رُبَّ سؤالٍ بلَّغَ منالًا
تاريخ النشر: 9th, September 2024 GMT
د. صالح الفهدي
أخبرني أحد المسؤولين أنَّه تولَّى مسؤوليةً رفيعةً في إحدى الولايات؛ فعُرضَ عليه مسارُ شارعٍ في أحد المسارات المهمَّةِ وكان موقعُ الشارع بين وادٍ وجبل، ولهُ مخارجُ متعدِّدة، وقد أعدَّ مهندسو الشركة ذلك التصميم بعد دراسةٍ مستفيضةٍ، وجهدٍ جهيد.
يقول: فلمَّا عُرضَ عليَّ وطُلبَ رأيي في المشروع، اتصلتُ برجلٌ بسيطٍ غير متعلِّمٍ لكنَّهُ صاحبُ رؤيةٍ وحكمة وبعد نظر، طالبًا منه أن يمرَّ عليَّ، فعرضتُ له المشروع وطلبتُ رأيهُ فيه، فما كاد يُلقى نظره على الخرائط حتى قال: إن هذا المسار الذي وضعته الشركة للشارع مُكلفٌ جدًا، كما إن مسارهُ غير مناسب، وأقترحُ أن يكون على الجانب الآخر من الوادي، وبرَّر رأيه بحججٍ مقنعةٍ منها: أن الموقع الذي اقترحه سيخفف التكلفة المالية، ويقصِّر وقت التنفيذ، كما أنه سيقلِّل من المخارج، يقول المسؤول: خرجتُ معه لمعاينة الموقع، فاقتنعتُ برأيه ورجَّحتُه على مشروع الشركة المتخصصة التي استخفَّت برأيه في البداية ثم إن مهندسيها اقتنعوا أيضًا بكلامه، وهكذا نُفِّذ المشروع بناءً على فكرة رجلٍ بسيطٍ ليس له علاقة بهندسةِ الشوارعِ، ولا بمواصفاتها!
وبعد أن سمعتُ القصَّة، رويتُ له قصَّةً مشابهةً حكاها أحد الإيطاليين ويُدعى إرنستو سيرولي في حديثه إلى منصة "TED"، قائلًا: "قررنا نحن الإيطاليون أن نُعلّم أهل زامبيا كيفية إنتاج المحاصيل الزراعية، وصلنا هناك مُحمَّلين ببذور إيطالية إلى جنوب زامبيا، إلى ذلك الوادي الرائع المؤدي إلى نهر زامبيزي، وعلّمنا السكان المحليين كيفية زراعة الطماطم الإيطالية والكوسة وغيرها، وبالطبع لم يكن للسكان المحليين أدنى اهتمام بذلك، لذلك وجب علينا أن ندفع لهم أجورًا حتى يأتوا، ويعملوا، وفعلًا كانوا يأتون.
الشاهد من هاتين القصَّتين الآتي:
أولًا: أنَّ لأهل المكان رأي معتبرٌ لا يجب تجاهلهُ، فهم الذين عرفوا تفاصيله، وحفظوا مداخله ومخارجه، ولهذا تقول العرب في ذلك "أهُل مكَّةَ أدرى بشعابها"، وهو مثلٌ يُضربُ في هذا الشَّأنِ، إذ هُم أدرى بأرضهم، وتضاريسها، وأجوائها، وطبيعة تربتها، وتوارثوا عن آبائهم وأجدادهم كل ما يتعلَّقُ بها، فإِن عُرضَ عليهم رأيٌ أفادوا بما علموا، فكان رأيهم ذا ثقلٍ ورشد، لا تضيعُ معه الجهود، ولا تُهدرُ الأموال.
ثانيًا: ليس المختصُّ هو دائمًا على حقٍّ في رأيهِ، وتصوُّره، إذ قد يغلبُ عليه رأي من إنسانٍ بسيط غير مختصٍّ فيكون أفضل منه، لهذا قالت العرب "خذوا الحكمة من أفواهِ المجانين" ويقصدون أنه لا حدود لطلب الحكمة، فلا تقتصرُ على عاقل، ولا تحُتكر لحكيم، بل قد يلفظُ بها إنسانٌ لا هو بعاقلٍ ولا رشيد.
ثالثا: أن التحدث عاليًا عن بعض الأفكار يُسهم في مشاركة الآخرين، وسماع وجهات نظرهم، فبعضها ينفَّذُ دون جدوى، ولو أنها طُرحت على رأيٍ واسعٍ في استفتاءٍ أو استبيانٍ لسمعت آراءٌ ذات وجاهة، على سبيل المثال حين أرى بعض جسور العبور التي أُنشئت للمشاة أقول لنفسي: ما الفائدة منها في منطقة تمتدُّ لعدة كيلومترات على جانبي الشارع، ولا أكاد أرى من يمشي عليها، مثل هذه الجسور مُكلفة وغير مُجدية، ولو أنها طُرحت لرأي عامٍ لما أُقيمت، ومنها أيضًا البوابات الضخمة في مدخل بعض الولايات على رغم هيبتها وحُسنها إلا أنها لم يُستفد منها، وغير ذلك من المشاريع.
