في الأول من أكتوبر، خرجت الاحتفالات في أنحاء الصين بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيس الصين الشيوعية، لكن هذه الاحتفالات تحمل في طياتها مشاعر مكنونة بالخوف.

حكم الحزب الشيوعي الصينيين، الذين يمثلون حوالي خمس سكان العالم، لمدة 75 عاما، وما يميز هذا العام أنه تجاوز للمرة الأولى مدة حكم السوفييت الذين بقوا في السلطة لمدة 74 عاما.

لا يزال الحزب الأوحد في الصين ممسكا بالسلطة بعد نحو ثمانية عقود على تأسيس الزعيم الصيني آنذاك، ماو تسي تونغ، جمهورية الصين الشعبية، ويأمل الحزب بعد 25 عاما أن يحتفل بما يطلق عليه "تجديد شباب الأمة"، بحلول عام 2049، وهو العام الذي يفترض أن يمثل الذكرى المئوية للحكم الشيوعي.

لكن أسئلة عدة تتبادر إلى ذهن الصينيين والحزب الشيوعي نفسه وهي: هل يستطيع الحزب البقاء على قيد الحياة لمدة أطول؟ أم قد يكرر التاريخ نفسه؟و إلى متى سيظل ممسكا بزمام السلطة؟ وما عوامل الخطر؟

ترى مجلة "إيكونوميست" أن الرئيس الصيني شي جينبينغ "يشعر بالقلق"، وتقول إن "الخوف من حدوث انهيار على طريقة  الاتحاد السوفييتي يحرم الرئيس شي جينبينغ من النوم في الليل".

في الأول من أكتوبر 1949، أسس ماو جمهورية الصين الشعبية، بعد انتصار الجيش الشيوعي على القوميين، بعد حرب أهلية استمرت عقدين.

وفي ذلك الوقت، هرب القوميون إلى جزيرة تايوان، حيث شكّل شيانغ كاي شيك، حكومة في تايبيه، عاصمة تايوان، الجزء الوحيد من الأراضي الوطنية التي لم يسيطر عليها الشيوعيون.

ظل الشيوعيون في السلطة، وعاشوا أحداث انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، والآن تجاوز الحزب الشيوعي الصيني "الأخ الأكبر"، كما كان يطلق على الاتحاد السوفييتي ذات يوم.

خبير التحليل السياسي العسكري في معهد هدسون، ريتشارد وايتز، قال لموقع الحرة إن القيادة الصينية "فوجئت بانهيار الكتلة السوفييتية، وفوجئت كذلك باحتجاجات ميدان تيانمين، عام 1989، التي وقعت في نفس الوقت تقريبا".

حاول الحزب الشيوعي في البداية استقطاب المحتجين، ولكن في النهاية اضطر للضغط عليهم لتقع النهاية المأساوية المعروفة للتظاهرات المطالبة بالديمقراطية، وفق وايتز.

أطلق ماو عام 1958 ما وصفها بـ"القفزة العظيمة للأمام"، وهي سياسة تصنيع قسرية، وفرض أيضا تنظيما جماعيا للأراضي الزراعية أغرقت البلاد في مجاعة تسببت في وفاة ما بين 30 و70 مليون شخص.

بين 1956-1957، أطلق حملة المئة زهرة، التي سمحت بالتحدث بحرية وانتقاد الحزب الحاكم، لكن ماو خدع الجميع، و أرسل مئات الآلاف إلى المعسكرات.

وفي عام 1966، أطلق ماو "ثورة ثقافية" طالب من خلالها الشباب بإحياء الأهداف الشيوعية وطرد العناصر الرأسمالية التي تسللت إلى الحزب.

لكن الثورة تحولت إلى سنوات من العنف والقتل بحق الصحفيين والمثقفين، ووصفت الصحفية جاو يو، التي كانت طالبة جامعية عام 1966، الأمر بأنه " كان أشبه بحرب أهلية"، وفق تصريحاتها لوكالة أسوشيتد برس.

