د. حامد بن عبدالله البلوشي **

shinas2020@yahoo.com

 

 

في عالم مضطرب بالحروب، مليء بالآلام، يعج بالمشاحنات؛ يأتي اليوم العالمي للسلام كجرس إنذار لنا جميعًا، وكناقوس خطر يقرع آذان العالم كي يستفيق من غفوته، وكمنبه يوقظ به الغافلين.

لم يكن تخصيص الأمم المتحدة ليوم 21 من شهر سبتمبر مجرد يوم يتحدث فيه المتحدثون، ويتشدق خلاله المتكلمون بكلمات جوفاء عن السلام والمسالمين، تجتمع فيه الميكروفونات، ويخطب فيه السياسيون خطبًا عصماء، ثم نرى في اليوم التالي دماء تتناثر، وأشلاءً تتطاير، ومقابر جماعية، وطائرات تقذف، ودبابات تقتحم، ورصاصات تندفع، وصواريخ تنفجر، وقنابل ترعد، وبنادق تئزّ، فبئس الاحتفال إذن، وساءت الأحاديث وقتها.

إنِّه يوم، يحتاج فيه العالم أجمع إلى قرارات صارمة، وإجراءات حازمة، ومسؤولين حكماء، وسياسيين نُجباء، يُحَكِّمُون العقول لا البنادق، ويستمعون فيه إلى صوت العقل، لا صوت المتفجرات، ويغلبون فيه الإنسانية على الهمجية، وصوت الحكمة على صوت البندقية، وأن يعلم صناع القرار أنَّ الحروب ليس فيها منتصر ولا غالب، وإنما يخسر فيها الطرفان، ويستعر بلهيبها المظلومون، ويكتوي بنيرانها الأطفال والنساء والشيوخ، إنها دمار شامل، وخراب مستعجل، ومدن تزول، ومبانٍ تُدَكّ، وأشجار تحترق، وحياة تتوقف، ونكات سوداء في قلوب المقهورين، وثارات لا تنتهي، إنه فن القتل والقتل المقابل، لا ترتاح فيه النفوس إلا بالتخلص من تلك الحياة، والافتكاك من تلك المظالم، والاختفاء من قائمة الأحياء، إنه مليارات تحرق ليفسد الإنسان في الأرض ويهلك الحرث والنسل، بدلاً من أن تكون هكتارات تزرع لتطعم ملايين الجائعين، وتؤوي ملايين المشردين، وتمسح على رؤوس المكلومين، وتطمئن ملايين الخائفين، وتنفق على تعليم الأطفال قيمة التسامح والمحبة، بدلا من أن يروا الكراهية والمظالم عيانًا بيانًا.

إنه يوم يجب أن نسعى فيه جميعًا بكل ما أوتينا من قوة، وبكل ما أتيح لنا من إمكانيات؛ لوقف العنف والنزاعات، والانتهاء من الظلم والخصومات، والتوقف فيه عن أحاديث الكراهية، وخطابات العداوة، وأن نفسح فيه المجال للحوار البنَّاء، والتَّعاون المُثمر، وننشر فيه المحبة والعدالة، وأن نعلم أنَّ الطرف الثالث دائمًا هو المستفيد وحده، إنِّه الطرف الذي يُريد هلاك الجميع، ويحلم بالقضاء على الآخر، ويرى في الحروب مصلحته، وفي الدمار سعادته.

ولنتذكر معًا أن السلام هو الرسالة الخالدة لجميع الأديان، وأن الإسلام إنما اشتق من السلام، فقد بزغ فجر الإسلام في قلب الصحراء، حيث البقاء للأقوى، والحروب تثور لأتفه الأسباب، والأخبار تتطاير عن حرب الروم والفرس، وانتصار الأوس على الخزرج، وانتقام عمرو بن كلثوم من عمرو بن هند، واشتعال حرب البسوس بسبب مقتل ناقة، وحرب بعاث، وحرب الفجار، وحرب داحس والغبراء، وغيرها الكثير. حتى جاء رسولنا صلى الله عليه وسلم فأصبحت الحروب عند الضرورة فحسب.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين على مر العصور بالمسارعة إلى السلام، وعدم الاعتداء على الآخر، فقال سبحانه وتعالى: "وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا" (الأنفال: 61)؛ بل إن أحد أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى هو السلام، وبين سبحانه وتعالى أنَّ رسالة الإسلام هي رسالة محبة وتعاون مع الآخرين، فلا يعادي المسلم إلا من يعاديه، أما الأصل فهو التعاون والتعارف والمودة: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8"، فمهمة الإنسان في هذه الأرض هي إعمارها، وملؤها بالخير، ونشر السعادة، ومن العجيب أن لفظة سلام قد ذكرت في القرآن اسما أو فعلا 140 مرة، في حين أن كلمة الحرب بكل مشتقاتها لم تذكر إلّا 10 مرات، فهل الإسلام هو دين حرب أم دين سلام؟!!

إنَّ السلام لا يعني الضعف والخمول، ولا يفهم منه الإخلاد إلى الأرض والاستكانة، ولا يقصد من ورائه أن نجعل خدودنا مرتعًا للأعداء. إن أول خطوات السلام الحقيقية جيش قوي مُجهز بأقوى أنواع الأسلحة، وعيون ساهرة لحماية الحدود، وشرطة تحمي المواطن، وقيادات تواصل الليل بالنهار لصيانة ميراث الأجداد، وتلاحم بين القيادة وصفوف المواطنين، وتطوير للقدرات القتالية، ومواكبة لأحدث نظم الدفاع عن البلاد، فإن الله -تبارك وتعالى- الذي يدعونا للسلام والمسالمة؛ هو سبحانه وتعالى الذي يدعونا للإعداد والتجهز الدائم بكل ما نملك من قدرات: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60).

السلام هو تلك القوة الناعمة، التي تدفع الأمم والمجتمعات نحو الازدهار والتقدم، وترتفع بها نحو السمو والتطور، وتفتح أزهار السعادة والسرور، ويرفل في ظلها المواطنون في أمن وأمان، ويخططون خلاله لمستقبل مزهر، وأحلام وردية، وحياة مضيئة، وأمل متجدد، فالسلام ليس فقط غياب للحرب، بل هو صفحة منيرة للعدالة والمحبة بين الجميع، ومفتاح للاستقرار والرفاهية.

إنَّنا بحاجة جميعًا للراحة من عناء الحروب التي تأكل الأخضر واليابس، وتسفك الدماء، وتمزق الأسر والعائلات، وتدمر الحضارات، وتوقف قطار التقدم، وتطمس جمال الحياة، وتقتل أحلام الصغار، فنحن في أمس الاحتياج أكثر من أي وقت مضى إلى مداواة جراح الحروب التي تشتعل في العالم شرقه وغربه، وأن نعيد للأرض بهاءها وجمالها، وأن نغرس شجرة بدلا من أن نجتث جذورها، وأن نزرع أرضًا بدلا من أن نجرف تربتها، وأن نبني مدنًا بدلًا من أن نشرد أهلها، وأن نطعم جائعًا بدلا من أن نسلط عليه سلاح الجوع.

السلام هو الركيزة التي ترتكز عليها كل الحضارات، وهو الرسالة السامية التي نحملها للعالم وللأجيال القادمة، وهو القيمة التي تجعل منا خلفاء لله في الأرض بحق، وهو الراية التي يتوارثها جيل بعد جيل، وهو المفخرة التي يتباهى بها الخلف بأسلافهم.

وقد فهمت سلطنة عُمان دورها في العالم فهما صحيحًا، فحملت مشعل النور والسلام لجميع الشعوب، فأرض عُمان الطيبة هي جسر سلام بين أمم العالم، ومهد للتسامح والمحبة، وموطن للتعايش والتعاون، فقد عُرِفَت السلطنة بحيادها الإيجابي، وبسياستها المتوازنة في التعامل مع دول الجوار، ومع محيطها الإقليمي والعالمي، بفضل حكمة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- والذي اختار الحوار والتفاهم طريقًا لحل النزاعات، وسبيلًا للقضاء على الخصومات،لذلك حظي جلالته رحمه الله تعالى بتقدير وإشادة العالم لدوره في تحقيق السلام، ونشره بين شعوب المنطقة خاصة، والعالم عامة؛ حيث منحته الكثير من الجمعيات والمؤسسات الدولية جوائز السلام، ومن أهمها "جائزة السلام" الدولية في 16 من أكتوبر سنة 1998، بإجماع 33 جامعة، ومركز أبحاث، ومنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية. كما حاز على جائزة السلام من الجمعية الدولية الروسية في عام 2007، وجائزة «جواهر لال نهرو للتفاهم الدولي» في عام 2007، وها هو حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- يكمل مسيرة عُمان المظفرة بحصافته وحنكته، مؤكدًا أن عُمان ستظل دائمًا وأبدًا صوت الحكمة الرصين، ويد السلام الممدودة للجميع، ورمز السلام والاستقرار، فتعلو من سواحل عُمان الهادئة نداءات السلام العالية؛ لتسمع أرجاء العالم صوتها القوي الهادر، كنموذج يحتذى، ووسيط نزيه، وصديق للجميع، لا يميل عن الحق قيد أنملة، ولا يحيد عن الإنصاف مقدار ذرة، يخبر العالم أجمع أن السلام هو تراث عُماني خالد، وميراث تتوارثه الأجيال، ولا يمكن التفريط فيه أبدًا، وعلينا جميعًا أن نتحمل مسؤولياتنا نحو وطننا الغالي، وأن نجعل السلام رائدنا، وأن تبقى عُمان للأبد رمز السلام الذي نتوق له جميعًا.

