لا شك أن حروب أمريكا وصراعاتها الكثيرة وتدخلاتها في الدول كانت لها اثارها الاجتماعية والنفسية العميقة وظلت اصداؤها ونتائجها قائمة على جميع المستويات وكان من علاماتها هم أولئك العائدون من تلك الحروب والصراعات فضلا عن الصورة التي تم تقديمهم من خلالها.

ولم تكن السينما الهوليوودية بعيدة عن كل ذلك بل انها كانت على تماس مباشر بل انها قدمت العديد من الأفلام التي عرضت قصص تلك الحروب وقصص الجنود والضباط الذين شاركوا فيها ويمكننا ان نتذكر أفلاما مثل: الملوك الثلاثة -1999، وفيلم منقّح -2007 وفيلم مباشر من بغداد -2002 وفيلم دروس الظلام -1999، وفيلم اتصال 1992 وفيلم المنطقة الخضراء 2002 ، وفيلم الشخص الذي ذهب بعيدا -1996، وفيلم قواعد الاشتباك -2000، وفيلم جارهيد -2005 وفيلم مذكرات جندي -2008 وفيلم القناص الأميركي -2014- وفيلم رعب الصحراء -2017 وفيلم سيل تيم 2008 وأفلام أخرى.

على ان التحدي الأكبر في كل هذا يتمثل في الأوضاع والاحوال التي يعود بها أولئك العائدون من حروب أمريكا فهم في الغالب سوف يعودون وهم يحملون معهم ما عرف بمتلازمة ما بعد الصدمة او كما اختصرت PTSD حيث ما يزال أولئك الجنود والضباط يعانون منها بشدة من بقي منهم على قيد الحياة لأن قسما كبيرا منهم اقدموا على الانتحار من فرط المعاناة اذ رغم عودتهم لبلادهم وديارهم بقيت أصوات صراخ الضحايا واصوات الانفجارات وصور القتلى والذكريات القاسية وغيرها عالقة في عقولهم وتصم آذانهم وهو ما اعترفوا به رغم ان اعدادهم بالالاف المؤلفة ينتشرون في المصحات في عموم الولايات الاميركية.

يقدم هذا الفيلم نموذجا حيّاً من كل ذلك من خلال قصة الجندي ريك – الممثل استون مكاولي الذي أصيب بهذه المتلازمة بعد وقت قصير من ذهابه في مهمة قتالية الى أفغانستان وكان ابوه ما يزال يعاني من ذات الصدمة بعد مشاركته في حرب الخليج الثانية -1991 حيث ما يزال يتلقى العلاج.

يبني المخرج الفنلندي رينيه هارلن والذي يقيم في الولايات المتحدة قصة الفيلم على أساس الرعب والفانطازيا وهو ما برع فيه على مر تاريخه السينمائي ويكفي انه احد مخرجي سلسلة متسابق المتاهة الشهيرة والحاصل انه الفيلم الأول في تقديري الذي يمعن في خلط متلازمة ما بعد الصدمة بالميثولوجيا والسحر.

ها نحن نشاهد ذلك الجندي وهو في حفل زواجه من كيت – الممثلة صوفي سيمنيت، ثم مباشرة ننتقل اليه وهو في ساحة الحرب في أفغانستان وها هي المواجهة تشتد مع وجود الانتحاريين والصراع المشتعل مع حركة طالبان الى درجة اننا نشاهده وهو يُقذَف بعيدا من جراء انفجار وتلتصق بوجهه بعض أشلاء صديقه الذي كان قريبا من الانتحاري.

يبقى ذلك المشهد يؤرقه مهما حاول التخلص منه حتى يدخل احد الكهوف التي يختبئ فيها المسلحون وهناك يعثر على رسوم غريبة على جدران الكهف هي اقرب الى رسومات السحرة ثم يطلق النار وهو في ظلام الكهف على من اشتبه به انه مسلح لكنه لم يكن الا صبي وأيضا سرعان ما يتعملق امامه وتبدو عيناه مثل كتلتي جمر تشعان في وجهه.

