستقبل وحده هو الذي سيخبرنا ما إذا كانوا يعملون بشكل جيد بما فيه الكفاية أم لا، آمل ذلك.
بالنسبة لي، كلهم مميزون بطريقة ما، لأنني كرست لهم الكثير من وقتي، لكن من بين أكثر الأشياء التي تُذكر من حيث الشعبية، إعادة تشكيل وجه امرأة قد تكون أقدم إنسان مشى على الأرض قبل 45 ألف عام، وعثر باحثون في التشيك منذ 70 عاماً على بقايا جمجمة متحجرة لهذه المرأة التي يُطلق عليها اسم "زلاتي كون" أو الحصان الذهبي، ويُعتقد بأن حيوانا افترسها بعد موتها، واستخدمنا القياسات المسجلة والصور المرجعية ونجحنا في هذه المهمة، كما أعدنا تشكيل وجه الفرعون الذهبي "توت عنخ امون".
ومن الإنجازات المهمة أيضا النجاح في إنتاج أول غلاف صناعي مطبوع بتقنية ثلاثية الأبعاد في العالم لسلحفاة، بعد أن احترق معظم غلافها الطبيعي في حريق غابة في البرازيل (انظر الفيديو)، ودخلنا موسوعة غينيس للأرقام القياسية بهذا العمل، علاوة على ذلك لدينا حالات للتخطيط الجراحي، وعلى الرغم من أنها لا تحظى بشعبية في السياق الإعلامي، فقد ساعدت الكثير من الناس، وهذا يمنحني فخرا كبيرا، وبالطبع يدفع لمواصلة دراسة التقنيات وتطويرها.
ما حجم تعاونك مع الباحثين وعلماء الآثار وخبراء الطب الشرعي وغيرهم من المتخصصين ؟أنا أعمل مع العديد من الخبراء من مختلف البلدان، ونشرت كثيرا من نتائج أبحاثي سواء في مجال تقريب الوجه أو في المجال الطبي، ولدي مدرسة عبر الإنترنت تضم طلابا من 29 دولة معظمهم من الجراحين الذين يستخدمون التكنولوجيا التي نطورها، وكل يوم نحلّ بعض التحديات التقنية المتعلقة بالتخطيط الجراحي.
ومن المهم الإشارة إلى أن نتائح دراسات تقريب الوجه تُطبق بشكل عام في المجال الطبي، وبفضل تبادل المعلومات بين المتخصصين أصبح عملنا أكثر دقة على نحو متزايد، ونحن نعمل من أجل هذا.
غالبا ما يعمل تقريب الوجه كعنصر يُعطي وجها لبقايا بشرية، مما يثير الاهتمام بين عامة الناس، ولكن ليس ذلك فحسب، فمن خلال تقريب الوجه يمكننا اكتشاف خصائص فريدة أو مدروسة قليلاً مثل الحالة الوراثية أو علم الأمراض وطرح الموضوع للنقاش بين السكان. والمثال التعليمي هو امرأة شابة مصابة بمرض الزهري الثالثي تنتمي للقرن السادس عشر، فقد قمنا بتقريب الوجه وتناولنا مسألة المرض الذي كان منسيا تقريبا، واستغلينا هذا العمل كعنصر إعلامي للسكان بشأن المرض وإيقاظ الشعور بالرعاية والاحتياط.
