أتيحت لي فرص متعددة للقاء معظم القيادات السياسية الحالية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وخصوصاً خلال فترة تولي الأستاذ خالد مشعل رئاسة مكتبها السياسي، وهي فترة طويلة تجاوزت عقدين من الزمان. كما أتيحت لي في الوقت نفسه فرص مختلفة للقاء الأستاذ رمضان شلح، الأمين العام السابق لحركة الجهاد الفلسطينية، سواء في لقاءات مشتركة مع قيادات من حماس، كانت غالباً ما تجري على هامش ندوات أو مؤتمرات تستضيفها عواصم عربية مختلفة خلال الفترة التي سبقت اندلاع «ثورات الربيع العربي» أو في لقاءات ثنائية جمعتنا خلال بعض زياراته للقاهرة أثناء توليه قيادة الحركة.


ورغم أنني لم أتشرف أبداً بلقاء المناضل الكبير الشهيد إسماعيل هنية وجهاً لوجه، ربما لأنه قضى معظم سنوات حياته مناضلاً في الميدان من داخل قطاع غزة، فإنَّني سعدت بالمشاركة معه في عدة حلقات نقاشية جرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان آخرها قبل أسابيع قليلة من استشهاده.
كانت العلاقة بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، من بين الموضوعات التي تطرق إليها النقاش كثيراً في تلك اللقاءات. في أحدها، وجّه إليَّ الأستاذ خالد مشعل السؤال التالي: هل توجد في تصورك صيغة معينة للعلاقة مع إيران ينبغي أن تسعى إليها أو تحافظ عليها فصائل المقاومة الفلسطينية؟
وإذا لم تخن الذاكرة، كانت إجابتي على النحو التالي: في تقديري، ينبغي أن تنأى فصائل المقاومة الفلسطينية بنفسها بعيداً من أي صراعات مذهبية أو طائفية تموج بها المنطقة، وأن تكون المصلحة الفلسطينية هي وحدها البوصلة الموجهة لشكل ومضمون العلاقة مع جميع الأطراف، وليس مع إيران وحدها، ثم أردفت قائلاً: أعتقد أن التناقض القائم بين الثورة الإيرانية والمشروع الغربي للهيمنة على المنطقة حقيقي وعميق، ومن ثم فلدى الدولة الإيرانية الكثير مما يمكن أن تقدمه لمساعدة الشعب الفلسطيني على استخلاص حقوقه المشروعة، وخصوصاً إذا اختار الكفاح المسلح سبيلاً لاستخلاص تلك الحقوق. لذا، أعتقد أن من مصلحة الفصائل الفلسطينية أن تقيم أوثق العلاقات مع إيران، وأن تحرص في الوقت نفسه على المحافظة على استقلالية قرارها.
كنت قد استخلصت رؤيتي هذه من قراءتي الشخصية لتطور الأوضاع في المنطقة آنذاك، فقد اندلعت الثورة الإيرانية بعد أشهر قليلة من توقيع السادات على اتفاقيتي كامب ديفيد، وقبل أسابيع قليلة من إبرام معاهدة سلام منفردة مع الكيان الصهيوني.
ولأن إيران كانت قد أعلنت منذ اللحظة الأولى لنجاح ثورتها الإسلامية دعمها التام للقضية الفلسطينية، إلى درجة إقدامها على قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني على الفور وتسليم مقر بعثته الدبلوماسية في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فقد بدا واضحاً في ذهني أن إيران الجديدة يمكن أن تشكل عمقاً استراتيجياً قادراً على تعويض الخلل الناجم عن انسحاب من مصر من المعادلة العسكرية للصراع، ومن ثم على المحافظة على حيوية القضية الفلسطينية التي يسعى الكيان لتصفيتها بكل ما في حوزته من وسائل، بعدما كانت في زمن الشاه عبئاً كبيراً على هذه القضية، غير أنّ اندلاع الحرب العراقية الإيرانية من ناحية، وإقدام الكيان الصهيوني على اجتياح لبنان من ناحية ثانية، ثم إقدام العراق على غزو واحتلال الكويت من ناحية ثالثة، ولد جملة من التفاعلات دفعت بالمنطقة نحو متاهات كادت تفضي فعلاً إلى تصفية هذه القضية.
