الكثير من المدن على مر التاريخ قديمة وحديثة استطاعت أن تخط لها هوية خاصة بها تميّزها عن غيرها من مدن العالم، فاستطاعت أن تحقق شهرة واسعة بفضل هويتها التي اختطتها لنفسها وميّزتها عن باقي المدن والمجتمعات. وقد تكون تلك المدن قد استفادت من ميزة المكان والتاريخ والثروات لتكرس ذلك الإرث لصالحها أو أنها ابتكرت لها هوية جديدة اختلقتها لنفسها وصقلتها بمجموعة من العوامل أسهمت في صنع تلك الهوية.
من يزر أثينا يعرف أنها عاصمة التاريخ والتراث الإنساني، كذلك روما والقاهرة، ومن يزر فيينا يعرف أنها عاصمة الموسيقى الكلاسيكية القديمة، وباريس عاصمة الموضة، ولندن عاصمة للضباب والرياضة، ونيويورك عاصمة للنشر وغيرها الكثير من الأمثلة التي استطاعت بها تلك المدن ترسيخ هويتها العمرانية والحضارية لتُعرف بين مدن العالم بالهوية التي اختطتها لنفسها، واستطاعت تعزيز مكانتها الاقتصادية والثقافية والعمرانية بفضل عناية المخططين والعمرانيين والمطورين ممن أسهموا في تكريس تلك الهوية في كل بقعة وشبر من تلك المدن.
في عالم اليوم تداخلت وتشابهت أساليب التخطيط الحضري والعمراني في معظم دول العالم، فلم تعد لكثير من المدن هوياتها الخاصة بها التي تميّزها عن غيرها من المدن الأخرى سواء في داخل الدولة أو خارجها بسبب تشابه وتماثل أنماط البناء والتعمير وتشابه أنماط التخطيط الحضري ابتداء من القرى الصغيرة المتناثرة وانتهاء بكبريات المدن القديمة التي توسعت وفقدت هويتها الخاصة بها أو المدن حديثة المنشأ وفق أسس عمرانية حديثة لم تعد تراعي الخصوصية العمرانية والهوية الحضارية للمدن والمجتمعات والإنسان.
غير أن التقدم الحديث الذي دخل على موضوع التخطيط الحضري من سهولة تصميم وبناء المدن يمكن أن ينظر إليه على أنه بمثابة ميزة تنافسية يمكن أن تسهم في تكوين هويات حضارية ومعمارية لمدن قديمة قائمة أو لمدن مستحدثة يمكن تشكيلها وفق الهوية التي يُراد لها أن تكون عليها في تصميمها المعماري والحضاري.
محليا، لدينا إرث ضخم وكبير في التخطيط الحضري والعمراني، فالعمارة العمانية القديمة كانت ولا تزال شاهدة على خلق واستحداث هويات حضرية لمدن عمانية ميّزتها عن غيرها من المدن العمانية الأخرى، فعلى سبيل المثال فقط نجد أن نزوى عُرفت بأنها بيضة الإسلام وأنها معقل الدين والتاريخ والتراث بفضل عمارتها التي ميّزتها عن غيرها من مدن عُمان الأخرى في قلعتها وسوقها وجامعها، وأيضا صور التي عُرفت بأنها مدينة البحر والترحال وأنها ميناء بحري مفتوح للسفر حول العالم، ومسقط عاصمة للتاريخ والاقتصاد، وظفار موئل للسياحة والزراعة والاستجمام وغيرها من الأمثلة على مدن عُمان القديمة التي تميّزت بهوية ونمط معماري يختلف عن باقي الأنماط المعمارية الأخرى المتوزعة ما بين السهل والجبل والبحر.
التخطيط الحضري في عالم اليوم لم يعد يراعي الكثير من تلك الخصائص الحضرية والهويات التي تميّز كل حاضرة أو مدينة أو قرية عمانية عن أخرى، فتداخلت كل الأنماط المعمارية مع بعضها البعض فبات من الصعب التفريق بين مدينة في ظفار عن مدينة في صحار أو قرية في صور عن قرية غيرها في بهلا؛ فكل الأنماط المعمارية والسكانية متشابهة وبذلك اختفت الهويات المحددة لكل مدينة على حدة إلا ما بقي من إرث قديم ما زال حاضرا ولم يتم البناء عليه.
لدينا فرصة كبيرة في المحافظات والولايات لخلق هويات مختلفة للقرى والمدن العمانية المختلفة بفضل التنوع الثقافي والاجتماعي والسكاني الذي تمتاز به كل محافظة عن غيرها، ويمكن الاستفادة من دروس المدن الكبرى في خلق تلك الهويات الحضارية للمدن العمانية، فيمكن أن نرى مدينة تختص بالتراث والأخرى بالبحر والصيد، وغيرها بالاستثمار الاقتصادي، وغيرها بالسياحة الجبلية، وأخرى بالثقافة والمعرفة، وغيرها بالموسيقى والفنون، وغيرها بالزراعة والنخيل، وغيرها باقتصادات المعرفة الحديثة، وغيرها بالشباب، وكثير من الأمثلة يمكن طرحها على مدن عمانية تعد شبه مهيأة لتكوين هوية حضارية لها.
قد لا تكون المهمة سهلة كمثل كتابة هذا المقال خصوصا مع توسع المدن وتمددها، لكن لا يوجد مستحيل في طريق التعمير والتغيير ويمكن البدء في إعادة الهويات الحضارية للمدن العمانية إلى نصابها الصحيح مع مراعاة التطورات الحديثة الحاصلة في الاقتصاد والعمران.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة عمان أوبزيرفر
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التخطیط الحضری عن غیرها من من المدن
إقرأ أيضاً:
يوم المرأة العمانية بين الرمزية والأثر الاجتماعي
لا شك أن يوم المرأة العمانية بدأ يأخذ زخمًا اجتماعيًا وثقافيًا في مجتمعاتنا المعاصرة، لكن السؤال هو إلى أي مدى وبأي شكل؟ وهل بدأ ذلك يؤثر إيجابًا على التصورات والاعتقادات والأطر الاجتماعية التي تحيط المرأة، أم ما يزال عند الحدود الشكلانية بحيث يتحول إلى مجرد قشرة ظاهرية استهلاكية؟ فهل بدأنا نشهد إيمانًا اجتماعيًا أكبر بأهمية المرأة وحقوقها، أم ما يزال هذا الإيمان إيمانًا سطحيًا؟
إن قضية المرأة وحقوقها لم تصبح سمة حضارية من فراغ. وإذا كانت الدولة تسعى منذ عقود لتأكيد حضور المرأة، والتأثير بالتالي على الصورة العامة للمرأة العمانية داخليًا وخارجيًا؛ فإن المهمة الحقيقية هو ترسيخ الإيمان الاجتماعي بحق الحضور هذا لدى النساء أنفسهن أولًا، ثم لدى الرجال ثانيًا.
تاريخيًا مع مجيء الحداثة وما بعدها بدأت المرأة تنخرط أكثر فأكثر في سوق العمل وبالتالي في المجال العام، وهذا ما أتاح الاستقلالية الاقتصادية لها والاعتماد الذاتي. ومع استمرار كون الأعباء الأسرية والتربية والاهتمام بالبيت من مسؤوليات المرأة، وقلة الأجور مقارنة بالرجل؛ فإن ذلك ما بدأ يلفت نظر المرأة أولًا إلى وضعها العام وإلى تاريخ حقوقها، واحتجنا إلى وصول القرن العشرين لندرك إلحاح قضية المرأة كما كانت تقول سيمون دو بوفوار.
هكذا بدأت في الغرب أولًا الدعوات والحركات الساعية لحل قضايا المرأة وطرحها بشكل جاد على طاولة النقاش، وهي القضايا الملحة في حياة أي امرأة معاصرة ابتداءً من نظرتها لنفسها، وليس انتهاءً بنظرة المجتمعات إليها وإلى دورها. ولعل السؤال الأكثر إلحاحًا كان هل وقعت المرأة ضحية الاستغلال وانتهاك الحقوق أم لا؟ وجاءت تلك الحركات النسوية في سياق بقية الحركات التحررية التي ولدت كأنما في مراجعة تاريخية شاملة لأوضاع الإنسان من الاستعمار إلى الحريات الشخصية.
قضية تحرير المرأة لا يمكن بأي شكل القفز فوقها، وهي قضية تحرير لا كما صورها مناوئوها وما يزالون كدعوة إباحية وسفور؛ لأنها أساسًا مسألة حقوق مهدرة، ومسألة قهر وظلم وحرمان وتعطيل الوجود الطبيعي للكائن، وهي القضية التي تنبهنا إليها اليوم في مجتمعنا كل الظواهر النسائية مما ندعوه «تيار النسوية» إلى كل حادثة تمرد، إلى كل حادثة أو محاولة انتحار، بل الأخيرتان منهما تدقان ناقوس الخطر بأن علينا الإسراع وعدم الإبطاء في طرح قضايا المرأة علنًا على الطاولة والحوار المفتوح الحر والشفاف حولها. فالمسألة ليست مسألة تنازلات أو هبات بقدر ما هي مسألة حقوق أصيلة جرى إهدارها لصالح هيمنة ذكورية متسلطة مارست بكل وضوح بخس الحقوق وإهدارها على الإناث. وإذا كان سوق العمل منح المرأة استقلاليتها المادية فإن تلك المنحة السوقية لم تكن عن تفهم حقيقي لقضايا المرأة بقدر ما كان خاصة في بدايته حاجة إلى العمالة الرخيصة والمتخصصة والتي شملت حتى الأطفال آنذاك، بل ما زالت بيئات العمل إلى اليوم رغم إدراكها للطبيعة الخاصة للمرأة واحتياجاتها فإنها تتمنع بقوة أمام تكييف ظروف العمل المعاصرة لصالح تلبية أكبر لتلك الاحتياجات، كما في إجازات الولادة والرضاعة، وحتى الأجور كمثال بسيط.
الواقع أنه ما دام الخطاب الاجتماعي السائد يمارس لعبة الازدواجية تجاه المرأة بين التظاهر بالاحترام وممارسة القهر، أو تمرير خطاب الاستخفاف والهزء؛ فإن الإدراك الكامل لمحور القضية يبدو مغيبًا. ومع أن ظواهر كثيرة تقول: إن قطاعات كثيرة خاصة في جيل الشباب، قد بدأت نوعًا ما تتحرر من تلك الأطر العتيقة؛ فإن العودة إلى الخط الاجتماعي العام، والخطاب التقليدي الذكوري المسيطر يهدد على الدوام بإعادة المرأة إلى الإطار-السجن الاجتماعي القديم- ومن الواضح ألا سبيل لتحرر المرأة منه إلا عبر طرح القضايا الملحة التي تخص تحرر المرأة، فليست المسألة مسألة استقلال مادي فحسب، خاصة إذا كان هذا الاستقلال المادي يجري إهداره في الخفاء لصالح الذكور. وإذا كانت ممارسات من مثل الاستدانة على راتب الزوجة والأخت، والاستحواذ على بطاقتها البنكية ممارسات شائعة بنسب تقل وتزيد، أو اقتطاع نصيبها في الميراث بوصفه مبررًا، فضلًا عن بقية القضايا الاجتماعية من الزواج المبكر، إلى «الزوجة الثانية» إلى حضانة الأطفال بعد الطلاق أو النفقة، أي كل ما يحتكر الرجل قراره لنفسه متجاهلًا وجود المرأة بوصفها الشريك، حتى أصبحت القضايا تحتاج العودة للمحاكم والاتكال على مرجعية القانون، وهي المرجعية المتهمة بدورها أن المشرّع فيها ينطلق من تأثيرات الهيمنة الذكورية.
واقع الحال الآن بالنسبة لهذه القضية هو كما يبدو أن الخطاب الاجتماعي التقليدي ما زال ينظر لقضية المرأة العربية والمسلمة بوصفها قضايا غير موجودة، وأن قضية المرأة قضية حداثية غربية صرفة لا تخص المجتمعات الشرقية. وهذا النفي القاطع يترجمه الرأي العام عبر الترويج والاتهام والتصوير بأن دعوات تحرير المرأة هي دعوات هدامة للانحلال والفحش والسفور دون التدبر في أن ذلك الموقف يعبر عن نظرة قاصرة للمرأة، واتهام لتقديرها الذاتي وفطنتها التي يضرب بها المثل في مواقع أخرى، لكن ليس هنا. والواقع أن هذا الخطاب السائد يغفل عن أن المرأة الشرقية المعاصرة تقوم اليوم عمليًا وفعليًا بإعادة التفكير جديًا في كل منظومة الخطابات التقليدية والاجتماعية والسلطوية المفروضة عليها وعلى وجودها، وأن ذلك من حقها الطبيعي. ولا يمكن إهدار هذا الحق بحجج الماضي القديم، أو التعمية عليها بخطابات الإشادة والتكريم والتمنن دون تحمل المجتمعات لدورها ومسؤوليتها في إعادة النظر فعلًا في تبعات ذلك الماضي وانعكاساته الحاضرة ما دامت مبادئ أولية مثل تعليم البنات وقيادة السيارات والزواج المبكر والاستقلال المادي ما زالت محل نقاش وأخذ ورد ليومنا هذا.
إن من يتصفح ويقرأ الأدب الشرقي، والعماني الأنثوي المعاصر يمكنه أن يبصر بوضوح حجم هذه الأسئلة المشروعة، بل لعل القارئ المتعمق قليلًا يعرف أن قضايا المرأة أصبحت أولوية رئيسية في مشاريع كاتباتنا، وكثير من كتابنا كذلك، وذلك لا يعكس عمق الجرح الفكري فحسب، بل كذلك الحضور الراهن للمرأة التي تحاول بكل قوتها التحرر من الانغلاق الفكري الذي يحيط بوجودها والذي يحصرها في إطار مغلق، والمرأة الشرقية المثقفة اليوم تجاهد لاستعادة حقوق جنسها، وتحرير الفكر النسائي نفسه من السجن الطوعي الذي ارتضته الأنثى مضحية بوجودها الذاتي من أجل الأسرة والأطفال والمجتمع، وكيف أن هذه الشهيدة الاجتماعية عبر التاريخ حرمت حتى من الاعتراف بحجم تضحياتها الذاتية، بل اعتبر ذلك واجبًا مفروضًا عليها أداؤه ومحاسبتها على التقصير فيه.
من المؤسف اليوم أن المرأة الشرقية لا تستشعر وجودها وحضورها الحر والمسؤول الكامل إلا في مناخ الاغتراب، وتبقى محرومة من ذلك في وطنها، وأن انطلاقتها الاجتماعية مكبّلة ومقيّدة إلا في المجال المديني الضيّق بدوره، والذي ما زال يحاصرها ويحاسبها على سلوكها حتى في الحدود الدنيا المميزة للشخصيات، وكأن كل امرأة أو أنثى عليها أن تتبع نمطًا عامًا وقالبًا عليها ألا تخرج منه، أو أن عليها أن تثبت دائمًا وبشكل «إعلاني» لكل فرد من أفراد المجتمع استقامتها وأخلاقها، وكأنها محكومة دائمًا وأبدًا بالبقاء في دائرة الشك والريبة ونقص القدرات العقلية وفساد الأحكام.
إن مجرد نظرة فاحصة لخطاب تبادل الاتهامات «الساخر والكاريكاتوري» بين الجنسين -خاصة بين الأزواج والزوجات، والمنتشر على منصات التواصل الإلكترونية- يكفي لوحده لندرك أن الأمور لا تمضي على ما يرام بين الجنسين، وأن فجوة ما قائمة. وهذه الفجوة لا شك تعيق كل تكامل اجتماعي، أو تقدم من أي نوع كان؛ لأنها تهدر الحقوق الطبيعية. وكل ذلك يؤثر على تفكك المجتمعات ونسب الطلاق المرتفعة؛ فالأمر كله يبدأ بتأثير ثقافي، وهذا ما نلمسه اليوم في ظواهر تمرد الأجيال على العائلات وبالتالي على المنظومة الاجتماعية. وكل ذلك يعود للفاعل الثقافي، وهو الفاعل الملح والمهم والواضح في واقعنا المعاصر، ولا يمكن إلغاء تأثير المفاعلات الثقافية المعاصرة في عالمنا المفتوح هذا عبر تجاهلها، أو إلغائها أو تسفيهها أو تحقيرها، بل هناك دومًا طريقة واحدة واضحة لفعل الصواب، وهي النقاش الحر المفتوح على نتائج الحوار المتحرر من أحكامه القبلية ومن انغلاقاته، وهذا ما تحتاجه المرأة الشرقية والعمانية اليوم سواء من المرأة نفسها أو من الرجل بطبيعة الحال، وذلك هو الاحتفال الحقيقي والصادق بحضور المرأة ووجودها، وهو الاحتفال الذي يبدأ بالفهم والاحترام، وعلينا استغلال مناسبة مثل يوم المرأة العمانية ليس لمراضاتها بباقات الورد وعقود الذهب والألماس والحفلات الشكلانية الاستهلاكية، بل عبر احترام وجودها الذاتي وخصوصيتها وعطائها التأسيسي لحاضر ومستقبل الإنسان؛ فبذلك نحتفل حقًا بالمرأة العمانية، وتتمكن هي من استعادة كل طاقاتها الحيوية والروحية والجمالية التي وهبتها إياها الطبيعة منذ الأزل.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني