الإحباط وصراعات الحياة
تاريخ النشر: 1st, October 2024 GMT
مدرين المكتومية
تستيقظ كل يوم وأنت تصارع الحياة لكي تكون على ما يرام، وأن تكون مُقبلًا على كل ما يُحيط بك من وجع وأنك تبحث عن السعادة، وذلك لمعرفتك الصادقة بأن الآخر لا دخل له فيما تمر به أو ما تعيشه وتقاسيه من آلام، ومن هُنا تُدرك لاحقًا أن العطاء الزائد مع الآخر ربما يدفعه لاعتياد هذا العطاء دون الاعتراف بالعرفان والفضل! بل في المقابل يشعر الآخر أنه قادر على محاسبتك عن كل أفعالك، ويُعطي لنفسه الحق- كما يظن- في تحديد مسارات حياتك، وربما يدفعك هذا إلى مزيد من الإحباط.
هناك أناس في محيطنا لا يدركون أننا نبذل كل ما في وسعنا لنكون "أبطالًا"، وأننا نسعى بكل ما نملك لأن نُقدِّم كل ما لدينا من طاقة تجاههم، وتجاه كل ما يخصهم، فتمر علينا أيام ونحن نقاوم التعب والمرض والوجع والإرهاق لأجل أن نحقق لهم طلباتهم وربما أحلامهم! هم يحلمون ونحن بمثابة العصا السحرية القادرة على تنفيذ "كل شيء".
عندما أتحدث عن كل هذا فإنني أود أن أجيب على مفهوم "الإحباط"، وهو الشعور المزعج الذي قد يؤرق حياتك، وقد يدمر نفسيتك ويصنع منك شخصًا غير متفائل ومتذمرا تجاه كل ما حولك.
وهناك أشخاص لا يدركون أن تصرفات قد يرونها بسيطة قد تتسبب في دمار داخلي وكلي لشخص طوال حياته يحاول أن يكابر على ألمه وحزنه، وتعبه من أجلهم وأجل من حوله، فعندما تتعامل الأسرة مع شخص على أنه يتقبل ويتحمل فيجدون أن كل ما يقدمه ويجب أن يقدمه هو بالأساس مسؤول عنه وهو بالفعل ليس كذلك، لأنه قدم كل ذلك بدافع الحب والاحترام والتقدير، بدافع أنه شخص رائع.
كذلك الحال في محيط العمل، ثمة شخص يجتهد دون تذمُّر ويقدم كل ما في وسعه ليتأكد من سير كل شيء على نحو رائع، وفي المقابل في لحظة ما يشعر أنَّ كل ما قدمه قد يذهب هباءً نتيجة لعدم التقدير.
ولذلك وضع الخبراء تعريفًا للإحباط في بيئة العمل، والذي يحدث نتيجة لمؤثرات عدة، وعادة ما تظهر ردات فعل على الموظفين المُحبطين، مثل انخفاض الإنتاجية، حيث يبدأ الموظف في تقديم أداء أقل من المعتاد أو يتراجع إنتاجه بشكل ملحوظ. كما يمكن أن يكون الغياب المتكرر أو التأخر عن موعد الدوام، دليلًا آخر على الإحباط في بيئة العمل وحالة عدم الرضا التي تنتاب الموظف، فضلًا عن فقدان الحافز والدافع في بيئة العمل، وكذلك الشكوى المستمرة؛ سواء من ظروف العمل أو الزملاء أو المهام المكلف بها الموظف.
إنَّنا في هذه الحياة نعيش في دوامة من الصراعات الداخلية التي تحتاج دائمًا لدعم من المحيطين بنا، صحيح أن الصراعات الداخلية لا دخل للآخر فيها، لكنه جزء لا يتجزأ منها، وبالتالي علينا أن نتحلى بالعطف والحنان مع بعضنا البعض.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بالملعقة لا باليد
طالت المرشح الديمقراطي لنيويورك انتقادات قُبيل الانتخابات على مقطع مصوّر يأكل فيه بيده، وانطلقت الانتقادات من مبدأ أن الأكل باليد عبارة عن همجية ومضادة للتحضر؛ وبهذا يعتبر بعض الجمهور الأمريكي أن التحضر والمدنية هما فعلٌ خارجي يتعلق بالجسد والسلوكيات لا بالجوهر الذي ينطلق منه الفرد. ويُمكن طرح سؤال جوهري في هذه الحالة، وهو كيف تحوّل الجسد إلى أداة لتعريف الآخر؟
إن مفهوم «التحضر» ليس في الحقيقة محايدًا، ولا ينطلق من منطلقات معرفية وفلسفية واضحة، وإنما هو مفهوم سياسي كولونيالي، للتفريق بين الغربي وكل شخص آخر، فيجعل الغربي الأبيض غالبًا هو الأنموذج المثالي الذي ينبغي على كل ثقافة أخرى أن تتبعه، فإن تحققت هذه التبعية أصبح «متحضّرًا» وإلا فهو خارج هذه المعادلة أساسًا.
انطلقت هذه المسألة منذ العصور الإمبريالية المتعلقة بـ«عبء الرجل الأبيض» ومهمته التي ألزم بها نفسه، أن ينقل الحضارة للشعوب الأخرى، فيما يسمى بـ«تمدين الشعوب المتخلفة»، حيث إنه -أي الرجل الأبيض- «متمدن ومتحضر» وعليه أن ينقل هذه الثقافة للشعوب الأخرى، وغالبًا ما يكون العنف هو وسيلة النقل هذه، بشكليه الفعلي واللفظي بل والفكري، ولذلك تجد أن كثيرًا من النتاجات الفكرية والفلسفية انطلقت من هذه الزاوية، مثل نهاية التاريخ عند فوكوياما، وانتصار الحضارة الغربية عند هتنغتون، وموقف هابرماس الأخير من قضية غزة، وعلى الرغم من أن هناك مواقف أخرى أفضل من هذه، إلا أنه يُمكن أخذ هذه باعتبارها عيّنات على المنتجات الفكرية الغربية التي تنطلق من ذات المفهوم الاستعلائي.
وعلى هذا، يُمكن القول إن المسألة المتعلقة بإجبار الآخر لم يكن سلاحًا ناريًّا وعسكريًّا فقط، بل ملعقة أيضًا، والملعقة هنا تشير إلى الإجبار الناعم على التفريق بين الحضارة والغوغائية، والتهذيب وسوء السلوك الأخلاقي.
أصبح الجسد ميدانًا للحكم على الآخر، من خلال النظر في لون بشرته أولا، ثم في سلوكياته، في اللبس، وطريقة الأكل، والمشي، والتفريق بين ما هو نظيف وما هو غير ذلك.
وبهذا انتقلت طريقة الأكل باليد من ممارسة ثقافية مرتبطة ببعد اجتماعي وتاريخي، إلى تفسير مخالف في السياق الأمريكي والغربي، على أنها تصنيف للآخر وتعريفه، فإما أن يكون «مهذّبًا» و«متحضرًا» فيأكل بالملعقة والشوكة، أو عكس ذلك فيأكل بيده، دون محاولة فهم التعددية التي تنطلق منها هذه الممارسات الثقافية، وفهم العالم الذي تعيش فيه خلفيات مجتمعية مختلفة. ولذلك فإن تعريف التهذيب والحضارة عند الغربي مختلفة ولا تنطلق من منطلقات معرفية أو فلسفية أخلاقية، بل من منطلقات سياسية كولونيالية، تفترض أنها الوحيدة التي لديها الحق في تعريف الثقافة على ما ترتئيه فقط.
ومن هنا يُمكن النظر إلى تولّد مفهوم خيالي أو وهمي، هو صورة الأمريكي المثالي، الذي غالبًا ما يكون أبيض يرتدي أزياءً معينة ويأكل ويمشي بطريقة معينة، أو نوع آخر يحاول أن يكون أبيض، أو بتعبير فانون «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، أما النوع الذي يستحق التعنصر ضده في هذا السياق، هو النوع الذي ليس أبيض ولا يحاول أن يتحول إلى هذه الهوية أو على الأقل يقلدها، فلا يرتدي ولا يأكل ولا يتصرف بالطريقة المثالية، إذ يصبح الأمر بهذه الطريقة، قابلاً للتأويل على طريقة بوش في الحرب على العراق، إما معنا وداخل دائرة الحضارة والتاريخ، أو ضدنا وينطبق عليه ما ينطبق على الحيوانات، التي يُمكن أن تتلقى معاملة أفضل من هؤلاء البشر الذين لا ينتمون لهذه الدائرة. يُستخدم هذا الخطاب عادة في تبرير التمييز العنصري ضد المهاجرين واللاجئين والمختلفين، بل وينتقل ليكون حتى في بلاد هذا الآخر، مثلما شوهد في تصرفات المنتخب الألماني في كأس العالم في قطر، إذ يفترض الفريق أو الثقافة التي أتى منها أنه صاحب الأحقية في أن يكون المعرّف الوحيد لما هو أخلاقي وما هو غير ذلك. وفي هذه الحالة، تصل إلى نتيجة أن هذه «التعددية» التي يتغنى بها الغربي العنصري ـ ويجب الانتباه أن الغرب ليسوا كلهم كذلك، لكن التحليل هنا ينطبق على هذا السياق ـ هي تعددية مشروطة بالتبعية للثقافة الغربية فقط، وعدا ذلك فلا حق لهذا الآخر في الوجود أو ممارسة واجباته والمطالبة بحقوقه المدنية.
إن النقد الموجه لزهران ممداني والموجة ضده لا تتعلق بالطعام أو طريقة الأكل في المقام الأول، بل تتعلق بمنظور استعلائي يمارسه الغربي العنصري تجاه كل ما لا يوافق ثقافته وطريقة الحياة التي يعيشها، وتعود في أصلها إلى التصور الكولونيالي لما هو متحضر ومهذب وما هو عكس ذلك، فينتقل ما يبدو تفصيلاً ثقافيًا إلى أداة للتقييم، ويخفي خلفه هرمًا من السلطة الرمزية للحكم على الآخر وما ينبغي أن يكون عليه، فالأكل بالملعقة يشير إلى معنى حضاري، والأكل باليد يشير إلى معنى غوغائي غير مهذّب.
حتى يصبح التحرر من الملعقة في الثقافات التي تعتمد على الأكل باليد، تحرّرًا من الخيال الكولونيالي والتبعية المحكومة بالتقليد في كل تفصيل ثقافي وسلوكي خارجي.