أسد الممانعة: في تفسير الغيبة الكبرى ونظرية التخادم
تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT
زار وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي دمشق الأسبوع الماضي، حيث التقى مع رئيس النظام السوري بشّار الأسد، وذلك لبحث التصعيد الإسرائيلي والتطورات الإقليمية الأخيرة. ونُقِل عن الأسد قوله في الاجتماع أنّ "الردّ الإيراني كان ردا قويا، وأعطى درسا للكيان الإسرائيلي بأن محور المقاومة قادر على ردع العدو، وأنه سيبقى قويا ثابتا بفضل إرادة وتكاتف شعوبه".
وباستثناء هذا التصريح الذي بدا اضطراريا وفارغا في نفس الوقت، ليس هناك أي تصريحات أو إجراءات عملية لنظام الأسد لمساندة ما يسمّى "محور الممانعة" منذ اندلاع طوفان الأقصى وحتى اليوم. فسّر البعض غياب الأسد -الذي لطالما اعتُبِرَ جزءا أساسيا من محور "الممانعة"- عن المشهد بموقف حركة حماس من نظامه إبّان ثورة عام 2011 ورفض حماس أن تكون ورقة بيد النظام للتغطية على جرائمه. لكن سرعان ما فقد هذا الطرح قدرته على التفسير فور توسّع دائرة التصعيد لتشمل اجتياح إسرائيل للبنان وتدمير بنية حزب الله، ومنظومة القيادة والسيطرة والتحكم لديه، وجزءا كبيرا من مخازنه العسكرية ومقراته وقياداته داخل لبنان، بالإضافة إلى التصعيد الإسرائيلي- الإيراني.
لا يبدو الأسد حاضرا في الصورة. وقد توقّف نصر الله قبل اغتياله كذلك عن الإشارة إلى سوريا الأسد بوصفها جزءا أساسيا من محور "الممانعة"، وكذلك توقّف المسؤولون الإيرانيون عن التواصل الفعّال مع الأسد كما كان يجري على الأمر سابقا. ومن الواضح أنّ نظام الأسد لا يريد أن يكون كذلك جزءا مما يجري أو أن يدفع أي أثمان لها علاقة بأي ترويج لمشاريع إيران
فبعد 13 سنة من دور حزب الله وإيران التدميري في سوريا تحت عنوان نصرة مشروع "الممانعة"، لا يبدو الأسد حاضرا في الصورة. وقد توقّف نصر الله قبل اغتياله كذلك عن الإشارة إلى سوريا الأسد بوصفها جزءا أساسيا من محور "الممانعة"، وكذلك توقّف المسؤولون الإيرانيون عن التواصل الفعّال مع الأسد كما كان يجري على الأمر سابقا. ومن الواضح أنّ نظام الأسد لا يريد أن يكون كذلك جزءا مما يجري أو أن يدفع أي أثمان لها علاقة بأي ترويج لمشاريع إيران "المقاومة"، حتى ولو كانت صوريّة أو شكلية كما تجري العادة.
البعض يشير إلى أنّ الأسد يعي أنّ تدخّل حزب الله وإيران لإنقاذه في الـ13 سنة الماضية لم يكن مسألة شخصيّة، وإنما كان بمثابة إنقاذ لمصالح حزب الله وإيران بالدرجة الأولى، وبالتالي فهذه مساعدة ذاتية لأنفسهما وليست جميلا على الأسد أن يردّه لهما. وفي المقابل، هناك من يرى أنّ اتخاذ الأسد موقفا حياديا ممّا يجري هو نتيجة لتفاهمات غير مباشرة مع إسرائيل تحقّق له مكاسب هو في أمسّ الحاجة إليها وليس باستطاعة الحزب أو إيران تقديمها له. وأخيرا، هناك رأي ثالث يقول إنّه ليس باستطاعة الأسد أن يفعل أي شيء في جميع الأحوال حتى لو أراد المشاركة فعليا، وأنّ إسرائيل قادرة على اغتياله وتدمير نظامه إن أرادت، وهو أمر يعيه النظام جيدا وتعيه إيران كذلك. ولهذا السبب بالتحديد، قد يكون هناك تفهّم من جميع اللاعبين إزاء وضع الأسد ودوره الوظيفي في خدمة جميع الأطراف، بما في ذلك تلك التي تبدو متناقضة للوهلة الأولى.