وإنني أُشيد هُنا في هذا المحور بجائزة بلعرب بن هيثم للتصميم المعماري؛ إذ إنها تُشرك الجميع في فكرة التصميم، فيقدمون لها الأفكار، ويختار المحكِّمون أفضل التصاميم لمشروعٍ من المشروعات، وهو عينُ ما ندعو إليه هُنا من اتاحةِ فرصة واسعة يشتركُ فيها أكبرُ عددٍ ممكن.
رابعًا: دلَّت القصة الأولى التي استهلَّ بها المقال على حنكة المسؤول الذي تواصل مع رجلٍ عهد فيه الرأي الحكيم رغم أنه لا يحمل شهادة علمية، ورجَّح رأيه على رأي المهندسين المختصين في الشركة لأنَّ يملكُ رأيًا سديدًا، وجيهًا، وهذا درسٌ للمسؤول بأنَّ عليه أن لا يُعلي أمرَ مختصٍّ يدَّعي الكفاءة والعلم والتخصص فيستأثرُ بالأمر، بل عليه أن يستشير من يعرف فيهم الرشد الحنكة، وأضربُ على ذلك مثالًا في أحدى الجهات التي تعاقدت مع أحد الذين يزعمون بأنهم متخصصون في إعادة الهيكلة الإدارية فوضع الهيكل الإداري بين يديه وأطال وقصَّر فيه، وقص وألصق، ولم يكن لجميع عمله الذي قام به من شأنٍ يُذكر، إذ بعد أن استلم مستحقاته وغادر أُعيد كل شيءٍ إلى مكانه، لأن ذلك القادم من الخارج لا يعرفُ طبيعة الجهة التي وضع مشرطه على جسدِ هيكلها الإداري.
الحكمة والرُّشد، عتادٌ لا يستغني عنه كلُّ قائدٍ ومسؤول قبل أن يُقدمَ على عملٍ من الأعمال أو قرار من القرارات، ولا شك بأن أحد مصادرها ما جاءَ في هذه المقالة من وجوب استشارة أهل الرأي والسداد من الناس وإن كانوا من غير أهل الاختصاص.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الرقابة المالية تحصر11 مخالفة ضد "ديجتايز" وتقر عقوبات مشددة على الشركة
أجرت الرقابة المالية فحصا شاملا لأوضاع شركة ديجتايز للاستثمار والتقنية من الناحية الميدانية والمالية والرقابية، وأسفر الفحص عن ملاحظات جوهرية تعكس نمطا من الممارسات غير المنضبطة التي تتعارض مع القواعد المنظمة لحماية المتعاملين، وكفاءة وشفافية السوق.
رصدت الملاحظات والمخالفات ووصلت إلى 11 مخالفة عدم وجود مقر فعلي مطابق للمعلن عنه، وبالتالي تعذر إجراء أي فحص للأنظمة أو المستندات المطلوبة، مع إرجاع ممثل الشركة ذلك إلى الانتقال إلى مقر جديد، بالإضافة إلى تعمد قيام الشركة نشر افصاحات لاحقة للفحص الميداني مباشرة، حيث قامت الشركة بتاريخ 24/11/2025 بإخطار البورصة بملخص محضر مجلس إدارة مؤرخ في 23/11/2025 دون بيان مكان الانعقاد، كذلك وجود تعارض جوهري بين أوجه استخدام أموال الزيادة على النحو الوارد بالإفصاح نصف السنوي، وبين ما ورد في القوائم المالية السنوية لعام2024، بالمخالفة لحكم الفقرة الأخيرة من المادة 28 من قواعد قيد وشطب الأوراق المالية بالبورصة المصرية، فيما يخص الإفصاح عن بيانات أو معلومات لا تتفق وحقيقة أوضاع الجهة فضلا عن ضرورة كفاية واكتمال الإفصاح.
كما أشار بيان الرقابة المالية إلى افتقار دراسة جدوي زيادة رأس المال المصدر المقدمة رفق الطلب للأسس المعنية والبيانات الجوهرية، إذ خلت من التحليل التاريخي الكافي لأداء الشركة، ومن الأسس المستخدمة في احتساب التدفقات المتوقعة، ومن مؤشرات واضحة لاتخاذ القرار الاستثماري، وكذلك تكرار تأخير الإفصاح عن الاحداث الجوهرية بشأن العديد من الاتفاقات والمشروعات الواجب الإفصاح عنها بتوقيتها بالمخالفة للفقرة الأخيرة من المادة34 من قواعد قيد وشطب الأوراق المالية، وأيضا قيام الشركة باجراء عملية شراء أرض لشركة تابعة خلال عام2024 بقيمة تجاوزت 10% من حقوق الملكية دون اجراء دراسة للقيمة العادلة للأرض محل الاستحواذ.
وبناء على هذه المخالفات قررت الرقابة المالية معاقبة الشركة بثلاث عقوبات تتمثل في رفض اعتماد نشر تقرير الإفصاح الخاص بزيادة رأس المال، وكذلك استبعاد الشركة من الأنشطة المتخصصة، ومدي إمكانية نقل الشركة إلى القائمة "دال".