أخيرًا، هل يمكنك مشاركة أي نصيحة للمصممين ثلاثي الأبعاد الطموحين أو الأفراد المهتمين بالعمل في إعادة بناء الوجه وعلم الآثار الرقمي؟في الوقت الحاضر، هناك كمية هائلة من المواد التعليمية بشأن النمذجة ثلاثية الأبعاد أو تقريب الوجه المتاحة على الإنترنت، فإذا بذل الفرد جهدا يمكنه أن يتعلم بشكل مرضٍ تماما كيفية العمل في هذا المجال، أقول هذا لأنه بالإضافة إلى اتباع هذا المسار، أرى اليوم العديد من الأشخاص يتعلمون ليس فقط في الدورات التي أدرسها، ولكن من خلال المنشورات التي نوفرها لأولئك الذين يرغبون في التعرف على هذه التقنية، فإذا توفرت الإرادة والجهد والرغبة، فالباقي مسألة وقت.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات للأرقام القیاسیة ثلاثیة الأبعاد ثلاثی الأبعاد موسوعة غینیس فی العالم العدید من فی المجال هذا العمل فی مجال من خلال التی ت
إقرأ أيضاً:
هل كوننا مجرد غشاء يطفو على أطراف واقع أغرب بكثير؟
مقدمة الترجمة
هل نحن حقًّا نعيش في "الكون"؟ أم أننا مجرّد ظل مرتجف على جدار واقع أعظم؟ منذ قرون، تساءل البشر عن أصل الزمان والمكان، عن المادة والفراغ. لكن اليوم، يقف الفيزيائيون على أعتاب تصوّر أغرب من الخيال: أن عالمنا، بكل ما فيه من نجوم ومجرات وأحلام، ليس سوى "غشاء" رباعي الأبعاد يطفو فوق فقاعة زمكانية خماسية، لا وجود لشيء خارجها على الإطلاق، ويتسرّب منها الزمن كما تتسرّب الذكريات من حلمٍ بعيد.
في قلب هذه الفرضيات تقف نظرية الأوتار، التي لطالما حلمت بتوحيد قوى الطبيعة في نغمة واحدة، لكنها تعثّرت أمام لغز غامض: لماذا يتسارع كوننا؟ واليوم، يحاول بعض الفيزيائيين إعادة رسم الحدود: ماذا لو لم يكن الكون كله إلا طرف فقاعة؟ ماذا لو كانت الجاذبية تهمس عبر أبعاد خفية؟ وماذا لو لم تكن ولادة الكون بداية، بل صدًى لانفجار في مكانٍ لا نراه؟
في هذا المقال المترجم من مجلة "نيوساينتست"، نصحبك في رحلة ممتعة عبر نسيج الكون، حيث تُلامس الحقيقة أطراف الخيال، وتُصبح الفلسفة والفيزياء وجهين لذات السؤال الأبدي: من أين يبدأ الوجود؟ وإلى أين يمتد هذا الفراغ؟!
تُعدّ نظرية الأوتار أفضل مرشح لدينا لما يُعرَف بـ"نظرية كل شيء". فعندما نخضع لقوانينها، تتكشّف النظريات المتشابكة للفيزياء التقليدية على أنها أجزاء من نسيج أسمى وأكثر اتساقًا، يمتد في أبعادٍ لا نراها. وتحمل هذه النظرية بين طياتها وعدًا بتوحيد القوى الأربع في الطبيعة، بما في ذلك الجاذبية، التي استعصت طويلًا على الترويض. بل لعلها، إن أسعفها الحظ، تتمكّن من فكّ ألغاز الانفجارات الكونية الكبرى والثقوب السوداء دون أن تفقد اتساقها الداخلي.
لكن ثمّة عقبة واحدة تعترض هذا النسيج المتناغم، وهي أن نظرية الأوتار تعجز عن تفسير كون مثل كوننا. فرياضياتها قادرة على وصف عدد لا يُحصَى من الأكوان، لكنها تعجز عن وصف كونٍ يتمدد بوتيرة متسارعة تزداد كل يوم، وهو تحديدًا ما نرصده في كوننا. صحيح أن السبب الحقيقي وراء هذا التسارع لا يزال مجهولًا حتى الآن، وغالبًا ما يُستخدَم مصطلح "الطاقة المظلمة" كحل مؤقت وغامض، لكن وفقًا للنظرية، لا يوجد ما يبرر حدوث هذا التسارع الكوني.
إعلانعلى مدار خمسة وعشرين عامًا، ظلّ تسارع تمدد الكون معضلة عصيّة على الفهم. لكن لعلّنا اليوم نقترب من مخرجٍ يُطلّ بنا على أفقٍ جديد. ظاهريًّا، قد لا يبدو الحل مفاجئًا لأولئك المعتادين على الطابع غير المألوف للفيزياء الحديثة: كل ما علينا فعله هو إعادة التفكير في كوننا باعتباره جزءًا من منظومة أكبر وأشمل.