عام 1993م، وقعت منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقية أوسلو. وفي العام التالي، وقع الأردن على اتفاقية وادي عربة. ولولا تراجع سوريا في آخر لحظة عن التوقيع على اتفاقية مماثلة، لكان الكيان الصهيوني قد نجح في فرض إرادته على مجمل دول الطوق، ولما استطاع لبنان أن يصمد.
اليوم، وبعد ما يقارب نصف قرن على توقيع مصر معاهدة «سلام» مع الكيان، وأكثر من 3 عقود على توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على «اتفاقية أوسلو» والأردن على «اتفاقية وادي عربة»، لم يعرف السلام الحقيقي طريقه إلى المنطقة.
وإذا كان الكيان الصهيوني قد فشل حتى الآن في تصفية القضية الفلسطينية، كما فشل في فرض هيمنته التامة على المنطقة، وهما أمران متلازمان بالضرورة، فذلك يعود إلى نجاح الثورة الإيرانية في تثبيت دعائمها الداخلية من ناحية، وفي تشكيل محور لمقاومة الهيمنة على المنطقة من ناحية أخرى.
صحيح أن الهدف الرئيسي من تشكيل هذا المحور كان مساعدة الثورة الإيرانية على التصدي لمؤامرات خارجية عديدة راحت تتعرض لها منذ اليوم الأول لاندلاعها، غير أن هذا المحور ما لبث أن تحول تدريجياً إلى أداة أساسية لحماية حقوق الشعب الفلسطيني في الوقت نفسه، وهو ما تجلى بوضوح تام عقب عملية «طوفان الأقصى»؛ ففي اليوم التالي مباشرة، وعقب إقدام الكيان الصهيوني على شنّ حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، قرّر حزب الله الدخول على خط المواجهة المسلحة وفتح جبهة الشمال لإجبار الكيان على تخفيف ضغطه العسكري على القطاع. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى كانت خطوط المواجهة العسكرية مع العدو المشترك تتسع تدريجياً لتشمل كلاً من جماعة أنصار الله في اليمن وفصائل المقاومة الإسلامية في العراق.
معنى ذلك أن الكيان الصهيوني أجبر على الدخول في جولة من المواجهات العسكرية لم يشهد لها مثيلاً من قبل، وما زال منغمساً فيها منذ أكثر من 10 أشهر من دون أن يتمكن من تحقيق أي من الأهداف التي حددها لنفسه، ألا وهي: تحطيم القدرات العسكرية لحماس وإخراجها من المعادلة السياسية للصراع، واستعادة جميع الأسرى المحتجزين لديها، وفرض الهيمنة الأمنية الكاملة على القطاع عقب توقف القتال، وخصوصاً إذا فشل في إعادة احتلاله بعد إجبار الفلسطينيين على الرحيل منه.
يدرك الكيان الصهيوني أنّ معركته الرئيسية أصبحت مع محور للمقاومة تقوده إيران، ما دفعه إلى التحرك على خطين متوازيين: إشعال الفتنة الطائفية في المنطقة، وخصوصاً بين السنة والشيعة، من ناحية، واستدراج الولايات المتحدة للمشاركة معه في توجيه ضربة عسكرية إلى إيران من ناحية أخرى.
