شهران وبضعة أيام، تفصل تونس عن الانتخابات الرئاسية المقررة يوم السادس من أكتوبر /تشرين الأول  القادم، وسط نوايا ترشح، قد تتجاوز المائة شخص، تقدموا من كل حدب وصوب، لكي يتنافسوا على "كرسي قرطاج"، بخلفيات متباينة، وفي كثير من الأحيان، متناقضة.

وعلى الرغم من قصر المدّة المتبقية لموعد عملية الاقتراع، فإنّ المظاهر السياسية والاجتماعية، لبلد يستعدّ لاستحقاق انتخابي، تكاد تكون غائبة تمامًا، إذا استثنينا، فيديوهات بعض المترشحين المحتملين، وتعليقات و"تحليلات" بعض السياسيين والإعلاميين، على منصات التواصل الاجتماعي، وما تبقى من برامج سياسية في بعض الإذاعات الخاصة، التي انصرف جلّ مذيعيها وصحفييها، لقضاء العطلة الصيفية، وكأنّ البلاد غير مقدمة على انتخابات رئاسية، يعتبرها الجميع هنا، وهذه مفارقة، أنها شديدة الأهمية، وستحدد وجهة الأمور في تونس، ليس خلال العهدة الرئاسية المقبلة (2024 ــ 2029) فقط، إنما كذلك، على مستوى بوصلة المرحلة القادمة، واتجاهات الدولة، في العقدين المقبلين.

يتحدث خبراء السياسة، و"فقهاء" الاستحقاقات الانتخابية، وعدد معلوم من معارضي السلطة، عن المناخ الانتخابي، كشرط من شروط صدقية الانتخابات ونزاهتها، طبقًا لمقتضيات المعايير الدولية في الانتخابات.. ويجري الكلام هنا عن الحريات الإعلامية، وحرية التعبير السياسي والاجتماعي، وعدم التضييق على الأحزاب، وتوفر قانون انتخابي، يتيح قدرًا من التنافسِ الجدّي والشفاف، وقبل كلّ ذلك، توفر مشهد سياسي نشيط، تكون العملية الانتخابية، حصيلة لحراكه، وليس العكس، كما يروّج القريبون من السلطة.

ومن عجائب الوضع التونسي، وغرائبيته، أنّ المناخ الانتخابي، الذي يخضع لمعايير دولية واضحة، والذي يفترض ألا يكون حوله نقاش، بات محلّ جدل النخب والطبقة السياسية، وخاصة "معسكر الموالاة" لرئيس الجمهورية، أو ما يعرفون بـ"أنصار 25 يوليو/تموز"، وهو تاريخ "انقلاب" الرئيس قيس سعيّد، على منظومة العشرية السابقة، التي أعقبت ثورة يناير/كانون الأول 2011، و"معسكر المعارضة"، التي تتصدرها، "جبهة الخلاص الوطني" بقيادة "حركة النهضة"، و"الجبهة الديمقراطية"، ممثلة في عدّة أحزاب يسارية وعلمانية وليبرالية، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات السياسية الاعتبارية، التي تقف في منطقة وسطى بين المعسكرين، مع تماهٍ واضح مع بعض الأفكار الناقدة للسلطة، ولخيارات ما بعد 25 يوليو/تموز.

جدل المناخ الانتخابي

أنصار الرئيس قيس سعيّد، وأحزاب الموالاة له، والشخصيات التي تزعم قربًا منه، أو نطقًا باسم مشروعه، الذي دشنه يوم أغلق البرلمان وتم تعطيل دستور 2014، يتحدثون بقوة عن المناخ السليم، الذي تدور فيه الانتخابات، خصوصًا بعد أن وقع إنهاء الإسلام السياسي (في إشارة إلى حركة النهضة)، والزجّ بــ "الخونة"، و"المتآمرين" ضدّ الدولة التونسية، (في غمز للشخصيات العلمانية الموقوفة على ذمة ما يعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة)، منذ أكثر من 14 شهرًا، بالإضافة إلى تنقية مناخ ما يصفونه بــ "العشرية السوداء" (2011 ــ 2021)، بمنظومة أحزابها وقوانينها وشخوصها وإعلامييها  والمنظمات التي نشطت في تلك الفترة.

يؤكد هؤلاء، بلهجة متعالية، أنّ تونس تمت استعادتها بعد أن كانت مختطفة من قبل منظومة ما بعد الثورة، وأنّها تدار اليوم من قبل "رجال وطنيين"، فيما تم استئناف السيادة الوطنية للبلاد، التي ارتهنت للخارج، بحيث باتت تونس، مرتعًا للأجندات الإقليمية والدولية، كما يقولون، فضلًا عن إيقاف نزيف تفتيت الدولة، بفعل النظام البرلماني، الذي تم الاختيار عليه بعد الثورة، وفق ما يؤكدون، إلى جانب "تطهير" الإعلام من المرتزقة، والمرتبطين بخدمة أجندات ومصالح خارجية معادية للبلاد وللسلطة القائمة، حسب توصيفهم.