قالت جاو إن حماسها الأولي للثورة الثقافية خف بعد أن داهمت مجموعة من الحرس الأحمر المتعصبين منزلها واتهموا والدها، وهو من كوادر الحزب السابقين، بعدم الولاء لماو.

وبعد مرور عقود على "الثورة"، بقيت آثارها واضحة على جميع مفاصل النظام السياسي الاستبدادي، حتى مع محاولات التغيير، عندما وصل دينغ شياو بينغ إلى السلطة في عام 1978 إبان فترة الحرب الباردة.

حاول دينغ اتباع سياسية إصلاحية تسمح ببعض التحرير في السياسية والاقتصاد، لكن لم يسمح بأي حركة ديمقراطية حقيقية.

ثم جاءت مجزرة تيانمين في يونيو 1989، حين فتح عناصر الجيش النار على المحتجين، مما أدى إلى مقتل المئات، وهنا كانت الرسالة واضحة.

يقول وايتز إنه خلال التسعينيات والألفية الجديدة، "كان هناك تركيز على النمو الاقتصادي، وإثراء الناس، وتم تخفيف القمع إلى حد ما، وكان بالإمكان توجيه الانتقاد في الأحاديث الخاصة أو على الإنترنت، ولكن ليس في الاحتجاجات العامة".

ثم جاء عهد شي، لتدخل البلاد في مرحلة جديدة من القمع.

في عام 2012، بات شي على رأس الحزب الشيوعي الصيني، وأطلق حملة لمكافحة الفساد، وقمع المعارضة، وفي عام 2018، أزال القيود على الفترات الرئاسية، وخنق أي أمل في إصلاح سياسي.

يقول وايتز إنه خلال عهد شي "زاد القمع كثيرا. باتت هناك مساحة ضئيلة للغاية لأي تعليقات سلبية عن سياسة الحكومة حتى في الاحتجاجات الخاصة، وقمع شي أقليات عرقية ودينية، مثل سكات التبت والمسلمين وغيرهم".

في أغسطس الماضي، تحدث شي عن التاريخ السوفييتي، وكانت المناسبة هي الذكرى السنوية الـ120 لميلاد دينغ شياو بينغ، صاحب سياسة "الإصلاح والانفتاح". 

أشاد شيء به "لمعارضته الحازمة للاضطرابات" في 1989 "على خلفية تفكك الاتحاد السوفييتي والتغيرات الدرامية في أوروبا الشرقية". ونقل مقولة دينغ: "لا أحد يستطيع سحقنا".

تقول إيكونوميست إن الحزب الشيوعي الصيني واجه هذه الاحتجاجات "بعزيمة لا تعرف الرحمة وحافظ على نفسه" من موجات الصدمة القادمة من موسكو.

وفي الأول من أكتوبر الجاري، دعا شي أمام الآلاف المتجمعين في بكين لحضور مأدبة بمناسبة العيد الوطني، إلى معارضة "الأنشطة الانفصالية" المؤيدة لاستقلال تايوان.

في عهد شي، شهدت البلاد نموا اقتصاديا من خلال سيطرة الدولة على المعارضة وكبح جماح الشركات العملاقة.

لكن جاء تباطؤ الاقتصاد لاحقا "ليزيد من استياء الناس"، وفق وايتز.

ويعاني الاقتصاد الصيني أزمة حادة منذ عام 2020 بعد انهيار بعض شركات البناء الكبرى. ويواجه أزمة ديون عقارية وضعفا في الاستهلاك، مع تسجيل النشاط الصناعي انكماشا في سبتمبر للشهر الخامس على التوالي.

ومثل قطاع البناء والإسكان لفترة طويلة أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

غير أنه يتكبد منذ 2020 تبعات سياسة بكين التي شددت شروط الحصول على القروض لشركات التطوير العقاري، مما دفع بعض الشركات العقارية الكبرى إلى شفير الإفلاس.