كيف حصل ذلك؟ وكيف انتقل الترويج للأسد من "قلب الممانعة النابض" إلى غيابه الكامل عن محور "الممانعة"؟ في الفترة بين 2006 و2009، أشارت عدّة استطلاعات في العالم العربي إلى أنّ بشّار الأسد، وحسن نصر الله، والرئيس الإيراني أحمدي نجاد؛ هي الشخصيات الأكثر شهرة وتأييدا في العالم العربي نظرا لما كان يُعرف حينها باسم محور "الممانعة".
في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011، اندلعت موجة من الاحتجاجات الشعبية في عدد من الدول العربية من بينها تونس ومصر واليمن أطاحت بالأنظمة القائمة هناك. ومع الخوف القائم لدى الأنظمة الاخرى من انتقال هذه الثورات إليها على طريقة أحجار الدومينو، سئل بشّار الأسد حينها عن إمكانية أن تشهد سوريا احتجاجات مشابهة، فأجاب قائلا إنّ وضع سوريا كدولة مقاومة للسياسات الأمريكية وقرب النظام من اتجاهات الناس يجعل إمكانية قيام مثل هذه الاحتجاجات غير ممكن بالرغم من ظروف الناس الصعبة.
بمعنى آخر، كان نظام الأسد يرى أنّ سمعته كـ"مقاوم" لسياسات أمريكا وإسرائيل تمنحه الحصانة في تأمين نفسه، وتسحب من الناس إمكانية الاحتجاج أو المطالبة بحقوقهم، وتبقيه على كرسي الحكم إلى الأبد. نفس المنطق كان قائما عند باقي أطراف المحور الذي كان يوصف خلال السنوات التي سبقت بـ"محور الممانعة"، ويضم إلى جانب الأسد كلا من حزب الله في لبنان وإيران.
بعدها بأقل من شهرين فقط على تصريح بشّار الأسد، اندلعت الاحتجاجات ضد نظامه في سوريا، وتصاعدت بعد قيام عناصر النظام باعتقال وتعذيب وقتل الأطفال والمتظاهرين السلميين. وارتفع سقف مطالب المتظاهرين سريعا إلى أن انتهت بالمطالبة بتغيير نظام الأسد. ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع الاحتجاجات، اتخذت إيران قرار التدخل ضد الشعب السوري، وكلّفت طهران حزب الله وباقي أطراف المحور برمي كل ثقلهم خلف نظام الأسد. وكما قال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، سابقا، "فقد تمّ تكليفنا بالانتصار وليس التدخل فقط". لكن عندما فشلوا في تحقيق ذلك بقيادة إيرانية، استعانوا بروسيا وأقنعوها بضرورة التدخل وإنقاذهم مع نظام الأسد.
سيقت الكثير من المبررات وصنعت الكثير من السرديات لتبرير تدخّل محور إيران والذي أدىّ إلى قتل مئات الآلاف من السوريين وتشريد أكثر من 10 مليون سوري بين لاجئ ونازح في الداخل والخارج. وقد تمّ تقديم هذه المسوّغات لقاعدة حزب الله، وجمهوره، والرأي العام العربي والإسلامي بالتدريج. فقد بدأت بالادعاء بأنّ هدف التدخّل هو حماية المراقد والقبور الشيعية تحت شعار "لن تسبى زينب مرّتين"، ثم انتقلت إلى "حماية الشيعة في سوريا"، وبعدها إلى مقاتلة الإرهابيين (أي المتظاهرين) الذين "يريدون الإطاحة بنظام مقاوم ويخدمون الأجندة الصهيونية"، ثم مقاتلة التكفيريين الذين "إذا لم نقتتهم تدفقوا إلى لبنان لقتالنا وقتل أهلنا وسبي نسائنا"، وأخيرا إذا لم نقتلهم سيسقط مشروع المقاومة وسنصبح عبيدا لإسرائيل.