عند تبنّي هذا المنظور، يصبح التمدد المتسارع للكون ظاهرة طبيعية. لكن هذا التصور الجديد قد يكون من أكثر المقترحات جرأة حتى الآن، ففيه يغدو الفضاء الذي نعرفه خيطًا هشًّا معلقًا بين فضاءٍ هائل بأبعاد عليا، وبين اللاشيء. ويشرح الفيزيائي أنطونيو باديا، من جامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة، هذا النموذج بقوله: "في هذا النموذج، وجودنا كله ليس أكثر من ظل، مجرد إسقاط على جدار عند نهاية العالم".
على رغم مكانتها المرموقة اليوم، تنحدر نظرية الأوتار من أصول متواضعة. فقد نشأت في أواخر الستينيات من القرن الماضي، على هيئة معادلة بسيطة تهدف إلى تفسير التصادمات بين البروتونات والنيوترونات وسائر الجسيمات التي ترتبط معًا بما يُعرف بالقوة الشديدة.
في ذلك الوقت، لم تكن تُعرف باسم "نظرية الأوتار"، لكن الاسم ما لبث أن ظهر لاحقًا، حين أدرك الفيزيائيون أن تلك التصادمات يمكن قراءتها بطريقة أخرى: كأنها نغمات متعددة لأوتار كمومية خفية تهتز في عوالم لا تُرى. ومن هنا، بدأ بعض الباحثين يتساءلون بحذر: ماذا لو لم تكن هذه الأوتار مجرد أدوات لفهم الجسيمات؟ ماذا لو كانت هي ذاتها الجسيمات؟ وفقًا لهذا التصور، فإن كل جسيم أولي، سواء كان إلكترونًا أو كواركًا أو بوزون هيغز أو غيرها، ليس سوى طرف لأوتار بالغة الصغر، تهتز بنغمة مميزة.
في بداياتها، تعثّرت نظرية الأوتار في محاولتها لحساب القوة الشديدة بدقة، إلا أنها سرعان ما حققت تقدمًا ملحوظًا في مجالات أخرى. فإلى جانب القوة الشديدة، توجد ثلاث قوى أخرى معروفة في الطبيعة: القوة الضعيفة التي تتحكم في ظاهرة النشاط الإشعاعي، والكهرومغناطيسية وهي المسؤولة عن الضوء والتفاعلات الكيميائية في المادة اليومية، والجاذبية التي تُعَدّ قوة غريبة بعض الشيء، إذ تدفع كل الأشياء إلى التجاذب.
كان أول إنجاز كبير لنظرية الأوتار هو الوصف الكمومي للجاذبية، وهو أمرٌ لم تنجح أي من النظريات السابقة في تحقيقه. وبعد ذلك، امتد نجاح النظرية ليشمل القوى الثلاث الأخرى أيضًا: الضعيفة، والكهرومغناطيسية، والشديدة. وبذلك، أصبحت مرشحة بقوة لتكون "نظرية كل شيء"، أي نظرية تفسّر جميع قوى الطبيعة في إطار موحد.
اعتمدت نظرية الأوتار على رياضيات جريئة، فقد افترضت أن الزمكان لا يتكوّن من أربعة أبعاد فحسب، بل من 10. لكننا في الواقع اليومي، لا نعرف إلا أربعة فقط؛ ثلاثة أبعاد مكانية (الطول، العرض، الارتفاع)، إضافة إلى البُعد الزمني الرابع. لكن وفقًا لنظرية الأوتار، هناك ستة أبعاد إضافية، يُعتَقد أنها بالغة الصغر لدرجة أنه يستعصي علينا رصدها بحواسنا أو بأدواتنا العلمية الحالية. ولم يكن إدخال هذه الأبعاد الإضافية عشوائيًّا، وهو ما جعل معادلات النظرية قابلة للحل، ووفّر "حيّزًا رياضيًّا" يمكن للأوتار أن تلتف وتتشكل فيه.
إعلانلكن تلك الأبعاد جلبتْ معها أشياء غريبة أخرى، وهي أجسام ذات أبعاد أعلى يُطلَق عليها الأغشية. لكن المثير للدهشة أن ذلك لم يكن مفاجئًا في ثمانينيات القرن الماضي. ففي تلك المرحلة، كانت كل الاحتمالات مفتوحة، وكل شيء يبدو ممكنًا في عالم الفيزياء النظرية.