وبعد التخلي عن سياسة "صفر كوفيد" التي تبناها شي، واجهت البلاد انتعاشا اقتصاديا باهتا، دفع السلطات الأسبوع الماضي، إلى طرح خطة تحفيز.

وسجلت الصين واحدة من أقل نسب النمو خلال ثلاثة عقود بلغت 5.2 في المئة، وهي نسبة ضئيلة بالنسبة للنمو الذي سجلته الصين سابقا، وجعل منها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

ولا تزال السلطات تتوقع نموا بحوالي 5 في المئة هذه السنة، لكن الهدف يبدو بعيد المنال بسب مشكلات الاقتصاد.

كما تواجه بكين مشكلة اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. 

تعثر الاقتصاد فزاد الاستياء.. "صراع طبقي" يلوح في الصين تواجه الصين مشكلة اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وهي مشكلة عملت الحكومات الصينية المتعاقبة على حلها خلال العقود الماضية، لكن التعليقات الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى "صراع طبقي جديد يلوح في الأفق" في ظل تصاعد الغضب الشعبي بسبب الفجوة في توزيع الثروات.

ووفقا للمكتب الوطني للإحصاء، فإن 20 في المئة من الصينيين الأعلى دخلا كسبوا 5.3 ضعف ما كسبه أدنى 20 في المئة في عام 2015. وهذا المعدل كان قريبا من المتوسط في البلدان المتقدمة الرأسمالية.

وفي عام 2022، وفقا لتقرير المكتب الوطني للإحصاء، ارتفع متوسط دخل أغنى 20 في المئة من الأسر الحضرية إلى 6.3 ضعف دخل أفقر 20 في المئة من الأسر.

وأفاد تقرير لمجموعة إدارة الثروات "يو بي أس" بأن أغنى 1في المئة من سكان الصين يسيطرون حاليا على أكثر من 31 في المئة من ثروة الأسر في البلاد.

ويشعر مسؤولو الحزب وعلى رأسهم شي بالخوف من انهيار مماثل للاتحاد السوفييتي، والدليل على ذلك تذكيرهم المستمر بأزمة السوفيين في الخطب ووسائل الإعلام واجتماعات الحزب.

وفي أكتوبر 2022، خلال مؤتمر الحزب الذي يعقد كل 5 سنوات، قال شي: "يجب أن نبقى دائمًا متيقظين".

وأصبحت عبارة "التحديات الخاصة التي يواجهها حزب كبير" منذ ذلك الحين شعارا رئيسيًا للدعاية الحزبية، وإشارة إلى تجربة الحزب السوفييتي.

ويتفق معظم المحللين على أنه لا توجد انقسامات واضحة في الحزب الشيوعي الحاكم، حاليا، لكن ظهورها المحتمل يقلق شي بوضوح.

مايكل كانينغهام، الباحث المتخصص في السياسة الداخلية للصين في مؤسسة هيريتيج الأميركية، قال لموقع الحرة: "لا يزال الحزب الشيوعي الصيني يسيطر بقوة على الصين، ولا يوجد حاليا أي تهديد موثوق به لسلطته".

لكن الحزب يخشى دائمًا الانهيار، وهذا أحد أكبر العوامل المحفزة له، والدليل على ذلك إنفاق الكثير على الأمن الداخلي، وانتشار تكنولوجيا المراقبة بكل مكان في البلاد، وجعل جيش التحرير الشعبي فرعا رسميا للحزب، وليس الدولة، وجعل "أمن النظام" أولوية الأمن الوطني الأولى في الصين، وفق كانينغهام.

ويقول إنه عندما تولى شي السلطة  عام 2012، أصبح الحزب "فاسدا للغاية وفقد قلوب وعقول الناس لدرجة أن الكثيرين اعتقدوا أن أيامه أصبحت معدودة"، لكنه قضى على ذلك من خلال "القضاء على الفساد، وبناء عبادة الشخصية، والتضييق على وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، وقمع المجتمع المدني في الصين، وفرض المراقبة لضمان تحديد التهديدات المتصورة وتحييدها في وقت مبكر".