المفارقة أنّه في الوقت الذي كان يتمّ فيه صناعة وترويج هذه السرديات، كان هدوء الجبهة اللبنانية قد سمح للحزب بأن يرمي بثقله في الداخل السوري دون أن يخشى شن حرب إسرائيلية ضده. وقد كتب الرئيس السابق للموساد حينها كذلك عن ضرورة حماية "رجلهم في دمشق" أي الأسد.تخفيف التبعية لإيران -وليس التخلي عنها، لأنّ هذا نقاش مختلف تماما- من شأنه أن يحقق عددا من الأهداف المهمّة للأسد، وأن يقنع أصحاب مشروع إعادة التأهيل بأنّ الأسد يستحق فرصة أخرى. وبالتالي، يحصل الأسد في المقابل على الدعم السياسي والاقتصادي وربما الأمني اللازم لإعادة بسط سيطرته على كامل سوريا وكان عدد من رجالات نظام الأسد قد أرسلوا لإسرائيل قبل ذلك رسالة مفادها أنّ "أمن سوريا من أمن إسرائيل"، في إشارة إلى ضرورة ألّا تعمل إسرائيل على الإطاحة بالنظام.
في نهاية المطاف، تمّ إنقاذ الأسد -ولو بشكل مؤقت- من شعبه الذي كان ينشد الحرية والعدالة والعيش الكريم، لكن ذلك جاء على حساب تدمير سوريا وقتل شعبها وجعلها مستعمرة لإيران ومليشياتها، وللمشروع الروسي. وخلال السنوات الـ13 الماضية، تحوّل الأسد إلى مجرّد تابع، في وقت تدخّلت فيه العديد من الدول العربية، لا سيما الخليجية، لإعادة تأهيله. ليس من المستبعد أن تكون إسرائيل بعيدة عن هذا المشروع أيضا، فعملية إعادة التأهيل تتطلب الانفتاح على المحيط العربي وتخفيف حدّة التبعية لروسيا وإيران، ومن غير الممكن أن يتم ذلك لو كان هناك اعتراض إسرائيلي. لكن، من وجهة النظر الإسرائيلية فإنّ على الأسد أن يبرهن أيضا أنّه يريد أن يسلك هذا المسار.
وعليه، فانّ تخفيف التبعية لإيران -وليس التخلي عنها، لأنّ هذا نقاش مختلف تماما- من شأنه أن يحقق عددا من الأهداف المهمّة للأسد، وأن يقنع أصحاب مشروع إعادة التأهيل بأنّ الأسد يستحق فرصة أخرى. وبالتالي، يحصل الأسد في المقابل على الدعم السياسي والاقتصادي وربما الأمني اللازم لإعادة بسط سيطرته على كامل سوريا، وهو أمر لا تستطيع إيران أو روسيا في نهاية المطاف تقديمه له.
خلال العام الماضي، قامت إسرائيل باغتيال سلسلة من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا، كان من أبرزهم العميد محمد رضا زاهدي، قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني في كل من سوريا ولبنان، وذلك أثناء تواجده في مجمّع السفارة الرسمي التابع لإيران في دمشق في نيسان/ أبريل الماضي. ونشرت حينها العديد من التقارير الإيرانية التي تشكك في إمكانية أن يكون للأسد و/أو روسيا دور في تسريب المعلومات المتعلقة بتحرّكات كبار القادة والمسؤولين الإيرانيين داخل سوريا. وبالرغم من أنّه لا يمكن نفي ذلك تماما، لكنّ جزءا من هذا الافتراض يقوم على أمرين: الاوّل هو تجاهل قدرة إسرائيل على جمع المعلومات والاختراق دون الحاجة إلى نظام الأسد بالضرورة، والثاني هو عنجهيّة وتكبّر إيران وأدواتها اللبنانية، وكذلك محاولة نفي أن يكون التقصير أو الاختراق إيرانيّا أو تابعا لحزب الله.