يوحي الفيلم في خلاصة معالجته الدرامية ان الجندي ريك قد تلبسته قوة سحرية وهو واقف على ارض تعج بأرواح الضحايا على مرّ عقود الصراعات هناك فأخلي من جبهات الحرب في أفغانستان عائدا الى الولايات المتحدة ليتوزع بين المنزل وبين مصحة معالجة المصابين بمتلازمة ما بعد الصدمة.

وكجزء من العلاج ولكي يفرغ هؤلاء المبتلون بذلك المرض النفسي/ العقلي يتم الباسهم اقنعة لكي يعبروا عن انفسهم ويقدموا تجاربهم وما اختزن من ذكرياتهم القاسية من دون احراج، وهكذا يندرج الجندي ريك معهم.

لاشك ان ثنائية الأصل والقناع تشكل هنا مدخلا مهما للشخصية الدرامية، ما بين الشخصية الحقيقية وبين الشخصية الأخرى التي تشوهت بفعل الحرب وأصبحت قسوة الحرب ومشاهدها القاسية مغروسة في عمق الشخصية لكن المخرج يذهب بنا بعيدا مع هذه الثناية وذلك من خلال تحول ريك الى كائن عدواني شديد القسوة ومن الصعب السيطرة عليه الى درجة اقدامه على الهجوم على زوجته ثم على والده وطبيبته حتى يوشكون على الموت ثم يتركهم في اللحظات الأخيرة.

في موازاة ذلك يوجد المخرج خطا دراميا آخر ملفت للنظر وذلك من خلال امام المسجد إبراهيم – الممثل رضا جعفري، فيقدم الفيلم صورة إيجابية قوامها تسامح ذلك الامام ثم دخوله على خط معالجة ريك مما يظن انه مسّ شيطاني وهكذا يمضي إبراهيم مستجيبا لاستغاثة الزوجة بالتدخل في انقاذ ريك.

بالطبع سوف يذهب بنا المخرج الى ما هو ابعد من ذلك وتحديدا الى مشاهد الاكسورسيت، ذلك النوع من الأفلام المتعلقة بالتلبس وكيف يستخدم الوعظ الديني للتخلص من الأرواح الشريرة بينما يشرح الامام ان الانسان عندما يكون في حالة ضعف فإنه معرض للمس ليكمل ريك تلك الصورة التراجيدية ان هنالك قوتان تسيطران عليه وهما الخوف والكراهية طيلة مدة خدمته، خوفه من الموت في أفغانستان مع تصاعد المواجهات الدامية والخوف من العدو في مقابل الكراهية الشديدة لذلك العدو وللمجتمع الذي وجد نفسه في وسطه.

بالطبع كانت الاحالات الى ما يسمى " شيطان من العرب" وان يقع انقاذ ريك على يدي امام الجامع مع خلط ذلك بالمؤثرات البصرية الخاصة ومشاهد الرعب والتلبس وما الى ذلك، كل ذلك كانت كافية لاثارة حفيظة بعض النقاد ومنهم الناقد جيم مورازيني في موقع بالكوني الذي قال انه "حتى النصف ساعة الأخيرة من الفيلم كانت هنالك إثارة ممتعة ممتزجة ببعض الرعب، ولكن تم تقويضها بحوار مثل "لماذا لم تخبرني أن ابني كان ممسوسًا بشيطان من العرب" و"إنه يحتاج إلى رجل دين حقيقي، وليس بعض الملابس القماشية".

في رأي الناقد ان ذلك النوع من الحوار كان ضعيفا وليس بالمستوى وانه كان توفيقيا بشكل غير مقنع.

من جهة أخرى قدم الفيلم صورة مجتمع يتعامل بعض افراده باستعلاء وعنصرية وهو ما انعكس على ردود أفعال فريد وهو ابن امام الجامع بينما يمضي الامام في مهمته تعاطفا مع الزوجة المفجوعة التي تشعر ان زوجها يضيع منها بعدما عجز الأطباء النفسانيون وأطباء الاعصاب عن علاجه.

من هنا وجدنا تقرد المخرج بصرف النظر عن درجة الاقناع في جمعه كل تلك المتضادات على صعيد واحد وكيف تداخلت الايات القرآنية مع صرخات الضحية ومع مشاهد الرعب والهلع ومع استخدام المؤثرات الخاصة وما يشاع عن حالات المس والتلبس كلها جميعا في مزيج ملفت للنظر قدم قصة الحرب من خلال مقاربة أخرى مختلفة وجدت في الايات القرآنية والأدعية والرقى خلاصا للشخصية.

...

اخراج رينيه هارلن

مدير التصوير: ماتي كيركالين

المؤثرات الخاصة نيكولاي كيروف ودانييل لاروسا

تمثيل: استون مكاولي ،صوفي سمينيت، رضا جعفري

التقييم: روتين توماتو 70%، آي ام دي بي 5 من 10

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

لماذا تفشل السياسة الأمريكية في السودان؟

زين العابدين صالح عبد الرحمن
يظل السودان غائبا في مخيلة صانع القرار الأمريكي، و أمريكا أسقطت ورقة السودان من أجندتها منذ أن رفض السودان في ستينيات القرن الماضي المعونة الأمريكية حيث كانت أمريكا تريد أن يلعب السودان دور القط لمواجهة التمدد الشيوعي في أفريقيا، و بعد الرفض وافقت حكومة عبود بزيارة رئيس الاتحاد السوفيتي ذلك الوقت للسودان ليونيد برجنيف في نوفمبر 1961م، أيضا تحفظ السودان على دعوة إدارة ريغان أن يقوم بذات الدور الذي كان قد طلب منه من قبل. مما اقفت شركة شيفرون عملية استخراج البترول باعتبار أن كمية البترول غير تجارية، و هناك قول هي ضغوط خليجية لأنها لا تريد إغراق سوق البترول.. فالإدارة الأمريكية لم تسهم في عملية بناء السودان، أو دعمت مشاريعه التنموية، و لم توف بعهودها في اتفاقية "نيفاشا" التي أدت إلي تقسيم السودان.. كل سياستها إملاءات دون أي فائدة تعود للشعب السوداني، و توقع عقوبات اقتصادية على السودان و هي تعلم أن العقوبات لا تطال إلا الشعب، و تستثنى من العقوبات تصدير الصمغ العربي لها لمصلحة شركاتها ..
بعد ثورة ديسمبر 2018م وجدت أمريكا ضالتها، أن يكون لها دورا في صناعة القيادات التي تريدها علي قمة السلطة في البلاد، و استطاعت الإدارة الأمريكية أن تتحرك بفاعلية وسط القوى السياسية من خلال سفارتها، و رفعت درجة التمثيل من قائم بالأعمال إلي درجة سفير، و كانت عضوا في الرباعية، و الترويكة الداعمة للإيغاد، و المؤثر على قرار رئيس البعثة الأممية فوكلر، هذا غير تأثيرها على الاتحاد الأوروبي، و بعد إقالة حكومة حمدوك من قبل المكون العسكري في 25 أكتوبر غيرت سفيرها، و جاءت ب "جون غودفيري" باعتباره أكثر فاعلية في إدارة الأزمات، ثم أرسلت مساعدة وزير خارجيتها " مولي في" لتبدأ مرحلة بداية "الاتفاق الإطاري" و الذي فشل ،و أدى للحرب الدائرة الآن.. أمريكا تعلم يقينا أن القيادات التي كانت تراهن عليها قد فقدت بريقها، و بعد انقلاب 25 أكتوبر عندما نزلت الشارع رفضتها الجماهير، و اقتنعت أمريكا أنها لا تستطيع أن تغامر وسط الرفض الشعبي، و حرب أصبحت فيها الميليشيا متهمة بممارسة لإبادة و التهجير و السرقة و النهب..
منذ انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989م و مرورا بعدد من الرؤساء الأمريكيين أثناء حقبة الإنقاذ، أن أغلبية الدبلوماسيين الأمرييكين الذين شغلوا منصب مساعدين لوزراء الخارجية للشؤون الأفريقية؛ كانوا دائما يؤكدون أنهم لا يستطيعون التعامل مع الشأن السوداني إلا من خلال المراور بعواصم بعض دول المنطقة.. الأمر الذي يؤكد أن أمريكا جاهلة تماما بالشأن السوداني تحتاج أن تتزود بمعلومات من تلك العواصم، و هي حريصة أن تكون تعاملاتها مع السودان من خلال تلك العواصم بسبب هذا الجهل، أو هي لا تريد أن تؤثر سلبا على مصالح حلفائها في المنطقة.. مما يدلل أن السودان على هامش أجندتها .. و دلالة على ذلك؛ أن المبعوث الأمريكي الخاص للسودان "توم بيرييلو" الذي طاف على عواصم الدول المجاورة للسودان، لم يكلف نفسه التوجه للسودان.. بل جاء بفكرة توسيع منبر جدة، و إدخال "الاتحاد الأفريقي و الإيغاد" من باب المناورة لأن الهدف هو إدخال الأمارات.. و أكبر خطأ أرتكبته القيادة العسكرية كان الذهاب للمنامة و هم يعلمون ذهاب الأمارات إلي هناك، و كان وراءه أمريكا التي تحاول أن تجد مخرجا للأمارات بسبب دعمها المتواصل للميليشيا.. و أمريكا رغم أنها تراجعت عن دعم القوى التي كانت قد راهنت عليها من قبل لإستلام السلطة، إلا أنها سمحت أن تتولى مهمة الدعم الأمارات، و أمريكا تعلم يقينا أن الأمارات هي التي جاءت بحمدوك، و فرضته على " تقدم" و المكالمة التي كان قد أجراها وزير الخارجية الأمريكي بلنكين مع رئيس مجلس السيادة و القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان بهدف الذهاب إلي منبر جدة، هي تمت بضغط من دولة الأمارات، باعتبار أنها تريد أن ترسل رسائل بأنها ماتزال لديها القدرة على الضغط لتسوية سياسية، حتى لا تسمح أن تتشتت المجموعة التي تدور في فلكها.. كما تعلم أن المؤتمر الذي تم في أديس أبابا مؤخرا نجح في حشد ناس دون أن يكون لهم ثقل جماهيري داعم لهم داخل السودان، بل أحدث شروخا في بعض القوى المنتمية إليه..
أن السلطة في السودان تعلم أن الإدارة الأمريكية المتورطة في أزمات عديدة الآن، لا تستطيع أن تدخل في أزمة أخرى، و لا تستطيع أن تصدر أي قرار من مجلس الأمن بهدف تدخل دولي تحت البند السابع في السودان، و أيضا تعلم أن أي تحرك لها شاهرة العصى ليس في صالح مصالحها في المنطقة، و أن جري الأمارات المحموم في اتجاهات مختلفة لعقد مؤتمرات توافقية و تسوية سياسية، بين الجيش و الميليشيا مسألة ما عادت مقبولة لأغلبية الشعب السوداني، و الذي يعتبر أكبر متضرر من الحرب، كما تعلم الأمارات و الذين يدورون في فلكها أن حسم الحرب عسكريا من قبل الجيش سوف يغيير كل الأجندات السياسية في السودان، و أيضا سوف يؤدي إلي بروز قيادات جديدة لا تقبل المساومة.. أن أمريكا حقيقة أمام معضلة أن تقف مساندة للأجندة الأماراتية، أم أن تبتعد لكي تعطي فرصة لعملية الحسم العسكري، و تقبل بنتيجة إفرازاتها السياسية.. نسأل الله حسن البصيرة..

zainsalih@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • فيلم الحرب الأهلية أمريكا المستقبلية تتفكك وحكومتها تشن حملات على الولايات
  • خوفا من ترامب.. The Apprentice يثير ذعر هوليوود
  • لماذا تفشل السياسة الأمريكية في السودان؟
  • المثقف و"الساحر" والقراميط
  • المخطط الذي أفسده الطوفان!
  • القاضي البولندي اللاجئ في بيلاروس: بولندا تعهدت للولايات المتحدة بالمشاركة في الحرب ضد روسيا
  • تحت شعار تحيا المقاومة.. غدا انطلاق مهرجان جمعية الفيلم الـ50
  • مهرجان جمعية الفيلم، تحت شعار تحيا المقاومة.. لتحيا فلسطين
  • طرح أغنية ترويجية جديدة لفيلم Chandu Champion
  • سينما بداية الألفية في مصر.. عطش لدعم القضية الفلسطينية