حفظ الله عُمان آمنة مطمئنة، عزيزة شامخة، تنعم بالأمن والأمان، والاستقرار والرخاء، وأسبغ عليها نعمه ظاهرة وباطنة، وأدام لها حكمتها، وبارك قيادتها، وأسعد شعبها، وحفظها من كل سوء ومكروه.

** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية الاجتماعية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ذمار..فعالية لمكتبي هيئة الأوقاف والتربية والتعليم لإحياء ذكرى الولاية

رشاد الجمالي – ذمار
نظمت مكتبي الهيئة العامة للأوقاف والارشاد
والتربية والتعليم بمحافظة ذمار اليوم فعالية خطابية لإحياء ذكرى ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) للعام 1446ه‍ تحت شعار”انما وليكم الله ورسوله والذين آمنو الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون “.

وفي الفعالية أكد مدير الهيئة العامة للاوقاف بالمحافظة فيصل الهطفي إلى أهمية إحياء هذه الذكرى لاستلهام الدروس والعبر في نصرة الحق ومناهضة الظلم والنهوض بواقع الأمة.
ولفت إلى أهمية التحلي بأخلاق وشجاعة الإمام علي كرم الله وجهه وغرسها في نفوس الأجيال وتجسيد معاني الولاية.. مبيناً أن الاحتفاء بهذه الذكرى دليل على ارتباط اليمنيين بالإمام علي رضي الله عنه.
واعتبر إحياء ذكرى يوم الولاية امتدادا لليوم الذي وقف فيه النبي في غدير خم بقوله من كنت مولاه فهذا علي مولاه .
وأشاد بمستوى الحضور المشرف لإحياء هذه الذكرى وتضحياتهم ودعمهم المستمر للجبهات لمواجهة قوى العدوان . مشدداً على ضرورة توحيد الصفوف والتخلص من الوصاية والتصدي لأعداء الوطن.
بدوره أشار مدير الارشاد عبدالله مشرح إلى أهمية إحياء ذكرى ولاية الإمام علي عليه السلام لكونها امتداداً لولاية الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
منوها أهمية إحياء هذه الذكرى لاستلهام الدروس والعبر من شخصية ومكانة وشجاعة الإمام علي كرم الله وجهه.
واستعرض مناقب الإمام علي عليه السلام وزهده وشجاعته وتضحياته وتقواه ومواقفه في نصرة الرسول الكريم والدين الإسلامي وعلاقته باليمنيين الذين دخلوا الإسلام على يديه.
وتطرق إلى ثمار تولي الله عز وجل والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام التولي الصادق في تحقيق النصر والفوز والفلاح والنجاة والعزة في زمن الذل ورقم صعب بفضل الله سبحانه وتعالى.
فيما اشار عضو رابطة علماء اليمن العلامة اسماعيل الوشلي أن يوم الولاية مناسبة يجب أن يقف الجميع عند هذه المحطة المفصلية المهمة التي أسست لمرحلة ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله كونها مرحلة حددت مصير الأمة الإسلامية وارتباطها الديني الصحيح.
موضحا سيرة وحياة الإمام علي عليه السلام ومكانته عند الرسول صلوات الله عليه وعلى آله.
وأشار إلى أن الأمة الإسلامية اليوم بحاجة ماسة للعودة إلى نهج الإمام علي والتمسك بولايته.. لافتا إلى أن الأمة إذا أرادت أن تغير واقعها نحو الأفضل عليها أن ترفع اليد التي رفعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وأكد أن الولاية التي أمر الله بها هي منهج وحصن للأمة بدلا من تولي أعداء الأمة من اليهود والنصارى .

مقالات مشابهة

  • مخاطر إهمال القضايا الكبرى في عالم غارق بالصراعات
  • رسالة محبة من الجنوب: لقاء روحي يوحّد الأديان على أرض السلام
  • قائد الثورة : الله سبحانه وتعالى اختار لنبيه إبراهيم أن تكون هجرته إلى الأرض المباركة
  • أفضل الأذكار التي أوصانا بها النبي في العشر الأوائل من ذي الحجة.. رددها الآن
  • رؤية الحج الإنسانية التي تتسع للعالم أجمع
  • عبد الله السعيد يوجه رسالة لبيراميدز بعد التتويج بدوري أبطال افريقيا
  • الجماز: الهلال أكثر نادٍ وقع صفقات خرافية في عالم الفوتوشوب!
  • ما حقيقة وجود فيروسات تحول الإنسان إلى زومبي؟.. عالم روسي يجيب
  • من مكة إلى الكرامة… الرصاصة التي أصبحت جيشًا
  • ذمار..فعالية لمكتبي هيئة الأوقاف والتربية والتعليم لإحياء ذكرى الولاية