لو اعتبرت إيران المواجهة مع إسرائيل حتميّة، كما اعتبرت مواجهتها مع الشعب السوري ومع الشعب العراقي ومع الشعب اليمني واللبناني حتميّة، لكانت اليوم في حرب حقيقية مع إسرائيل، لكن إصرار المسؤولين الإيرانيين بمختلف مراكزهم ودرجاتهم على التأكيد بأنّهم لا يسعون إلى حرب مع إسرائيل، ولا يريدون التصعيد أو التوتّر معها، من شأنه أن يشجّع إسرائيل على تماديها
وقد أثبتت العمليات الإسرائيلية التي تمّ تنفيذها داخل إيران وداخل لبنان خلال الفترة القليلة الماضية وجود اختراق بشري هائل للمنظومة الامنيّة التابعة للطرفين على أعلى المستويات، خاصّة عندما نقارن مع حالة حماس على سبيل المثال. ووفقا لتقرير أعدّته الواشنطن بوست وآخر للفايننشال تايمز، فإنّ جهاز الموساد الإسرائيلي استطاع اختراق حزب الله بشكل جماعي في مختلف المستويات منذ العام 2013 على أقل تقدير. هذا يعني أنّ الموساد ظل يرصد كل اتصالات وتحرّكات الحزب وعناصره وقياداته لتسع سنوات على الأقل، ومع هذا لم يتدخّل ضد حزب الله طوال فترة انغماس الحزب في سوريا، كما ظلّت الجبهة على الحدود مع لبنان منذ العام 2006 هادئة تماما، وأهدأ من تلك القائمة مع مصر والأردن.
التفسير الوحيد لهذا الأمر هو أنّ تدخل حزب الله في سوريا وقتل شعبها وتدميرها كان مفيدا لتل أبيب ومصالحها الإقليمية، ولذلك فقد تركت إسرائيل حزب الله -ومن ورائه إيران- يكمل المهمّة في سوريا حتى النهاية.
أمّا اليوم، فيعي نظام الأسد أنّ وجوده هو مصلحة إسرائيلية كذلك، ويحتاج أن يستغل هذا الأمر في إعادة ترميم نفسه وإن تطلّب ذلك ترك مسافة بينه وبين حزب الله وإيران حتى حين. يبقى أن نشير إلى مفارقة مفادها أنّه فيما لو اعتبرت إيران المواجهة مع إسرائيل حتميّة، كما اعتبرت مواجهتها مع الشعب السوري ومع الشعب العراقي ومع الشعب اليمني واللبناني حتميّة، لكانت اليوم في حرب حقيقية مع إسرائيل، لكن إصرار المسؤولين الإيرانيين بمختلف مراكزهم ودرجاتهم على التأكيد بأنّهم لا يسعون إلى حرب مع إسرائيل، ولا يريدون التصعيد أو التوتّر معها، من شأنه أن يشجّع إسرائيل على تماديها، بما في ذلك على إيران ومليشياتها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإيراني الأسد الإسرائيلي الممانعة حزب الله سوريا إيران سوريا الأسد إسرائيل حزب الله مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حزب الله وإیران إسرائیل على نظام الأسد مع إسرائیل من شأنه أن ومع الشعب ع إسرائیل مع الشعب فی سوریا نصر الله الأسد أن أن یکون حتمی ة
إقرأ أيضاً:
أحمد رحال لـعربي21: فلسطين في الوجدان.. والاتفاقية مع إسرائيل ليست تطبيعا أو سلاما دون مقابل
عام مضى منذ أن انقلبت الحرب التي ظن الرئيس بشار الأسد قد حسمها لصالحه، بعد أن تمكنت قوة من مقاتلي المعارضة من التقدم من إدلب، المحافظة السورية الواقعة على الحدود مع تركيا، ودخول دمشق بقيادة أحمد الشرع يوم الـ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، والذي بات اليوم رئيسًا انتقاليًا، فيما يعيش الأسد في منفى في روسيا.
لا تزال سوريا غارقة في الدمار، ففي كل مدينة وبلدة، يعيش الناس داخل أبنية هشة، محروقة ومجوفة من الداخل بفعل سنوات من حرب طاحنة، ورغم تراكم أزمات "سوريا الجديدة"، فإن هذا البلد يبدو اليوم أقل اختناقًا بعد زوال الثقل القاسي الذي فرضه النظام المخلوع لسنوات طويلة.