ويدل سلوكه خلال الأيام القليلة الماضية على أنه لم يتخلَّ أبداً عن أي منهما، فقد تعمد إشعال فتنة بين الدروز والشيعة، حين ادعى أن حزب الله هو من أطلق الصاروخ الذي أودى بحياة عدد من الفتية أثناء ممارستهم لعبة كرة القدم في قرية مجدل شمس الواقعة في هضبة الجولان السورية، رغم أنه يبدو واضحاً لكل ذي عينين أنْ لا مصلحة لحزب الله إطلاقاً في ارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء، ولو كان الصاروخ قد انطلق من عنده بطريق الخطأ لاعترف واعتذر، غير أن موقف الدروز في القرية السورية برفضهم القاطع مشاركة أي من المسؤولين الإسرائيليين في تشييع جثامين الضحايا، وكذلك موقف السياسي اللبناني الكبير وليد جنبلاط، الذي حمل الكيان المسؤولية الكاملة عن ارتكاب هذه الجريمة، ساهما في إجهاض هذه المحاولة المكشوفة.
على صعيد آخر، تعمد الكيان الصهيوني اغتيال المجاهد الفلسطيني الكبير الشهيد إسماعيل هنية في قلب العاصمة الإيرانية طهران، آملاً أن تنجح هذه الضربة القاسية في تحقيق عدة أهداف متزامنة، وخصوصاً أنها جاءت عقب ارتكابه جرائم أخرى لا تقل بشاعة، ألا وهي اغتيال المجاهد اللبناني الكبير الشهيد فؤاد شكر من ناحية، والإغارة قبل ذلك على ميناء الحديدة في اليمن متسبباً، من ناحية أخرى، بتدمير عدد من مخازن النفط ومحطات توليد الكهرباء.
وإلى جانب محاولاته الدائمة لإشعال فتنة طائفية بين الشيعة والسنة، فإنَّ الهدف الأساسي للكيان الصهيوني من وراء ارتكابه هذه الجرائم الكبرى المتتالية هو، في تقديري على الأقل، جر إيران، ومعها بقية مكونات محور المقاومة، إلى مواجهة عسكرية شاملة تشارك فيها الولايات المتحدة الأميركية.
ليس الغرض من هذا المقال استشراف السيناريوهات المحتملة للرد على الجرائم المتعددة التي ارتكبها الكيان الصهيوني، سواء جاء هذا الرد منفرداً ومتقطعاً أو مجتمعاً ومتزامناً، وليس الغرض منه مناقشة التداعيات المحتملة لتلك الخيارات المختلفة، غير أني أريد أن أتوقف هنا أمام مشهد بدا لي فريداً ومؤثراً، حين كان الإمام خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية وأكبر مرجعية دينية في إيران الشيعية، يؤم بنفسه صلاة الجنازة على روح القائد إسماعيل هنية، أحد أكبر الرموز النضالية في العالم السني وشهيد القضية الفلسطينية، فيما كانت أجراس الكنائس تقرع وتقام صلاة الغائب على روحه الطاهرة في الوقت نفسه، ليس في فلسطين وحدها، إنما في مناطق كثيرة على امتداد العالمين العربي والإسلامي. ولأنه مشهد جسّد التفاف العالمين العربي والإسلامي حول القضية الفلسطينية، ربما بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، يبدو لي أن اغتيال هنية على يد الكيان الصهيوني في طهران، القلب النابض لمحور المقاومة، سيشكل نقطة تحول وانطلاقة جديدة في مسار القضية الفلسطينية.
لقد أكد استشهاده على هذا النحو غير المتوقع، أن الشعب الفلسطيني لن يتمكن من انتزاع حقوقه وتقرير مصيره عبر مفاوضات عبثية مع عدو يصر على فرض هيمنته التامة على كامل المنطقة، إنما بهزيمة واستسلام وتفكك المشروع الصهيوني نفسه. وأعتقد أن تلك هي الرسالة التي أرادت حماس إرسالها إلى الجميع عبر اختيارها المناضل يحيى السنوار خلفاً للشهيد إسماعيل هنية على رأس مكتبها السياسي.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