حين تشابكت الخيوط: مأزق نظرية الأوتارلكن ما بدا واعدًا، انقلب إلى مفارقة محرجة: فقد اتضح أن نظرية الأوتار مرنة إلى حدٍّ مفرط، بمعنى أن بإمكانها وصف عدد هائل من الأكوان الخيالية المحتملة، عوالم لا تُعدّ ولا تُحصى، قرابة 10 أس 500 احتمال كوني، وهو رقمٌ هائل إلى الحد الذي تفقد معه الفيزياء قدرتها على المقارنة أو التنبّؤ العلمي الجاد. ثم جاءت أواخر التسعينيات، ومعها صورة من أعماق الكون أرسلتها مستعرات عظمى، لتخبرنا بحقيقة مذهلة، وهي أن كوننا لا يتمدد فحسب، بل يتمدد بوتيرة متسارعة، وهي نتيجة مُذهلة وصادمة في آنٍ واحد.
وعلى الرغم من أن هذا الاكتشاف أربك مجتمع الفيزيائيين عمومًا، فإن ما حدث كان بمثابة كارثة لنظرية الأوتار: فمن بين كل تلك الأكوان التي تُنتجها النظرية، ستكتشف أنه من النادر جدًّا وجود كون واحد يتصرف مثل كوننا (باعتباره يتمدد بوتيرة متسارعة). وعن ذلك، يقول أولف دانييلسون، وهو فيزيائي نظري بجامعة أوبسالا في السويد: "بدأ البعض يتساءل: هل كونٌ مثل كوننا مستحيل الوجود ضمن نظرية الأوتار؟" ثم يضيف: "حتى يومنا هذا، لا نملك إجابة قاطعة".
قد يبدو الأمر غريبًا بعض الشيء، إذ كيف تعجز نظرية الأوتار عن فهم ظاهرة بسيطة كتمدد الكون المتسارع؟ لكن ما يبدو بسيطًا، يخفي وراءه هندسة خفية للزمكان، هندسة رسمها أينشتاين في معادلاته، ثم عمّقها عالم الكونيات ويليم دي سيتر في تأملاته الكونية. وفقًا لهذه الرؤية، للزمكان شكلان محتملان؛ أحدهما كرويٌّ كالكون في اتساعه، يُعرف بفضاء دي سيتر، عالمٌ يتمدد باستمرار، وهو النموذج الذي يتوافق مع ما نرصده في كوننا الحالي.
والآخر مقوّس كالسرج، يُعرف بفضاء دي سيتر المضاد، عالمٌ ساكن، لا يعرف التمدد. وهنا تنشأ المفارقة: نظرية الأوتار تنحاز إلى السكون، إلى فضاء دي سيتر المضاد، لأنه أكثر استقرارًا. لكن الكون لا يصغي لهذه المعادلات، وهو ما تُظهره البيانات الفلكية، بما في ذلك تلك المستخلصة من ملاحظات المستعرات العظمى، التي تشير إلى أن كوننا من نوع فضاء دي سيتر، أي أنه يتمدد بوتيرة متسارعة.
يبدو أن ما نراه ونشعر به ليس سوى إسقاط لواقع أعظم، واقع يتجاوز حدود حواسنا وإدراكنا. كانت بذرة الفكرة التي قد تُنقذ النظرية من مأزقها، قد زُرعت حتى قبل أن يُدرك الفيزيائيون تمامًا لغز الطاقة المظلمة أو التمدد المتسارع للكون. ففي عام 1999، وأثناء محاولتهما لفك رموز مشكلة أخرى تمامًا داخل نظرية الأوتار، بدأت العالمة ليزا راندال بالتعاون مع ورامان ساندورام في توجيه اهتمامهما نحو فكرة الأغشية، تلك الكيانات الغامضة التي تمتد في أبعاد أعلى من واقعنا. لكن اهتمامهما لم يتمحور حول الفضاءات العشر، بل حول كون أكثر تواضعًا ذي أبعاد خماسية.
في عوالم الهندسة، ثمة قاعدة بسيطة، وهي أن سطح كل شيء أقل بُعدًا من كيانه، فوجه المكعب الثلاثي الأبعاد على سبيل المثال، ليس سوى مربع ثنائي الأبعاد. وعلى هذا الأساس، توصلت ليزا راندال ورامان ساندورام إلى اكتشاف مدهش: يمكن أن يوجد فضاءان خماسيّا الأبعاد من نوع دي ستر المضاد، يفصل بينهما غشاء رباعي الأبعاد، تمامًا كما هو الحال في كوننا.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد أظهرتْ أبحاث لاحقة أجرتها راندال بالتعاون مع الفيزيائي النظري أندرياس كارش أن هذا الغشاء يمكن أن يمتلك هندسة من نوع دي سيتر، أي أنه يتمدد بمعدل متسارع، وهو ما يحدث في كوننا. ومن هنا يبرز السؤال الأهم: "هل نعيش نحن على هذا الغشاء؟" تبدو هذه الفكرة مُغرية ومثيرة للتأمل حقا.
إعلانورغم البريق النظري الذي بدا على فكرة غشاء راندال-كارش في ظاهره، فإنه لم يكن العلاج المنشود لمشاكل نظرية الأوتار. فالغشاء المحصور بين فضاءين عملاقين من نوع دي سيتر المضاد، كان يعاني من عدم استقرار مماثل تقريبا لتلك الأكوان القليلة من نوع دي سيتر، التي لا يكاد يمكن انتزاعها من أعماق نظرية الأوتار. لكن قبل حوالي خمس سنوات، حدث ما يشبه لحظة الإلهام لدى الفيزيائي أولف دانييلسون وفريقه في جامعة أوبسالا. وعن ذلك، يقول دانييلسون: "تساءلنا: ماذا لو لم يكن عدم الاستقرار مشكلة؟ ماذا لو كان هو الفرصة المخبأة في قلب المأزق؟".
يمتلك كل نموذج من نماذج الزمكان مقدارًا معينًا من الطاقة المتضمَّنة في نسيجه، وهذه الطاقة هي ما يُحدّد أنواع وسلوكيات الجسيمات، والأوتار، والأغشية، وغيرها من الكيانات التي قد توجد داخله. وإذا لم يكن الزمكان في أدنى حالة طاقتة الممكنة، فإن ميكانيكا الكم تنصّ على أن هذا الكون سيكون غير مستقر بطبيعته، وقد ينهار فجأة، ليتحوّل إلى عالم جديد، أكثر سكونًا، وأقل طاقة.
على الجانب الآخر، تخيل فريق دانييلسون زمكانا خماسيّ الأبعاد من نوع دي سيتر المضاد، يقف في أعلى درجات سلّم الطاقة، ثم راقبوا ما يحدث لو انهار جزء صغير منه. ويا للمفاجأة: ذلك الجزء المنهار سرعان ما شكّل "فقاعة مظلمة"، زمكانًا جديدًا من نوع دي سيتر المضاد. وعلى غرار سيناريو راندال-كارش، تحيط هذه الفقاعة قشرة رباعية الأبعاد من نوع دي سيتر، تشبه في خصائصها كوننا الحالي، لكن الفارق الجوهري هنا هو أن هذا الكون لم ينشأ برغم عدم الاستقرار، بل بفضله.
في هذا التصوّر الجديد، لن يكون الغشاء الفقاعي الذي يتّكئ عليه كوننا مستقرا تمامًا، لكن عدم الاستقرار هنا ليس تهديدًا، بل ولادة. في الواقع، ستتبلور فقاعات مظلمة جديدة باستمرار بعضها داخل بعض، كل منها مُحاط بغشاء من نوع دي سيتر، تحمل في داخلها كونًا جديدًا. وفي هذا المشهد الواسع، حيث تتشابك الأكوان كأنها أصداء في محيط لا نهائي، لن يصبح ما نُسميه نحن "الانفجار العظيم"، بداية كل شيء، بل فقط اللحظة التي وُلدتْ فيها فقاعتنا من رحم فقاعة أخرى أقدم.