تمكن أحمد الشرع من شق طريقه باتجاه الخارج والذي على ما يبدوا كان أسهل بكثير من الداخل، فقد نجح في إقناع السعودية والدول الغربية بأنه يمثل "أفضل فرصة لقيام مستقبل مستقر في سوريا"، كما وحضي بدعم أمريكي وأوروبي كبير تمخض عنه رفع العقوبات عن بلاده، أما في الداخل، فالصورة قد تكون مختلفة، حيث يدرك السوريون نقاط الضعف ومشكلات بلادهم أكثر من أي جهة أجنبية.
ورغم تأكيد الشرع أن بلاده منهكة من الحرب، وإنها لا تمثل تهديدًا لجيرانها ولا للغرب، مؤكدًا أنهم سيحكمون "لصالح جميع السوريين"، غير أن إسرائيل رفضت تلك الرسالة تمامًا ولم تقتنع كليا بالنوايا، فيما يواصل الرئيس ترامب الدفع باتجاه إنجاح اتفاق بين سوريا وإسرائيل الذي بات يواجه الكثير من العراقيل بسبب شروط يفرضها نتنياهو.
لاستقراء ما يمكن أن تحمله الأيام من أحداث بشأن سوريا، وحجم المنجزات والإخفاقات التي واكبت حكومة أحمد الشرع خلال عام مضى، أجرى موقع "عربي21" لقاءًا خاصا مع الخبير العسكري والمحلل السياسي العميد أحمد رحال، وفيما يلي نص المقابلة:
أين ترى سوريا اليوم بعد عام من التحرير؟ هل تسير ضمن خطوات مدروسة باتجاه تحقيق العدالة والمساواة التي يرمي إليها الشعب، أم أن الإخفاقات كثيرة؟
نحن أمام إنجاز كبير، وهو إسقاط نظام الأسد، ومع ذلك لدى الشعب السوري مطالب أكبر بكثير مما تحقق، ولكن السلطة لا تملك عصا سحرية لتغيير الواقع، ومع وجود إخفاقات كبيرة، فإن هناك ثلاثة ملفات ضاغطة إن لم تُنفّذ فنحن في مشكلة، وهي ترسيخ الأمن، وإعادة بناء المجتمع، فضلاً عن الحاجة لمؤتمر حوار وطني وإعلان دستوري جديد وتأسيس حكومة تشاركية تعددية.
هل استطاع الرئيس أحمد الشرع محو سمة الإرهاب عنه، وتمكّن من إقناع الرأي العام بأنه تحول من مجاهد إلى رجل دولة؟
زيارة أحمد الشرع للبيت الأبيض دليل على وجود قناعة عربية ودولية بأن الرئيس السوري أزال عنه سمة تهمة الإرهاب، لكن المشكلة ليست في الرئيس الشرع، بل في بعض قيادات الصف الأول في هيئة تحرير الشام، وما حدث في الساحل السوري والسويداء من انتهاكات، وإن كانت فردية، دليل على ضرورة تغيير سلوك هؤلاء.
ما تفسيرك لطبيعة الحراك المعارض لحكومة أحمد الشرع في بعض المحافظات كالسويداء واللاذقية؟ مجلة الإيكونوميست ترجح اندلاع انتفاضة قريبًا ضد قادة سوريا الجدد. هل يمكن وصفها فعلًا بالانتفاضة؟
بقدر النجاحات الكبيرة التي حققتها السياسة السورية في الخارج، لكنها أخفقت في كثير من ملفات الداخل. لذا، من الضروري وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وخاصة في المفاصل الأمنية والعسكرية، لتجنب ما حدث في بعض المحافظات، والتي على إثرها خرجت تظاهرات معارضة للحكومة في دمشق. وفي المحصلة، تتحمل الحكومة المسؤولية لمعالجة الانقسامات وتجنب الخطر، رغم عدم وجود مخاوف من تطور الوضع للتصادم مع السلطات على غرار ما حصل في عام 2011، لكن بالتأكيد نحن بحاجة إلى مشروع وطني يجمع لا يفرق.
هل من المنصف اتهام سوريا الجديدة بأنها تخلت عن القضية الفلسطينية ولم تعد ضمن سلم أولوياتها، وباتت دمشق خارج معادلة الحكومات العربية المعادية لإسرائيل؟
قرارات الحكومة في دمشق واضحة، وهي أنها قسمت موضوع التفاوض مع إسرائيل إلى شقين، الأول هو اتفاق أمني يعيد الأمور إلى ما كانت عليه ما قبل 18-12-2024، بمعنى العودة إلى الاتفاق الموقع عام 1974، وهذا أمر لا يعني بالضرورة السلام مع إسرائيل، ولطالما أكد الرئيس الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني أن سوريا ملتزمة بالموقف العربي، ومفاده لن نمنح إسرائيل سلامًا على بياض، ولا يعني أيضًا التخلي عن القضية الفلسطينية، فالنتيجة هو مجرد اتفاق وليس تطبيع.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
البعض يتهم حكومة الرئيس أحمد الشرع بالخضوع لإسرائيل، مستدلين بذلك بسلسلة الهجمات التي شنها الاحتلال على سوريا والتي لم تكن تُذكر خلال حكم الأسد، ما رأيك؟
نتيجة للتفاهمات التي كانت موجودة ما بين نظام الأسد وإسرائيل، تُرجمت إلى عدم شن الاحتلال هجمات على سوريا، وليس معنى هذا أن إسرائيل كانت تتخوف من الجيش السوري، فبعد عام 1973، لم يشكل الجيش للاحتلال رقمًا صعبًا، ونذكر هنا ما قاله رامي مخلوف عام 2011، أن أمن دمشق من أمن إسرائيل، كما أن تل أبيب هي من عارضت إسقاط نظام الأسد حتى تيقنت عام 2024، أن إيران لا تخرج من سوريا طالما نظام الأسد موجود، وبالتالي رفعت الغطاء عنه.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
قبل أيام حذر مسؤولون إسرائيليون من خطورة دعم الرئيس ترامب لأحمد الشرع على أمن دولة الاحتلال، هل فعلاً سوريا بوضعها السياسي والاقتصادي الهش حاليًا تشكل تهديدًا لإسرائيل؟
كلام الرئيس، والشارع، وكل القيادة السورية كان واضحًا، وهو أننا اليوم لا نبحث عن عداء مع أحد، ولا نريد أن نبحث عن حرب مع أحد، بل نريد بناء مؤسسات الدولة، وتأمين معيشة المواطن السوري. وبالتالي، الكلام عن كون دمشق تمثل تهديدًا لإسرائيل بعيد عن المنطق، والحقيقة أن نتنياهو يبحث عن الذرائع للتحرش بسوريا منذ وصول الشرع للسلطة، ومفاد رسالة تل أبيب أنها لن تنتظر سبع سنوات للوقوع في كمين طوفان الجولان كما حدث مع طوفان الأقصى.
كانت غزة حاضرة في هتافات الجيش السوري خلال مسير عسكري في دمشق بمناسبة ذكرى التحرير، هل تم بتوجيه مركزي أم باجتهاد فردي، أم إنها ورقة ضغط للدفع باتجاه تسريع الاتفاق مع إسرائيل؟
الخطاب السوري تجاه القضية الفلسطينية وغزة والضفة الغربية واضح، وهو في وجدان كل مواطن سوري، وهذا ما لمسناه خلال ترديد الهتافات في الاستعراض العسكري الذي حدث في دمشق بذكرى التحرير، وما يبدر من تصريحات بشأن دعم فلسطين هي مواقف معنوية فردية، ليس معناها أن ترسل سوريا جيشًا للقتال ضد إسرائيل.
لا ننكر وجود مؤيدين وحلفاء حتى اللحظة للرئيس المخلوع الأسد، سواء في الداخل أو الخارج، ولكن هل تعتقد أن ما تضمنته الفيديوهات المسربة وهو برفقة لونا الشبل قد أطاح بصورته؟
عام 2021، خسر بشار الأسد ما كان يملكه من دعم وتأييد لدى الطائفة العلوية، حيث تيقنوا أنه لا خير يرتجى منه، خاصة وأن البروباغاندا الإعلامية والاستخباراتية التي عمل عليها النظام تفككت خلال أعوام الحرب الأخيرة، كما أن إعلانه عن عدم قدرته على تأمين الرواتب وتقديم الخدمات، كلها أسباب فاقمت من السخط الشعبي ضد الأسد، لذا فإن ظهوره خلال المقاطع المصورة وهو يستهزئ بالجيش وقادته، بما فيها الميليشيات الوافدة التي كانت تدعمه، أكدت لمن لم يتأكد بعد مدى الاستخفاف الذي كان يتعامل به بشار الأسد مع مؤسسات وقطاعات الدولة، كما كشفت تلك المقاطع أن سوريا كانت تفتقد أساسًا لوجود رئيس يمتلك مواصفات الهيبة التي تؤهله لقيادة بلد غارق بالأزمات.
تعرض لأول مرة .. تسريبات تكشف أحاديث بين الأسد ولونا الشبل#سوريا#قناة_التغيير_الفضائية pic.twitter.com/6ea7dGdvs5 — قناة التغيير الفضائية (@AlTaghierTV) December 6, 2025
تباطؤ مسار العدالة مع الذكرى السنوية للتحرير
لا يمتد نفوذ الشرع إلى شمال شرقي سوريا، حيث يفرض الأكراد سيطرتهم على نحو 25 بالمئة من مساحة البلاد، ولا إلى أجزاء من الجنوب، حيث يسعى الدروز، إلى إقامة دولة مستقلة بدعم من حلفائهم الإسرائيليين، وعلى الساحل، يخشى العلويون تكرار "المجازر" التي تعرضوا لها في آذار/مارس الماضي رغم تعهد دمشق بالتحقيق ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والتي اتضح تورط العديد من الفصائل المنضوية ضمن الحكومة.
مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أعرب عن قلقه الشديد بشأن بطء وتيرة العدالة، وقال متحدث باسم المكتب إن السلطات الانتقالية اتخذت خطوات مشجعة لمعالجة الانتهاكات السابقة، لكنها ليست سوى بداية لما ينبغي القيام به، وأشار المكتب إلى أن بعض السوريين تحركوا بأنفسهم، أحياناً بالتعاون مع قوات الحكومة، مؤكدًا أن المئات قُتلوا خلال العام الماضي على يد قوات الأمن والجماعات الموالية لها، وعناصر مرتبطة بالحكومة السابقة، ومجموعات مسلحة محلية، وأفراد مسلحين مجهولين.
وأضاف أن الانتهاكات الأخرى شملت العنف الجنسي، والاعتقالات التعسفية، وتدمير المنازل، والإخلاءات القسرية، والقيود على حرية التعبير وحرية التجمع السلمي. وأوضح أن المجتمعات العلوية والدروز والمسيحيين والبدو كانت الأكثر تضررًا من موجات العنف، التي غذّتها خطابات كراهية متصاعدة على الإنترنت وخارجه، وهو ما شددت عليه منظمات حقوق عالمية، مثل العفو الدولي وهيومن رايتس ووتش، اللذين دعوا السلطات السورية إلى العمل من أجل خلق واقع تكون فيه حماية جميع السوريين وضمان حقوقهم أولوية.
بعد عام على سقوط الأسد، ينبغي للسلطات السورية، بدعم من المجتمع الدولي، العمل لخلق واقع تكون فيه حماية جميع السوريين وضمان حقوقهم أولوية. pic.twitter.com/K3e5HdOIgw — هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) December 9, 2025
"إسرائيل" واستغلال ضعف سوريا
لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الشرع وحكومته يمتلكون ما يكفي من القوة للصمود في وجه أزمة أخرى بالخطورة نفسها، فإسرائيل ما تزال تمثل تهديدًا حاضرًا بالنسبة للسوريين، وفق تقرير لشبكة "بي بي سي"، فبعد سقوط الأسد، شن الاحتلال سلسلة واسعة من الغارات الجوية بهدف تدمير ما تبقى من القدرات العسكرية للنظام السابق، كما وتقدم جيشه خارج مرتفعات الجولان المحتلة للسيطرة على أراض سورية إضافية ما زال يحتفظ بها حتى اليوم، واستغلت إسرائيل الفوضى في سوريا لإضعاف بلد تعتبره عدوًا، عبر تدمير أسلحة قالت إن من الممكن أن توجه ضدها.
أما محاولات الولايات المتحدة للتوسط في اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل فقد تعثرت خلال الشهرين الماضيين تقريبًا. تريد دمشق العودة إلى اتفاق أنجز برعاية هنري كيسنجر عام 1974، حين كان وزيراً للخارجية الأمريكية، بينما يصر نتنياهو على بقاء جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي التي استولى عليها، ويطالب بأن تنزع سوريا السلاح في منطقة واسعة جنوب دمشق، وخلال الشهر الماضي، كثفت إسرائيل توغلاتها البرية داخل سوريا. وتقدر نشرة "سوريا ويكلي"، التي توثق بيانات العنف، أن عدد هذه التوغلات كان أكثر من ضعف المتوسط الشهري طوال هذا العام.
وزير "إسرائيلي".. "الحرب مع سوريا حتمية"
صرح وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكلي، أن الحرب مع سوريا "حتمية"، في ظل تصاعد التوترات الميدانية واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، وجاء موقفه تعليقا على تسجيلات تظهر جنودا من الجيش السوري وهم يهتفون لغزة خلال مسيرة عسكرية أقيمت الاثنين احتفالا بالذكرى الأولى لـ"عيد التحرير"، ما أثار قلقا داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
من هتافات الجيش السوري في مسير عسكري في دمشق بمناسبة ذكرى التحرير الأولى:
غزة، غزة، غزة شعار، نصر وثبات، ليل ونهار
طالعلك يا عدوي طالع، طالعلك من جبل النار
اعملك من دمي ذخيرة، واعمل من دمك أنهار
pic.twitter.com/9GXwRMlxgO — سعيدالحاج said elhaj (@saidelhaj) December 8, 2025
وكتب شيكلي المنتمي لحزب "الليكود" بزعامة بنيامين نتنياهو تدوينة مقتضبة على حسابه في منصة "إكس"، أرفقها بخبر حول هتافات الجنود السوريين، واكتفى فيها بعبارة: "الحرب حتمية"، ورغم أن الحكومة السورية الحالية لم تظهر أي تهديد عسكري مباشر للاحتلال فإن الأخير يواصل تنفيذ توغلات داخل الأراضي السورية وغارات جوية أودت بحياة مدنيين ودمرت مواقع وآليات عسكرية تابعة للجيش السوري.
عام على سقوط الأسد.. ماذا تغير في سوريا؟
ومع مرور عام على تحرير سوريا وسقوط نظام الأسد، يعود السوريون بذاكرتهم إلى تلك اللحظات المفصلية في تاريخ بلادهم، لتبقى شاهدة على بداية مرحلة جديدة في تاريخ دمشق، ورغم كم الأزمات إلا أن هناك الكثير من المنجزات، منها تبييض السجون، حيث أفادت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنه تم تحرير 24 ألفًا و200 معتقل كرقم تقديري، في حين لا يزال مصير 112 ألف معتقل ومختف قسريًّا مجهولًا حتى اللحظة.
كما تم رفع معظم التدابير التقييدية المرتبطة بنظام الأسد ورموزه خاصة تلك المتعلقة بالاقتصاد والتجارة الدولية، وفق المجلس الأوروبي والخزانة الأمريكية، فضلا عن عودة سوريا إلى الخريطة الدبلوماسية وسط حراك متسارع على مستوى رفيع، لإعادة دمجها في المنظومة الإقليمية، وفق كارنيفي للسلام الدولي، وعلى الصعيد الاقتصادي، قال تقرير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية إن هناك استقرارَا جزئيَا في سعر الصرف بعد تحسنه، وسط تقارير عن توفير أكبر للسلع نتيجة إعادة فتح خطوط التوريد.