"مقترح أميركي" على طاولة إيران.. والبيت الأبيض يعلق

أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن نظيره العماني نقل خلال زيارة قصيرة لطهران، السبت، بنود مقترح أميركي بشأن التوصل إلى اتفاق نووي بين طهران وواشنطن.

وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت في وقت لاحق، السبت، إن ستيف ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب "أرسل مقترحا مفصلا ومقبولا للنظام الإيراني، ومن مصلحتهم قبوله".

وذكر عراقجي في منشور على منصة إكس أن إيران "سترد على المقترح الأميركي بما يتماشى مع المبادئ والمصالح الوطنية وحقوق الشعب الإيراني".

ويأتي تصريح عراقجي قبل جولة سادسة مرتقبة من المحادثات بين واشنطن وطهران لحل النزاع المستمر منذ عقود حول البرنامج النووي الإيراني، فيما لم يُعلن بعد عن موعد المحادثات ولا مكانها.

بيان البيت الأبيض

وقالت ليفيت في بيان: "لقد أوضح الرئيس ترامب أن إيران لا يمكنها أبدا الحصول على قنبلة نووية"، مؤكدة أنه تم نقل المقترح الأميركي لإيران.

وقال ترامب، الجمعة، إن الاتفاق مع إيران ممكن في "المستقبل غير البعيد".

وقبل أيام، قال ترامب للصحفيين إنه حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من اتخاذ إجراءات قد تعطل المحادثات النووية مع إيران.

وبدا أن التعليقات تشير إلى قلق الولايات المتحدة من احتمال شن إسرائيل ضربة على المنشآت النووية الإيرانية في ظل استمرار الجهود الدبلوماسية الأميركية.

وهدد ترامب مرارا بقصف المنشآت النووية الإيرانية إذا فشلت الدبلوماسية في التوصل إلى اتفاق.

وإحدى النقاط الشائكة الرئيسية في المحادثات بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين هي إصرار الولايات المتحدة على أن تتخلى إيران عن منشآتها لتخصيب اليورانيوم، وهو ما ترفضه إيران.

وكان ترامب، الذي أعاد فرض حملة "أقصى الضغوط" على طهران منذ فبراير، قد تخلى في عام 2018 عن الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بين إيران و6 قوى عالمية خلال فترة ولايته الأولى، وأعاد فرض عقوبات شديدة على إيران.

وفي السنوات التي تلت ذلك، تجاوزت طهران بشكل مطرد القيود التي فرضها اتفاق عام 2015 على برنامجها النووي، والتي تهدف إلى زيادة المصاعب أمام تطوير قنبلة ذرية، فيما تنفي طهران سعيها لامتلاك سلاح نووي.

مقالات مشابهة

  • "مقترح أميركي" على طاولة إيران.. والبيت الأبيض يعلق
  • إيران تعلن تسلّم مقترح أميركي حول برنامجها النووي
  • مصدر بوزارة الدفاع: على المستثمرين والشركات العاملة لدى الكيان الصهيوني سرعة المغادرة
  • ضربات مركّزة ومواجهات ضارية .. المقاومة الفلسطينية تفتك بقوات العدو الصهيوني في عدة محاور بغزة
  • “المجاهدين الفلسطينية” تثمن قرار بلدية برشلونة قطع العلاقات المؤسسية مع الكيان الصهيوني
  • استشهاد مواطن اثر استهداف مسيرة للعدو الصهيوني مركبة جنوب لبنان
  • إيران تتحدى الغرب: لن نتخلى عن حقنا في التخصيب النووي
  • مساعٍ إماراتية لتحويل سقطرى إلى نقطة تجسس متقدمة لصالح الكيان
  • مساعي إماراتية لتحويل سقطرى الى نقطة تجسس متقدمة لصالح الكيان
  • الأحرار الفلسطينية: العدو الصهيوني دمر أكثر من 80 % من قطاع غزة في 600 يوم