ومن ثمّ فلا حاجة لتلك المعايير الدولية، التي يعتقدون، أنها جزء من إملاءات الخارج، وشروطه لإجراء انتخابات على مقاسه، وبالمخرجات التي يراها ويضبطها، ويتحكم فيها في المحصّلة النهائية، كما يروّجون بأشكال مختلفة.

يجد هذا الخطاب، الصادر في بيانات حزبية، وتصريحات إعلامية، وتعليقات فيسبوكية مكثفة، من يدعمه من بعض نواب البرلمان التونسي، الذين أفصح أحدهم (النائب أحمد السعيداني) مؤخرًا، عن خطاب وصف بــ "الفاشي" و"الإرهابي"، وفي أدنى التقديرات، بـ "الاحترابي"، عندما دعا في جلسة عامة برلمانية، منقولة على المباشر على القناة العمومية الثانية، بوضوح، إلى قتل رموز فصيل سياسي (حركة النهضة)، معتبرًا أنّ ذلك، كان يفترض أن يحصل منذ العام 1987، تاريخ انقلاب الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي، على صنوه، الحبيب بورقيبة، فيما عرف لاحقًا، بــ "تحول السابع من نوفمبر /تشرين الثاني".

المعارضة: انتقادات واسعة

في مقابل هذه السردية النشيطة على فيسبوك، وبعض المواقع الإلكترونية العربية، المتبنّية لها، والتي تديرها ماكينة شبكية واسعة، تظهر آثارها، ولا تعرف شخوصها بوضوح، تطلّ المكونات والشخصيات السياسية المعارضة للرئيس قيس سعيّد و"نهجه" في الحكم، الذي تصفه بــ "الانقلاب"، وتتحرك ــ وإن باحتشام ملحوظ ــ لإنهائه، تطلّ، بسرديّة مضادّة، تطعن في المناخ الانتخابي، وتعتبره، لا يتوفر على المقومات والشروط الدنيا، لتنظيم انتخابات نزيهة، يكون فيها صندوق الاقتراع، هو الفيصل الحقيقي بين المترشحين.

وتختزل المعارضة التونسية، بمختلف أطيافها، نقدها وتحفظاتها على المناخ الانتخابي الراهن، في النقاط التالية:

مرشحون مع تأجيل التنفيذ

إنّ المناخ السياسي العام، مشوب بغياب الحريات الإعلامية والتضييق على المعارضين، وغلق مقرات حزبية بارزة، في ظل أجواء من الإيقافات والاعتقالات، التي طالت رموز المشهد السياسي منذ أكثر من عام، بينهم شخصيات إسلامية وعلمانية وليبرالية، وإعلاميون ومدونون وغيرهم.

اعتقالات وإيقافات، شملت مؤخرًا، رئيس حزب الشعب الجمهوري، الطبيب، لطفي المرايحي، الذي أعلن ترشحه لـ "الرئاسية"، فوجد نفسه موقوفًا بتهمة "تبييض أموال، وتلقي دعم مالي من الخارج بطرق غير مشروعة".

كما شملت الدكتور، عبد اللطيف المكي، رئيس حزب "عمل وإنجاز"، الذي أعلن ترشحه للانتخابات، فأحيل على القضاء بتهمة التورط في موت السياسي السابق، الجيلاني الدبوسي في السجن، عندما كان المكي، وزيرًا للصحة، ليتخذ القضاء قرارًا في شأنه، بالمنع من الظهور الإعلامي، وعدم التنقل خارج إطار الحي السكني الذي يقطن فيه.

كان الوزير السابق، المنذر الزنايدي، قد اتهم بدوره بالفساد، عندما كان وزيرًا للنقل، خلال فترة حكم الرئيس بن علي، منذ اللحظات الأولى لخروجه الإعلامي عبر فيسبوك، لنقد السلطة القائمة حاليًا، والتعبير عن نواياه في الترشح، وتم تداول وثائق للتأكيد على أنّ هذه الاتهامات، لا لبس فيها، دون أن تودع بشأنه دعوى قضائية حتى الآن.

ورغم أنّ الرجل خرج، عبر فيديوهات على فيسبوك، ليفنّد الاتهامات، واصفًا إياها من موطن إقامته الراهن، في باريس، بالشائعات المضحكة، فإنّ أوساطًا قانونية وسياسية وحقوقية، لا تستبعد اعتقاله عند دخوله تونس، لخوض حملته الانتخابية، انطلاقًا من شهر أغسطس /آب  الجاري.

بالموازاة مع ذلك، رفضت هيئة الانتخابات، تمكين المرشح المحتمل، غازي الشواشي، الوزير السابق، والقيادي المستقيل من حزب التيار الديمقراطي، والمعتقل حاليًا ضمن ما بات يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، من استمارة التزكيات الشعبية، لاعتبارات تصفها الهيئة بالقانونية، ويعتبرها نجله، ذريعة لمنعه من الترشح من سجنه بالمرناقية (10 كلم عن العاصمة).

وتراجع في الآونة الأخيرة، حضور الإعلامي والناشط السياسي، الصافي سعيد، الذي أعلن ترشحه منذ فترة للانتخابات الرئاسية، بعد أن أفاق ذات يوم، ليجد نفسه محكومًا غيابيًا بثمانية أشهرٍ سجنًا، بتهمة الحصول على تزكيات مشبوهة في انتخابات 2019، عندما ترشح إليها، مدفوعًا من التيار القومي (حركة الشعب)، ليدخل الرجل متاهة المحاكم والقضاء، وينزوي بعيدًا عن الأضواء، دون الإعلان عن أي قرار، بالاستمرار أو الانسحاب.

احتلّ الصافي سعيد، إحدى المراتب الأربع الأولى لنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية على امتداد السنتين الماضيتين، على الأقلّ.

بالطبع، تنفي السلطة، الصبغة السياسية لهذه القضايا، وتقول إنها ملفات ومسار قضائي، في إطار حملة مكافحة الفساد، التي أتت على الأخضر واليابس، منذ الشروع فيها قبل عام ونيّف على الأقلّ.

واعتقل الأمين العام لحركة النهضة، العجمي الوريمي في الآونة الأخيرة، على خلفية مرافقته لقيادي بالحزب، اتضح أنّه متابع أمنيًا وقضائيًا بشبهة الإرهاب، واتهم الوريمي، بالتستر على مشتبه فيه بالإرهاب، وسط انتقادات من المعارضة، وحتى من الخصوم السياسيين للنهضة، الذين اعتبروا إيقافه، جزءًا من الترتيبات الرامية إلى توظيف "الخزان الانتخابي" لحركة النهضة، لصالح مرشح السلطة، وفق بعض التأويلات.

عوائق وتضييقات

التضييق على بعض المرشحين، بواسطة "سيف" بطاقة السجل العدلي، (ما يعرف في تونس بالبطاقة عدد 3)، المسلط على رقاب الراغبين في الترشح للاستحقاق الرئاسي.
وكان المرشح المحتمل، العميد السابق بالجيش التونسي، والمسؤول الأمني السابق بوزارة الداخلية، هشام المؤدب أعلن في هذا السياق قبل يومين، عن تعرض أنصاره، لتضييقات، عند جمع التزكيات الشعبية، واصفًا ذلك باللامعقول، وداعيًا إلى إيقاف هذه الممارسات.

يرى مراقبون، على خلفية هذه الأحداث، أنّ صدور القائمة النهائية للمرشحين للاستحقاق الانتخابي الرئاسي، من قبل هيئة الانتخابات، نهاية شهر أغسطس/ آب الجاري، ستوضح نوايا السلطة وبوصلتها بشأن الانتخابات: فإمّا التأكيد على تعزيز التنافسية الحقيقية بين المترشحين، وفتح المجال لمن يسمونهم بالمرشحين الجدّيين، وفق تقدير البعض، أو تقديم مؤشر على عدم نزاهتها، من خلال اختيار مرشحين على مقاس السلطة، لإجراء انتخابات، بأشباه منافسين، على حدّ وصفهم، من شأنها ضمان عهدة رئاسية جديدة للرئيس الحالي، أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيد.

وبالطبع، يرفض أنصار الرئيس قيس سعيّد، هذا التأويل"، ويلوّحون بنصر ساحق لصاحب مقولة "العلو الشاهق"، ستكون العهدة الرئاسية المقبلة، تفويضًا شعبيًا واسعًا، تنتقل البلاد بموجبه، من "الظاهر"، إلى "الباطن"، وفق تعبير، أحمد شفطر، أحد الذين يوصفون بمفسري خطاب الرئيس قيس سعيّد، في إشارة إلى الانتقال من الخطاب السياسي العام، إلى البرامج والتنفيذ العملي لمشروع "25 يوليو/تموز" الرئاسي.

حتى اللغة التي يستعملها أنصار الرئيس، تبدو غريبة عن الحقل الدلالي السياسي المستخدم في تونس منذ عقود، والمتعارف عليه بين الفاعلين السياسيين، وفق ما يذهب إلى ذلك، كثير من المعلقين السياسيين، والمتابعين للمشهد التونسي.

الترشحات الفلكلورية

ينتقد المعارضون من جهة أخرى، سماح السلطة، بترشحات فلكلورية، كما يصفها البعض، لا يمتّ أصحابها بأي صلة إلى العمل السياسي أو الشأن العام، ولا لأيّ علاقة بالدولة ومؤسساتها، وكيفية إدارتها، ويتهمون السلطة، بإغراق المشهد الانتخابي، بــ "نكرات"، من أجل تشتيت أصوات الناخبين، وتمكين الرئيس سعيّد، من الفوز بشكل مريح، بالاستحقاق الرئاسي، حتى وإن اكتفى بنسبة التصويت، التي حصل عليها الاستفتاء على الدستور الذي وضعه بنفسه (8 بالمائة من حجم الناخبين المسجّلين لدى هيئة الانتخابات).

وزادت هذه القناعة رسوخًا، عندما أفاق المعارضون على أول مترشح للرئاسية يحصل على وصل قبول ملف ترشحه، ليتبيّن أن الرجل (فتحي بن خميّس الكريمي)، عامل يومي، وكان من قبل، عونًا بوزارة الداخلية، فضلًا عن تصريحه في مناسبات سابقة، بأنّ أحد أهم عناصر برنامجه الانتخابي، هو "القضاء على الأحزاب السياسية، وإنهائها من الوجود".

وتشكّل الهيئة العليا للانتخابات، محور النقاش الدائر في تونس بشأن النزاهة المحتملة "للاستحقاق الرئاسي"، نظرًا لفقدانها الاستقلالية في قراراتها وإجراءاتها.. إذ يتهمها المعارضون للسلطة، بكونها تستبطن مقولات الرئيس سعيّد وتوجهاته وخياراته، مستبعدين أن تكون عاملًا أساسيًا في ضمان نزاهة الانتخابات، كما كانت تفعل خلال المواعيد الانتخابية السابقة، طيلة العشرية الماضية.

لا سيما أنّ الحزام الانتخابي المراقب للعملية الانتخابية: (إعلام ومنظمات مختصة في الشأن الانتخابي)، قد وقع "قصّ أجنحته"، عبر قرارات وإجراءات، كان آخرها، إعلان الهيئة أنها تتمتع بالولاية العامة قانونيًا، على تفاصيل وحيثيات العملية الانتخابية، وعملية إدارتها إعلاميًا، ومراقبتها من قبل المنظمات المعنية في الداخل والخارج.

الأمر الذي دفع منظمة "أنا يقظ"، إلى الطعن في استقلالية الهيئة، وشرعيتها في الإشراف على إدارة العملية الانتخابية، فيما أعلنت نقابة الصحفيين، على لسان رئيسها، زياد الدبار، أنّ هيئة الانتخابات، "لا يحقّ لها الولاية الإعلامية في هذا الاستحقاق الانتخابي"، محذّرًا من قيام الهيئة بدور النقابة والمنظمات المعنية بالإعلام، المرافقة – عادة – لسير العملية الانتخابية.

وتُبدي الأطراف المعارضة لخطّ الرئيس قيس سعيّد، تحفظاتها، كذلك، على مضيّ رئيس الجمهورية، في ذات الخطاب السياسي وعناوينه المعروفة، على غرار "اللصوص والمتآمرين والخونة، واللوبيات الفاسدة، والغرف المظلمة، والبائعين ذممهم للخارج، والراغبين في تفتيت الدولة"… إلخ، وهي العبارات التي يرون أنها تساهم في شحن المشهد الانتخابي بكمية من التشنّج والتوتر والعنف اللفظي، الذي يرفع من درجة الاحتقان السياسي، في وقت يفترض أن يحتكم الجميع، للعقلانية والرصانة والهدوء، لإدارة صراع البرامج، الذي تفرضه العملية الانتخابية.

اللافت، حقيقة، أنّ هذا الخطاب الرئاسي، ما يزال يجد له صدى في بعض الأوساط الشعبية والسياسية، خصوصًا الأحزاب التي كانت على هامش العملية السياسية والحكم، خلال العشرية الماضية، بحكم ضعفها وقلة حيلتها، ما جعلها تنعت بـ "أحزاب الصفر فاصل"، وهي نتيجتها المعبرة عنها شعبيًا، عبر صناديق الاقتراع.

المفارقة هنا، أنّ هؤلاء، هم اليوم، الفاعلون الأساسيون في المشهد، وبعضهم من صناع القرار السياسي للبلاد.

ضمن هذا المناخ العام، الذي يسبق الانتخابات الرئاسية، ومع بداية تسليم هيئة الانتخابات وثائق اعتماد المرشحين وفقًا لمقتضيات القانون وحسابات الهيئة، تجري هذه الانتخابات في أجواء إعلامية، أقل ما يقال عنها أنها باردة، يسودها الخوف المهيمن على الأوساط الصحفية، من إمكانية أن تتم ملاحقتهم قضائيًا، مثلما جرى لزملائهم الذين يقبعون حاليًا في السجون، بسبب نقدهم للسلطة، التي تتحدث ــ خلاف ذلك ــ عن ملفات فساد مالي وسياسي، جرّت هؤلاء الصحفيين إلى السجون، وليس على خلفية حرية التعبير والنقد للنظام.

الانتخابات التونسية.. والخارج

ومع أنّ الانتخابات، شأن داخلي صرف – عادة ـ إلا أنّ بعض الملاحظين، يرقبون بشغف كبير، مواقف وتحركات الدول التي يعنيها الشأن التونسي، لارتباطه إقليميًا بالمغرب العربي، ووجود تونس على خط جيوسياسي، بين أفريقيا من جهة الجنوب، وأوروبا والمتوسط من الجهة الشمالية، وهو ما يفسّر، تداول أوساط سياسية عديدة، تصريحات السفير الأميركي السابق في تونس، جوردن غراي، الذي بدا متشائما من العملية الانتخابية في تونس، بعد أن أعلن أن "الانتخابات لن تكون نزيهة"، وأنّ تونس ستشهد لاحقًا، تآكلًا غير مسبوق في الحقوق المدنية والسياسية، وفق تعبيره قبل نحو أسبوعين.

مما زاد من توجس المنخرطين والمعنيين بالعملية الانتخابية في تونس، تقديم إحدى الإذاعات الجزائرية مؤخرًا، سيناريو لحصيلة الانتخابات الرئاسية، حيث اعتبر أحد محلليها، أنّ هناك صراعًا شديدًا بين المنظومة السابقة (ما قبل الثورة)، ومنظومة ما بعد الثورة، وأنصار الرئيس قيس سعيّد ومعسكر الموالاة له.

قبل أن تقدّم الإذاعة الجزائرية الرسمية، تقديرها السياسي، بالقول: "إنّ الرئيس قيس سعيّد، ينطلق بحظوظ وافرة للفوز بالانتخابات"، وهو ما اعتبرته أوساط سياسية وإعلامية تونسية، تقديرًا جزائريًا نابعًا من ترتيبات إقليمية، قد تكون الجزائر تدفع باتجاهه، أمام الرغبة الفرنسية، في إجراء تغيير، ربما كان منذر الزنايدي، الوزير السابق، عنوانه البارز، وفق بعض التحليلات التي لا تخلو من وجاهة.

لا يمكن للمرء أن يفصل الانتخابات التونسية، عن مجريات وترتيبات الإقليم بأي صورة من الصور.. فمن الناحية الجيوبوليتيكية، تبدو تونس، العصب الحيّ لمنطقة شمال أفريقيا، وارتباطها الاقتصادي بأوروبا، يجعل مكانتها أكثر تعقيدًا، ومع دخول المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، "على الخطّ"، من خلال هجرتهم المكثفة إلى تونس، يضع ذلك السلطات التونسية في قلب "المعادلة الأفريقية"، إلى جانب الرغبة الأميركية، في استبعاد تونس من الدائرة الصينية – الروسية – الإيرانية.

كل ذلك، يدفع "اللاعبين الدوليين"، إلى الحرص على الحفاظ على حدّ أدنى من حالة الاستقرار في تونس، الجارة المهمة لليبيا المرتبكة، والجزائر المتحوّلة.

هل كان تصريح السفير الأميركي السابق في تونس، مجرّد معلومة حول ما سوف يحصل في الانتخابات التونسية، وهو العارف بتفاصيل المشهد في الشأن التونسي، أم كان يحذّر من سيناريو ما، أم هو يحضّر النخب التونسية في الحكم خاصة، إلى ضرورة الانتباه، إلى أن الحالة التونسية، لا ينبغي أن تقفز بشكل بهلواني، ولكنها يجب ألا تنتكس كذلك إلى دون ما تحقق في السنوات الإحدى عشرة الماضية، رغم كل ما يقال عن هذه العشرية؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الانتخابات الرئاسیة العملیة الانتخابیة الرئیس قیس سعی د هیئة الانتخابات أنصار الرئیس حرکة النهضة فی تونس من قبل بعد أن

إقرأ أيضاً:

عيون الأمة الحارسة والمرابطة.. مشاتل التغيير (20)

وأصل حراسة الأمة والدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مثل قوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرا لَّهُم مِّنْهُمُ الْـمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران: 110)، وقوله: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 104). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فِرْقَة من الأمَّة متصدية لهذا الشأن (وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه)".. وأكد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويجب على أولي الأمر -وهم: علماء كل طائفة، وأمراؤها، ومشايخها- أن يقوموا على عامتهم، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر؛ فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله".

والتدافع سنة ماضية، بحيث يُوجد في مسيرته وحماية للحق "حُماته الذين يدافعون عنه، كما قال الله تعالى: "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْـحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" (الأعراف: ١٨١). قال الشيخ السعدي: "أي: ومن جملة مَن خلقنا أمة فاضلة كاملة في نفسها، مكمِّلة لغيرها، يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق، فيعلمون الحق ويعملون به، ويعلِّمونه، ويدعون إليه وإلى العمل به".

وفي حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم "وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله"، فالمقصود من المرابطة ملازمة الثغر بهدف التأمين والحراسة، وترك ما يشغل عن ذلك. وقال سيدنا عثمان على المنبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "رباطُ يوم في سبيل الله خيرٌ من ألف عام فيما سواه من المنازل"..

وتعد الحراسة في سبيل الله من أعظم مراتب الجهاد؛ يقول الإمام ابن النحاس: "اعلم أن الحراسة في سبيل الله من أعظم القربات، وأعلى الطاعات، وهي أفضل أنواع الرباط، وكل من حرس المسلمين في موضع يخشى عليهم فيه من العدو فهو مرابط"، ومنه الرباط والمدافعة لكل تحديات تواجه عالم المسلمين وما يلزم في ذلك من الحراسة والرباط لكل ما يفضي إلى تأمينهم وأمانهم.

والرباطُ لزوم للمحلِ الذي يُخَافُ وصولُ العدو منه، ومراقبتهم ومنعهم من الوصول إلى مقاصدهم ويسمى المرابطة.. ولكل زمان رباط ولكل مسلم وجماعة ومؤسسة رباطها؛ والمرابطة في هذا الزمان صار لها أكثر من موقع، وأكثر من تخصص، وأعلاها الإقامةُ في الثغور، وهي الأماكنُ التي في الحدودِ والأطرافِ التي يخافُ المسلمونَ أن يدخل منها أعداءُ الإسلامِ إلى بلادِ المسلمينَ. والمرابطُ هو: المقيمُ فيها المعدُّ نفسَهُ للجهادِ في سبيلِ اللهِ، والدفاعِ عن دينِهِ ووطنه.

وفي لطيفة ذكرها الإمام المناوي في "فيض القدير"، قال: "سوّى بين العين الباكية والحارسة؛ لاستوائهما في سهر الليل لله، فالباكية بكت في جوف الليل خوفا لله، والحارسة سهرت خوفا على دين الله"، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" "آل عمران: 200".

من أهم العناصر التي يمكن أن يؤسس عليها العالم الإسلامي أفكاره الأساسية وممارساته التطبيقية؛ فكرتان أساسيتان تشكلان ركنا مهما في رؤية التأسيس الكلية التي تؤكد على إمكانات الرقي والنهوض للعالم الإسلامي؛ أولهما العقيدة الدافعة، كنقطة انطلاق محورية تمكن أصل الوحدة على قاعدة من قيمة التوحيد، توحيد الفكرة، وتوحيد العمل، وتوحيد القدرات؛ إنها العقيدة الدافعة التي تمثل عروة وثقى لا انفصام لها.

ثانيهما فكرة الأمة الجامعة، كتمثيل لمقصد الوحدة الإسلامية والتأكيد على الوقوف في وجه التحديات التي تشكل فرقة هذه الأمة وتجزئتها من خلال فكر وعمل استراتيجي يقوم على قاعدة مواجهة تحديات الفرقة، وكذلك العقبات المتعلقة بالتجزئة؛ إن فكرة الجامعية والتكاملية إنما تشكل حقيقة هذه الأمة الجامعة في سياق هدف الاعتصام، "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: 103).

هاتان الفكرتان؛ العقيدة الدافعة والأمة الجامعة، إنما تشكلان في حقيقة الأمر قاعدتين لفاعلية حضارية تتشكل من خماسية تؤكد ليس فقط على العقيدة الدافعة، ولكنها تشكل هذه العقيدة ضمن رؤية عالمية إسلامية تؤسس لقيم ومسالك أساسية تهدف إلى تحقيق علاقات العدل الشامل، والبناء الهادف للإنماء والعمران، كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال عقل استراتيجي للأمة يحمل هذه العقيدة الدافعة، والعدل الشامل كقيمة فاعلة، والعالمية كإسهام حقيقي في رؤية إنسانية تعارفية منفتحة. هذه الرباعية التي يحملها هذا العقل الاستراتيجي إنما تمثل مواجهة لكل تتعرض له هذه الأمة من تحديات وعقبات، ضمن هذه الكليات الأساسية، وهذه العيون الخمس الممثلة لعناصر رؤية كلية "عقيدة، عالمية، عمران، عدل، عقل" (كلها تبدأ بحرف العين)؛ إنما تشكل أهم عناصر في صياغة تلك الرؤية الدافعة ضمن مرجعيتها التأسيسية المتمثلة في الرؤية العقيدية والجامعة ضمن أمة واحدة تهدف إلى التعاون والتكامل.

فإذا كانت تلك العيون الخمس التي تشكل عناصر مهمة ضمن هذه الرؤية التأسيسية فإنها في حقيقة الأمر تفضي إلى عيون خمس أخرى تنظم بين هذه العناصر والأركان، فتؤكد على ذلك العهد التوحيدي الجامع، والعقد التبادلي الشامل، والعمق الاستراتيجي الممتد، والعلاقات التكاملية والتعارفية بين كيانات الأمة المختلفة، لتحقيق الاستفادة والاستثمار من كل تلك الأركان والعناصر ضمن علاقات تعاونية استراتيجية تهدف إلى التكامل والتنسيق والقدرة على تمثيل مصالح الأمة وأهدافها الكبرى، وهي من خلال هذه العيون الخمس الناظمة، عهد، عقد، عمق، علاقات، عون، إنما تشكل في حقيقة الأمر ميثاق هذه العلاقات ضمن رؤية استراتيجية راشدة فاعلة، قادرة على أن تحقق كل ما يتعلق بنفع هذه الأمة ومصالحها.

هذه العيون الخمس التي تمثل الأركان والعيون الخمس التي تشكل نظما للعلاقات فيما بينها تتطلب ثلاث عيون أخرى تحقق المعنى والمغزى في وحدة الأمة الإسلامية؛ إن هذه الوحدة لا بد وأن تستند إلى تضافر ثلاثية الأداء، والأدوات معا، بحيث تشكل في الحقيقة مسارات تترجم تلك الأركان والنواظم إلى حركة فعلية شعارها ذلك المثلث المهم؛ "علم وعمل وعدة"؛ إنها تشير في حقيقة الأمر إلى الامتثال للقوانين والسنن الماضية والفاعلة، وليس لهذه الوحدة إلا أن تقوم على علم بصير، وعمل سديد، وعودة كافية. إنه الاستثمار الذي يؤكد على الخطط العلمية، والعمل التنفيذي يرفعه، والعدة تحقق هذا العلم والعمل ضمن سياقات تجعل من الأدوات والوسائل والآليات عملا مهما يترجم الأداء من خلال شروط الفاعلية والأدوات؛ من خلال استثمارها بالكفاية والكفاءات اللازمة، إن الإرادة في النهاية إنما تشكل علم وعمل، والإدارة إعداد وعدة، "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة" (التوبة: 46).

إن هذه الروابط والوشائج بين الأركان الخمسة ونواظم العلاقات الخمس، والثلاثية التي تتعلق بالأداء والأدوات والآليات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجد صداها، ولا أصول الفاعلية وسننها، إلا من خلال رباعية من المؤسسات نقترحها في هذا المجال، أو تقوم على دعم مؤسسات قائمة تحرص على فاعليتها وتوفير تلك الشروط لأداء وظائفها، وتحقيق إنجازاتها؛ مؤسسة عدل، ومؤسسة علم، ومؤسسة عقل استراتيجي، ومؤسسة عمران، هذه المؤسسات التي تشير إلى مربع العيون تلك إنما تتمثل في حقيقة الأمر بضرورة بناء مصفوفة من المؤسسات تعكس وحدة الأمة الإسلامية، وتؤكد على معنى جامعيتها؛ ذلك أن تلك الوحدة والجامعية، والمؤسسية، إنما تشكل بحق عنوان الفاعلية.

وفي هذا المقام علينا أن نتحدث عن مربع المؤسسات تلك ضمن مؤسسات مهمة تضمن لهذه الأمة جامعيتها وفاعليتها معا، فتشكل أولاها مؤسسة عدلية، تتمثل في محاكم مهمة تشكل في حقيقة الأمر المعنى الذي يتعلق بهذا التكامل بين هذه الأمة؛ ضمن ما يمكن تأسيسه أو إقامته حول مشروعين مهمين؛ محكمة عدل إسلامية، ومحكمة إسلامية لحقوق الإنسان. تلك المؤسسات الضامنة لكرامة الإنسان المسلم هي عنوان لهذه الأمة وجامعيتها، ذلك أن الإنسان المسلم هو الوحدة الأساسية لتشييد هذا الكيان الذي يحقق معنى الحقوق للإنسان، ومعنى العدل بين الجماعات والتكوينات في الأمة الإسلامية.

ولعل ذلك الاجتهاد الذي طرح مبكرا في سياق فكرة الجامعة الإسلامية، أو تلك الفكرة التي أشار إليها مالك بن نبي حول "كومنولث إسلامي"، أو الفكرة التي أكد عليها الدكتور عبدالرازق السنهوري "عصبة أمم شرقية"؛ إنما تشكل في جوهرها ضمن هذه التمثلات والمؤسسات التي يجب أن تنشأ للحفاظ على الإنسان، وعلى علاقات العدل الفاعلة بين أجزاء هذه الأمة ومكوناتها.

المؤسسة الثانية، مؤسسة علمائية، هذه المؤسسة تشكل كيانا افتائيا إسلاميا يحفز جامعية هذه الأمة، ويؤكد عليها باعتبارها من ضرورات وواجبات الوقت، هذه المؤسسة الافتائية الإسلامية تنهض بفتاوى الأمة، والفتاوى الاستراتيجية، وكذا الفتاوى الحضارية التي تنهض بالأمة وترتقي بمقدراتها، وكذلك فإنها تقدم فتاوى رصينة وبصيرة تحرك التدبير، وتصنع المستقبل، هذه المؤسسة الافتائية إنما تتحرك على قاعدة تستلهم فيها كليات الدين الإسلامي الفاعلة التي تؤسس لحركة راشدة وسديدة، وبصيرة استراتيجية، واعية، ومديدة.

أما المؤسسة الثالثة فإنها تترافق مع هذه المؤسسة الإفتائية العلمائية، ولكنها تمثل في حقيقة الأمر عقلا استراتيجيا للأمة، تنهض بالأدوار والوظائف الفاعلة لمواجهة التحديات الحضارية المحيطة بالأمة وصناعة قنوات ومسالك الوحدة الإسلامية وجامعية الأمة؛ هذا العقل الاستراتيجي بما يمثله من خمائر يشكل في حقيقة الأمر بناء رؤية استراتيجية لمواجهة واقع التحديات، واستراتيجيات للعمل في مواجهة الأزمات، وكذلك تشييد جامعات حضارية، ومراكز بحوث استراتيجية، ومستودعات تفكير مستقبلية، تمثل أصولا مهمة في التفكير والتدبير والتسيير والتغيير والفاعلية والتأثير، وهي بذلك تمثل الشبكة العصبية والفكرية والثقافية والتربوية في هذه الأمة بما تستلزمه من وعي رشيد، وسعي سديد.

أما المؤسسة الرابعة؛ فهي المؤسسة العمرانية، تلك التي تقوم على صياغة العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، الثقافية والفكرية والحضارية، وكذلك ما يمكن تسميته العلاقات الإسلامية الإسلامية من كافة النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يعني القيام بصياغة استراتيجيات تنموية وتكاملية على حد سواء، إن نمو الدول الإسلامية جميعا ضمن رؤية تكاملية ليحقق ويترجم للهدف المطلوب في الوحدة الإسلامية وفاعلية جامعية الأمة.

هكذا يمكن أن تتحقق عناصر الفاعلية تلك من خلال هذه المؤسسات التي تنهض على أركان خمسة: عقيدة دافعة رافعة، عالمية إسلامية، عدل شامل، عمران إنمائي، وعقل استراتيجي، استنادا إلى عهد تأسيسي وعقد تبادلي وعمق استراتيجي وحضاري وعلاقات تنسيقية وتكاملية، وعون يحقق الهدف في الجامعية والفاعلية، متوسلا مسالك العلم النافع، والعمل الصالح، والعدة الكافية، كل ذلك إنما يشكل في حقيقة الأمر أصولا لتلك الفاعلية الأساسية في وحدة الأمة الإسلامية.

هذه المصفوفات جميعا إنما تشكل مقدمات غاية في الأهمية لو أردنا أن نؤشر إلى بعض التفصيلات فيها فلربما يطول بنا المقام، ولكننا سنقوم على استعراضها جميعا، في عجالة تؤصل هذه المعاني التي وردت ضمن هذه الاستراتيجية الجامعة، والبصيرة الواعية.

ولعل الأمر الذي يتعلق بالمؤسسات الفاعلة هو من أهم المتحصلات والثمرات التي تضمن فاعلية لهذه الأمة، إن هذا التوجيه النبوي الذي يؤكد على أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل إنما يحمل معنى الاستدامة، والاستدامة لا يمكن تحقيقها إلا في سياق عمل مؤسسي مستمر، وأن هذا العمل المؤسسي لا يمكن أن يحقق ثماره المؤسسية إلا في سياق السعي الذي يحقق قوانين وسنن الفاعلية. عند هذا الأمر يجب أن يشكل هذا المثلث في أضلاعه من عقيدة دافعة، وأمة جامعة، ومؤسسات فاعلة، وهو ما يتطلب ذلك الفهم الواعي والبصير لكل تلك المتطلبات والمستلزمات التي يمكن أن تجمع هذه العيون التي تشكل أهم أدوات السير في الأرض، والنظر في الواقع والمستقبل.

إنها عيون لا تشكل فقط بصرا، ولكنها بصائر استراتيجية وجب علينا أن نصيغها وفق أصول مرعية، وقواعد كلية، وتطبيقات مؤسسية؛ هكذا يمكن أن نحقق الوعي بالأمة في هذا المقام باعتباره وعيا، ووعدا، وعهدا بين كل مكونات هذه الأمة، فإن لم نعمل بتلك السنن الماضية لرفعتها، وتحقيق معنى وسطيتها وشهودها، ومعنى خيريتها وغاياتها؛ فإننا بذلك نهدم أصلا أصيلا في معنى الأمة وبلوغ مقاصدها الكلية في الرقي والنهوض والعمران.

x.com/Saif_abdelfatah

مقالات مشابهة

  • الرئيس الشرع: هذا الذي نراه من دعم الأشقاء والأصدقاء ورفع العقوبات ليس من قبيل المجاملة السياسية، بل هو استحقاق استحقه السوريون من العالم لما بذلوه من تضحيات وسطروه من بطولات، وما يثقل عاتقنا عظم الأمانة فلا تخذلوا أنفسكم فتخذلوا عالماً تعلقت آماله عليكم
  • الرئيس الشرع: نلتقي اليوم على ثرى حلب الشهباء هذه المدينة التي ما انحنت لريح ولا خضعت لعاصفة بل كانت القلعة وكانت الجدار وكانت الشاهد على الصمود
  • عيون الأمة الحارسة والمرابطة.. مشاتل التغيير (20)
  • شاهد الفيديو.. الرئيس الفرنسي يعلق على الصفعة التي تلاقها من زوجته
  • وسط استقطاب سياسي واسع.. بولندا تستعد لجولة حاسمة في الانتخابات الرئاسية
  • الرئيس عون: نجاح الانتخابات يؤكد حيوية الديمقراطية
  • تظاهرات حاشدة لمعسكري الانتخابات الرئاسية في بولندا
  • حرائق ضخمة في الجبل الأخضر، وشكوك محلية بشأن افتعالها
  • مفوضية الانتخابات:أكثر من (29) مليون عراقي لهم الحق في التصويت الانتخابي
  • الرئيس اللبناني: الانتخابات تؤكد أن إرادة البناء أقوى من الهدم