يرى دانييلسون أن هذا التصوّر، حيث يُولد كوننا من فقاعة مظلمة، هو في الواقع أكثر منطقية من النموذج التقليدي للانفجار العظيم. ومن جانبه يقول: "لطالما أحببنا أن نتخيّل الانفجار العظيم كبالونٍ يتمدد في الفضاء، إلا أن هذه الصورة عادة ما يُقال لك إنها خاطئة، فالبالون لا يتمدد في فضاء خارجي، لأن الخارج أو (ما وراء الكون) ببساطة غير موجود. لكن في سيناريو الفقاعة المظلمة، ذلك الفضاء الخارجي موجود بالفعل".
ومع ذلك، توجد بعض المخاوف من أن تلك الفقاعة التي نحيا فوقها قد تنفجر عند التمحيص الدقيق. تكمُن المشكلة في أكثر القوى الكونية مَراوغةً وإزعاجًا: قوة الجاذبية، وتحديدًا في سبب ضعفها الشديد مقارنةً بباقي القوى. ولتدرك مدى ضعفها، تأمّل مغناطيسًا صغيرًا على باب ثلاجة، ستكتشف أنه يستطيع بقوته الكهرومغناطيسية البسيطة، التعلّق بباب معدني، ويقاوم جاذبية كوكب بأكمله، وهذا يوضح مدى ضآلة تأثير الجاذبية.
أما في عالم الأوتار، فتُسرَد الحكاية كالتالي: للجاذبية عشرة أبعادٍ لتتسلل فيها، فتتبعثر وتخفت، بينما تُحاصر القوى الأخرى في أبعاد أقل، فتبقى أكثر حضورًا وسطوة. لكن حتى مع هذا التفسير، يواجه الفيزيائيون سؤالًا مُلحًّا: لماذا لم تُصبح الجاذبية أضعف لدرجة تفقد فيها الكواكب مداراتها، أو تتناثر المجرات؟
تكمن الحيلة في تقييد الجاذبية بطريقة تجعل جزءًا صغيرًا منها فقط هو ما يتسرّب إلى الأبعاد الإضافية. لكنّ أنطونيو باديا يرى أن فقاعات الظلام تعجز عن تحقيق هذا التوازن. ففي كونٍ تتوالد فيه الفقاعات إلى ما لا نهاية، تبدو الجاذبية كأنها بلا قيود، حرة في التسرب إلى أي مكان، ولهذا السبب، لجأ فريق دانييلسون إلى إدخال أوتار إضافية في البُعد الخامس، لتعمل كأربطة تُبقي الجاذبية مشدودة إلى أغشية الفقاعات.
ومن جانبه، يقول الفيزيائي باديا إن تصوير الجاذبية لتبدو وكأنها رباعية الأبعاد في نموذج الفقاعات المتعددة كان أمرًا معقدًا للغاية. لذلك، اقترح هو وزميلاه بن مونتز وبول سافين من جامعة نوتنغهام حلًّا بديلًا أبسط، وهو الاستغناء عن فكرة "الكون المتعدد" تمامًا، والاكتفاء بوجود فقاعة واحدة فقط. وفي هذا النموذج، لا يوجد فضاء غير محدود يمكن للجاذبية أن تتسرب إليه، مما يسمح لها بأن تبقى ضعيفة كما نلاحظ، دون أن تكون ضعيفة لدرجة تُفكك الكون. وهكذا، يظل كوننا قائمًا على غشاء رباعي الأبعاد يحيط بفقاعة خماسية، لكن هذا الغشاء لم يعد فاصلًا بين عوالم متوازية، بل أصبح الحاجز الأخير، الخط الرفيع بين كون نابضٍ بالوجود، وبين اللاشيء الخالص. بعبارة أخرى، نحن بحسب هذا التصوّر، نعيش حرفيًّا على حافة الكون، على "غشاء نهاية العالم". لكن هذا الطرح يُثير سؤالًا فلسفيًّا عميقًا كما يعترف باديا: ما هو اللاشيء أصلًا؟ وكيف يمكن لشيءٍ أن يولد من رحمه؟ يُعدُّ هذا أحد أكثر الأسئلة إرباكًا وإثارة للحيرة، فقد وقف عنده الفلاسفة منذ بزوغ الفكر. لكن الفيزياء بطبيعتها لا تتعامل مع العدم أو اللاشيء، بل مع العلاقات بين الأشياء الموجودة. ولذلك، يبدو أن هذا السؤال سيظل عصيًّا على الفيزياء.