في خطاب ألقاه في يناير 2023 أمام اللجنة المركزية للحزب، قال شي: "مع نمو الحزب، قد يشكل البعض زمرا صغيرة أو فصائل أو ينخرطون في سلوك يقوض وحدة الحزب وقوته القتالية...  الحصن يمكن اختراقه بسهولة من الداخل. الوحيدون الذين يمكنهم هزيمتنا.. أنفسنا".

ويقول كانينغهام إن الحزب الشيوعي الصيني يقبض بقوة على المجتمع لدرجة أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يفقد بها السلطة هي الانقسام داخل الحزب.

لكن لا توجد مؤشرات على ذلك تلوح في الأفق.

ومن المؤكد أن هناك انقسامات وتنافسات ضخمة خلف الكواليس، لكن شي قضى على الكثير من الصراع الفصائلي الذي كان موجودا عندما تولى السلطة من خلال وضع حلفائه في معظم المناصب الرئيسية، ولكن يبدو الآن أن هناك تنافسات تتشكل بين مجموعات مختلفة من حلفاء شي.

وهناك أيضا مؤشرات على أن شي يواجه انتقادات من كبار القادة فيما يتعلق ببعض سياساته، خاصة ما يتعلق بتعامله مع الاقتصاد.

لكن "الدراما الحزبية، تبقى في الغالب، وراء الكواليس". 

وعلاوة على ذلك، بات الانضباط الحزبي أقوى من أي وقت مضى في عهد شي، لذا فمن الصعب على كبار المسؤولين تنظيم معارضة فعالة للرئيس.

حاول البعض ذلك على مر السنين ذلك، لكن "العديد منهم الآن في السجن".

ومعظم أولئك الذين بقوا في الهيئات القيادية العليا للحزب إما يوافقون على سياسته أو أن غريزة الحفاظ على أنفسهم تدفعهم إلى الصمت والانصياع.

وفي نهاية المطاف، فإن قيادات الحزب كلها في نفس القارب.

ويقول كانينغهام: "لا يستطيع أي منهم أن يتحمل انفصال الحزب الشيوعي الصيني من الداخل، والطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها الترقي إلى مناصب أعلى هي تنفيذ سياسات شي بحماس".

ولا يهتم الحزب الشيوعي الحاكم بمسألة الخلافة في الوقت الحالي، ولا يبدو أن شى لا يكترث لذلك بعد أن ألغى الحد الأقصى لفترات الرئاسة.

ويرى كانينغام أنه لم يكن بالإمكان ظهور مراكز قوة بديلة، لذلك فإنه حتى مع حدوث انقسام داخلي، فإن الحزب "متحد في ضمان عدم حدوث أي شيء داخليا أو خارجيا من شأنه أن يهدد قبضته على السلطة".

بينما يرى وايتز مؤشرات على ثورة شعبية مثلما حدث في الماضي في الصين، والأمر أشبه بما يحدث في حالة إيران ودول أخرى: احتجاجات تحدث من حين لآخر، لكنه من الصعب إحداث التغيير.

الحزب الشيوعي سيبقى في السنوات القليلة المقبلة، وفق وايتز، لكن من غير المؤكد أن يحتفل بالمئوية بعد 25 عاما.

يقول وايتز: "لم يتوقع معظم الناس من قبل انهيار الاتحاد السوفييتي".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی الصینی الاتحاد السوفییتی فی المئة من فی الصین على ذلک من خلال عهد شی فی عام

إقرأ أيضاً:

أزمة الصناعة الدفاعية الأمريكية: انهيار القدرة الإنتاجية في مواجهة التوسع الصيني السريع

رغم التشاؤم، ترصد نيويورك تايمز بوادر أمل. فقد بدأت الحكومة بإعادة بعض الإعانات لصناعة السفن، واستثمر البنتاغون نحو 6 مليارات دولار خلال العقد الماضي لدعم القوى العاملة وتعزيز البنية التحتية للصناعة

حذّرت صحيفة نيويورك تايمز من أن الصناعة الدفاعية الأمريكية تواجه أخطر أزمة في تاريخها الحديث، لا بسبب نقص التمويل، بل بسبب انهيار القدرة على الإنتاج السريع والفعال — في وقت يتسارع فيه المنافسون، وعلى رأسهم الصين، بخطى غير مسبوقة.

فبعد عقود من الاعتماد على مشاريع مكلفة ومعقدة، باتت الولايات المتحدة عاجزة عن بناء سفنها، طائراتها، أو حتى ذخيرتها، بالوتيرة والكفاءة المطلوبتين لردع خصومها أو خوض حرب طويلة الأمد.

وتشير الصحيفة إلى أن فشل مشروع فرقاطة "كونستيليشن" ليس استثناءً، بل عرضاً لخلل منهجي يضرب قلب القاعدة الصناعية الدفاعية.

من 1980 إلى اليوم: انهيار مُخطط له

تستعرض نيويورك تايمز جذور الأزمة في قرار استراتيجي اتخذه الرئيس رونالد ريغان في أوائل الثمانينيات، حين ألغى الإعانات الفيدرالية التي كانت تدعم صناعة السفن التجارية. فحتى عام 1980، كانت الولايات المتحدة تمتلك أكثر من 300 حوض بناء سفن تجاري، تنتج العشرات من السفن سنوياً.

ولكن إلغاء الدعم الحكومي أفقد هذه الأحواض قدرتها على المنافسة مع مصانع آسيوية منخفضة التكلفة، ما أدى إلى انهيار القطاع، وتسريح عشرات الآلاف من العمال، وترك البلاد تعتمد لاحقاً على بنية صناعية هشة لا تُنتج إلا للأغراض العسكرية.

واليوم، يعتمد الأسطول البحري الأمريكي — الذي يُفترض أن يكون الأقوى في العالم — في جوهره على تصاميم تعود إلى حقبة ريغان. وعلى مدى 35 عاماً، أطلقت البحرية أكثر من ستة برامج جديدة لبناء سفن — من زوارق ساحلية صغيرة إلى طرادات متقدمة — لكنها جميعاً، تقريباً، فشلت في الالتزام بالميزانية أو الجدول الزمني أو الأداء المطلوب.

ولم يختلف حال برامج الطائرات المقاتلة والقاذفات، التي يستغرق تطويرها اليوم نحو 12 عاماً في المتوسط، بينما تتقاعد الطائرات الحالية بوتيرة أسرع من قدرة سلاح الجو على استبدالها. وترى الصحيفة أن هذا التراجع ليس تقنياً فحسب، بل مؤسسياً: فقد فقد الاقتصاد الأمريكي، بما فيه قطاع الدفاع، قدرته على "البناء" بسرعة ودقة.

الصين لا تنتظر

وفي المقابل، تصف نيويورك تايمز الصعود الصيني بأنه "غير مسبوق في زمن السلم". فبكين تمتلك اليوم أكثر من 370 سفينة حربية — متفوّقة على الأسطول الأمريكي البالغ 296 — وتملك صواريخ فرط صوتية مضادة للسفن لم تدخل الولايات المتحدة حتى نسخة تجريبية منها الخدمة.

والأهم، كما تؤكد الصحيفة، أن الصين تُنتج حالياً أكثر من ثلاث سفن حربية مقابل كل سفينة أمريكية، ونحو 200 سفينة تجارية مقابل كل واحدة تُبنى في الولايات المتحدة.

وتشير الصحيفة إلى أن أكبر شركة صينية مملوكة للدولة لبناء السفن أنتجت وحدها أكثر من 250 سفينة العام الماضي، وأن السعة الإجمالية للإنتاج البحري الصيني تفوق ما أنتجته أحواض السفن الأمريكية مجتمعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية — وفقاً لتقديرات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن.

حاملة الطائرات يو إس إس دوايت د. أيزنهاور وسفن حربية أخرى تعبر مضيق هرمز إلى الخليج الفارسي يوم الأحد, نوفمبر. 26، 2023 Information Technician Second Class Ruskin Naval/AP احتكار يقتل المرونة

ويرى التقرير أن جذور الأزمة تكمن في تحوّل الصناعة الدفاعية إلى احتكار خماسي: لوكهيد مارتن، RTX، جنرال دايناميكس، نورثروب غرومان، وبوينغ. فهذه الشركات، التي تُعرف بـ"الشركات الرئيسية" (primes)، باتت خبيرة في إدارة العقود الحكومية والبيروقراطية، لكنها فشلت في تطوير القدرة على الإنتاج الضخم والسريع الذي تفرضه الحروب الحديثة — كما أثبتته تجربة أوكرانيا، حيث حوّلت الطائرات والزوارق المسيرة الرخيصة موازين المعركة ضد أسلحة تقليدية باهظة.

وبينما استثمر البنتاغون 700 مليار دولار في بناء السفن منذ التسعينيات، تقلّص الأسطول بنسبة 45%. وفي 2024، ذهب 86% من إنفاق البرامج الكبرى إلى المورّدين التقليديين، ما يكبح الابتكار ويُبقي النظام رهينة نموذج لم يعد يصلح للاستخدام.

وتسلط الصحيفة الضوء على أزمة العمالة المتفاقمة: فصناعة بناء السفن تضم 150 ألف عامل، لكنها ستحتاج إلى 140 ألفاً إضافياً خلال العقد المقبل فقط لتلبية طلبات الغواصات.

ومع ذلك، يعجز القطاع عن جذب المهارات المطلوبة، لأن الرواتب لا تكاد تختلف عن وظائف في قطاع الخدمات. "هذه مسألة رواتب بحتة"، وفقاً لوزير البحرية جون فيلان، في تصريح نقلته الصحيفة.

Related نيودلهي تُجمّد مفاوضات شراء أسلحة أمريكية على خلفية تعريفات ترامبأوكرانيا تستخدم أسلحة أمريكية لضرب الداخل الروسي وفق مسؤول غربيأسلحة أمريكية تصل للعمق الروسي.. كييف تستهدف مستودعًا على بُعد أكثر من 100 كيلومتر "كونستيليشن": قصة فشل متكاملة

ويقدم التقرير مشروع "كونستيليشن" كدراسة حالة مثالية للفشل المؤسسي. فالفكرة الأصلية — اعتماد تصميم فرنسي-إيطالي جاهز عبر حوض "مارينيت مارين" — كانت واعدة. لكن سرعان ما أدخل البنتاغون سلسلة لا نهاية لها من التعديلات: محرك كهربائي جديد، مولّد ديزل مختلف، مراوح معدّلة. وبدون قاعدة صناعية مرنة أو قوة عاملة كافية، تحول المشروع إلى كابوس تكاليف وتأخير، حتى ألغته البحرية في نوفمبر، تاركة سفينتين نصف منتهيتين، و93 عاملاً عاطلاً.

وتشير الصحيفة إلى أن محاولات إدخال الابتكار — مثل برنامج "ريبليكيتر" الذي أطلقته وحدة الابتكار الدفاعي (Defense Innovation Unit) — تعثرت بشكل صارخ. فرغم هدفه الطموح بشراء آلاف الطائرات والزوارق المسيرة خلال عامين، فشل البرنامج في تحقيق أهدافه الأولية. ويعزو التقرير ذلك إلى ما يُعرف بـ"وادي الموت": الفجوة القاتلة بين الابتكار الأولي والاعتماد الصناعي.

فبين 2001 و2016، تخلّى 40% من الشركات الناشئة عن السباق بعد ثلاث سنوات، و80% بعد عقد. ويعود السبب، وفق الصحيفة، إلى بيروقراطية العقود الفيدرالية — التي تمتد إلى نحو 2000 صفحة — وتمويل غير مستقر، وصلاحيات محدودة لجهات مثل وحدة الابتكار، ما يجعل من المستحيل على الشركات الناشئة التنافس مع "الشركات الرئيسية" التي تمتلك جيوشاً من المحامين وخبراء المشتريات الحكوميين.

تظهر هذه الصورة من مقطع فيديو قدمته وزارة الدفاع اعتراض طائرة حربية أمريكية من قبل طائرة صينية في المحيط الهادي 29 أبريل 2022 AP/AP إصلاحات متعثرة — وإشارات أمل

ورغم التشاؤم، ترصد نيويورك تايمز بوادر أمل. فقد بدأت الحكومة بإعادة بعض الإعانات لصناعة السفن، واستثمر البنتاغون نحو 6 مليارات دولار خلال العقد الماضي لدعم القوى العاملة وتعزيز البنية التحتية للصناعة. كما دعا وزير الدفاع بيت هيغسيث إلى "إصلاح جذري" في سياسات الشراء، محذّراً مصنّعي الأسلحة في نوفمبر: "إما أن تُوفّروا ما نحتاجه، أو سنفشل. إنها مسألة حياة أو موت".

وتوصي الصحيفة بخطوات ملموسة: تمرير قانون "بناء السفن والبنية التحتية للموانئ من أجل الازدهار والأمن لأمريكا"، ورفع الإنفاق الدفاعي بنسبة نصف نقطة مئوية (ما يعادل نحو 150 مليار دولار) على القدرات التصنيعية، وتفعيل قانون الإنتاج الدفاعي في حالات الطوارئ لزيادة إنتاج الذخائر والصواريخ والقاذفات، وتخفيف القيود على الشركات الناشئة لتمكينها من الدخول في سلسلة التوريد الدفاعية.

وتختتم نيويورك تايمز تقريرها بتذكير تاريخي: فصناعات عملاقة — من الطيران إلى الأقمار الصناعية، الروبوتات، الرادار، تقنيات الموجات الدقيقة، وحتى وادي السيليكون — نشأت من رحم الاستثمار الدفاعي. وخلصت الصحيفة إلى أن إحياء القاعدة الصناعية الدفاعية ليس مسألة عسكرية فحسب، بل اقتصادية وطنية. فصناعة دفاعية قوية وسريعة الإنتاج لا تمنع الحروب فحسب، بل تخلق فرص عمل، وتدفع الابتكار، وتجعل أمريكا أكثر أمناً وأكثر ازدهاراً.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة

مقالات مشابهة

  • «أبوظبي للاستثمار» و«الاتحاد الصيني الدولي لروّاد الأعمال» يوقعان شراكة استراتيجية
  • إصابة صيادين فلبينيين في هجوم لخفر السواحل الصيني
  • الفلبين: إصابة 3 صيادين في هجوم لخفر السواحل الصيني في بحر الصين الجنوبي
  • صاروخ «كوايتشو-11 واي 8» الصيني يطلق مركبة فضائية تجريبية للفضاء
  • أزمة الصناعة الدفاعية الأمريكية: انهيار القدرة الإنتاجية في مواجهة التوسع الصيني السريع
  • مستشفى روجين الصيني: نتعاون مع قصر العيني لتطوير التكنولوجيا الطبية
  • ماراثون مصر الخير يضيء احتفالات الأقصر بعيدها القومي ويوم التطوع العالمي
  • المسلماني يهنئ أسرة الفضائية المصرية بعيدها الـ35: عميدة الفضائيات العربية
  • وزير الخارجية الصيني يصل عمّان السبت ضمن جولة شرق أوسطية
  • البنك الدولي: الاقتصاد الصيني حافظ على قوته في الربع الثالث