إعلانورغم استعصاء هذا الأمر على معادلات الفيزياء، فإن عالمي النظريات آدم براون وأليكس دالن قدّما في عام 2012 محاولة جريئة للاقتراب من هذا اللغز، حين كانا في جامعة برينستون. استلهما أفكارهما من أعمال سابقة لعالم الأوتار البارز إد ويتن، ورَسَما تصوّرًا لزمكان من نوع "دي سيتر المضاد"، فضاء ينحني على ذاته بلا نهاية، بصورة متكررة ومكثفة. يمكن تخيّل هذا الفضاء كأنه ورقة تُطوى مرارًا وتكرارًا، حيث تُضاف كل مرة انحناءات جديدة، حتى تصبح الورقة متناهية الصغر. وهذا الشكل من الانطواء اللامتناهي وصفه العالمان بأنه أقرب شيء إلى العدم يمكن أن تُعرّفه الفيزياء (العدم و العدم الفيزيائي واللاشيء هي اصطلاحات متداخلة، لكن بشكل عام فإن الفيزياء لا تعرف العدم الذي يمتلك طابعًا فلسفيًا، بل تعرف الفراغ الفيزيائي مثلا، وهو فراغ تنشأ فيه جسيمات افتراضية وتفنى طوال الوقت، بحسب ما تقر ميكانيكا الكم*).
يُعتبر الزمكان الذي يتخذ هذا الشكل من الانحناء اللانهائي، بيئة غير صالحة تمامًا لأي وجود. فمع بلوغ الانحناء حدّه اللانهائي، تنكمش جميع الأطوال إلى الصفر، فلا يبقى هناك "حيّز" يمكن أن يوجد فيه شيء أصلًا. ومع ذلك، لا تزال قوانين ميكانيكا الكم هي الحاكمة في هذا السيناريو، وهي لا تسمح بتصريحات حاسمة أو مطلقة بهذا الشكل. فحتى في مكان لا يحتوي على شيء على الإطلاق، تقول ميكانيكا الكم إن هناك دائمًا احتمالًا ضئيلًا بأن يظهر "شيء ما"، ومجرد لمحة من "مكان" قد تكون كافية لأن تتكوَّن منه فقاعة زمكانية جديدة.
أراد فريق نوتنغهام الاستفادة من إمكانية نشوء فقاعة زمكانية من هذا "اللا شيء"، لكنهم واجهوا مشكلة جديدة: إذا كان الزمكان الأصلي الذي تُولد منه الفقاعة منحنيًا بلا نهاية، فكيف يمكن أن تنشأ داخله فقاعة جديدة ذات هندسة معتدلة ومستقرة؟ لحسن الحظ، اعتاد الفيزيائيون على التعامل مع هذا النوع من التعقيدات
ففي نظرية الحقول الكمومية -التي تُشكّل الأساس النموذجي لفهم الجسيمات الأولية- يضطر الفيزيائيون باستمرار إلى إلغاء أو "تحييد" المصطلحات ذات الطاقة العالية في معادلاتهم، حتى لا تفضي إلى نتائج لانهائية. ورغم غرابته الظاهرية، يعمل هذا الإجراء، المعروف باسم "إعادة التطبيع" بكفاءة مذهلة. وتتجلى فعاليته في الدقة المذهلة للنتائج التي تحققها التنبؤات الفيزيائية في تجارب مصادمات الجسيمات، مثل تلك التي يُجريها مصادم الهادرونات الكبير.
في عام 2024، استخدم أنطونيو باديا وفريقه إجراءً مشابها يُعرف باسم "إعادة التطبيع الهولوغرافي"، وذلك أثناء حساباتهم لعملية تكوُّن فقاعة زمكانية ذات انحناء محدود داخل فضاء دي سيتر المضاد، يتميز بانحناء شديد ولا نهائي. وبالفعل، تكللتْ محاولتهم بالنجاح. إذ توصّل الفريق إلى أن النتيجة يمكن وصفها بدقة على أنها "غشاء نهاية العالم"، أي غشاء يفصل فقاعة الكون عن هذا الفراغ، بحيث لا يوجد شيء خارج هذا الغشاء.
في أعماق الفقاعةيُرجِّح بعض العلماء أن الكون الذي نعرفه قد لا يكون سوى غشاء رباعي الأبعاد يحيط بفقاعة من زمكان خماسي الأبعاد، محاط من الخارج بالفراغ المطلق. ووفقًا لهذا التصور، فإن الأوتار التي تُكوِّن الواقع الذي نعيشه، لا توجد على الغشاء نفسه، بل داخل الفقاعة، في الفضاء الخماسي الأبعاد، بينما تظهر أطرافها فقط على الغشاء، فنرصدها نحن على أنها الجسيمات الأولية. وبهذا، فإن ما نختبره يوميًّا من أشياء ملموسة ليس سوى ظلٍّ أو انعكاس لواقع أكبر وأعمق بكثير لا يمكن لحواسنا إدراكه.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن أفكار فريقي نوتنغهام وأوبسالا لم تصل بعدُ إلى مرحلة نظريات أوتار متكاملة. فالنماذج التي يقترحونها تقوم على وجود خمسة أبعاد فقط، في حين أن نظرية الأوتار الكاملة تتطلب عشرة أبعاد. لذا، سيكون على الباحثين أن يُثبتوا أنه من الممكن ضغط الأبعاد الخمسة الإضافية بطريقة تجعلها تنسجم مع النموذج المطروح دون أن تُفسده. وكما يقول الفيزيائي رالف بلومنهاجن من معهد ماكس بلانك للفيزياء في ألمانيا، فإن دمج هذه الفرضيات في الإطار الكامل لنظرية الأوتار سيُواجه على الأرجح تحديات جديدة.
على الرغم من أن فريق أوبسالا يزعم أنه أحرز بعض التقدّم نحو دمج أفكاره في الإطار الكامل لنظرية الأوتار، فإن العقبات الأساسية بدأت الظهور، ولا يبدو أن هناك مسارًا واضحًا لتجاوزها بعد. قد تكون هذه الصعوبات مجرد تعقيدات تقنية مؤقتة، لكنها قد تعكس أيضًا عائقًا أعمق وأكثر جوهرية في بنية النظرية نفسها، وهو ما يشير إليه الفيزيائي أنجيل أورانجا من معهد الفيزياء النظرية بمدريد في إسبانيا.
حتى لو نجحت هذه الأفكار على المستوى النظري، يبقى السؤال مطروحا: هل هي واقعية أم مجرد أفكار بعيدة عن عالمنا الفعلي؟ يحاول العلماء اختبار فكرة وجود أبعاد إضافية من خلال مراقبة سلوك الجاذبية بدقة شديدة، لمعرفة ما إذا كانت هناك تغيّرات صغيرة عن الطريقة التي نعرف بها الجاذبية. كما يمكنهم أيضًا البحث عن دلائل من خلال صور الثقوب السوداء في الفضاء، أو باستخدام مصادمات الجسيمات للكشف عن آثار قد تشير إلى وجود جسيمات مرتبطة بالجاذبية تعمل في أبعاد أعلى تُسمى "الغرافيتونات". ومع أن هذه التجارب واعدة، فإن دقتها لم تصل بعد إلى المستوى الذي يسمح بتأكيد أو نفي هذه الأفكار، رغم أنها تتحسّن مع الوقت.
في النهاية، بعثتْ هذه الأفكار نفحة من الأمل والتفاؤل في مجتمع الفيزيائيين المهتمين بنظرية الأوتار، إذ لم يعد مستبعدًا أن تكون النظرية -رغم كل ما تواجهه من صعوبات وتعقيدات- قادرة في النهاية على وصف الكون المتواضع الذي نعيش فيه، والذي يتسع باستمرار. وكما يقول الفيزيائي رالف بلومنهاجن "من المبكر جدًّا أن نُصدِر حكمًا نهائيًّا"، لكن مجرّد احتمال أننا نعيش فوق غشاء قد يعني أن هذا التسارع الكوني ليس النهاية الحتمية لنظرية الأوتار، بل ربما يكون بوابة لفهم جديد لها.
____________
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت