علي جمعة: الفتن سببها العبد عن مراد الله في التلاعب بالألفاظ
تاريخ النشر: 23rd, November 2024 GMT
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، انه في محاولة للبحث عن المخرج من الفتن التي تحيط بنا، والتي أرى أن سببها الأساسي البعد عن مراد الله في التلاعب بالألفاظ، والاستخفاف بأمر الطعام، ومعاجزة الله في آياته وكونه، وتقديم الإنجاز على الأخلاق.
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان نبحث عن النخبة كمحاولة للخروج من الفتن، تلك النخبة التي أرشدنا الله للاستفادة من خبرتها فقال تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) , فالله تعالى أمرنا أن تكون لنا نخبة، فضيعنا النخبة، والنخبة قد تكون طاغية، وقد تكون صاغية.
أما الطاغية فالتي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف وتتجبر في الأرض وتكفر بالله رب العالمين، وأما الصاغية فالتي صغت قلوبها لذكر الله لا تريد علوا في الأرض ولا فسادا، لقد استبدلنا بالصاغية الطاغية، أهلكنا الصاغية وأخرناهم عن القيادة وعن العمل في الحياة الدنيا وقدمنا الطاغية ثم بعد ذلك اختلط الحابل بالنابل، فلا الطاغية بقت ولا الصاغية حلت محلها وأصبح الناس شذر مذر لا ملأ لهم ولا أهل ذكر يرجعون إليهم ويلتقون حولهم.
كان هذا بدعوى الشعبية والديمقراطية، وأن العصر هو عصر تلك السماتالتي تخالف سنن الله في خلقه، ولا يقوم بها المجتمع ولا تستقر بها نفس ، فالتساوي المطلق الذي تدعو إليه الديمقراطية، هو أحد إفرازات النسبية المطلقة، وهو أمر مرفوض.
وأن القضاء على النخبة والدعوة إلى التساوي المطلق، قد تتضمن في طياتها هلاك العالم، وهناك مجموعة من النصوص التي يمكن أن تكون أساسًا لهذا المعنى، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) ، وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ) ، فجعل الله للناس رؤوسًا، وجعل ذلك طبقا لكفاءاتهم، ورغبتهم في الإصلاح دون الإفساد، ونعى على ذلك التصور الذي يكون فيه جميع الناس في تساو مطلق فقال : (لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) ، وقال : (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وعدم التساوي لا يعني أبداً عدم المساواة، فربنا يقول : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً).
وقال النبي ﷺ : (الناس كأسنان المشط) [رواه القضاعي في مسند الشهاب، والديلمي في مسند الفردوس] وقال ﷺ : (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى) [رواه أحمد والطبراني في الأوسط والكبير].
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الفتن التلاعب بالألفاظ الطاغية الله فی
إقرأ أيضاً:
غزة في سورة الفجر
بينما أتأمل في سورة الفجر -التي تذكرنا بالأيام العشر الأولى من الشهر الذي ودعناه بالأمس مع استقبال عام هجري جديد- تلمس قلبي الآية التي يقول فيها الله تعالى: «كَلَّا بَل لَّا تُكرِمُونَ اليَتِيمَ وَلَا تَحضُّونَ عَلَى طَعَامِ المسكينِ»، فقفزت إلى مخيلتي صور أطفال غزة الجائعين، الذين يعانون من شظف العيش وألم الجوع والعطش والموت، حينها رجعت لأول السورة للبحث عن دلالات وإشارات وعظات تحيلنا إلى الواقع الذي نعيشه، وكيف أن هذه السورة حين تتلوها وتتأملها، تشعر وكأنها نزلت اليوم، لا قبل أربعة عشر قرنا، فأنت تستطيع تلمس كل آية من آياتها لتجد لها مثالا في الواقع ولكن الآية التي تأمرنا بإكرام اليتيم، وتحضنا على إطعام المسكين، هي الآية المفتاح لفكرة التتبع في هذه السورة العظيمة، فهذه الآيات تذكير حي بواجبنا الديني والإنساني تجاه المستضعفين من إخواننا في غزة وفلسطين، ونداء للاستيقاظ من غفلة القلوب تجاه معاناتهم، ومد يد العون لهم بكل ما نستطيع.
فابتداء من الفجر الذي أقسم الله به في هذه السورة حين قال عز من قائل: « وَالفجر (1) وَلَيَالٍ عَشر (2) وَالشفعِ وَالوتر(3) وَالليل إِذَا يَسر (4) هَل فِي ذَلِكَ قَسَم لِّذِي حِجر(5)»، فالله أقسم به تعظيما، والتفاتا لأهمية هذا الوقت، فهو إحدى آيات الله الدالة على عظمته، فنور الفجر ينبثق من حالك الظلمة، فهو يماثل انبثاق نور الهداية من ظلمات الضلال، وهو مؤذن بانقلاب الحال، كما أقسم الله تعالى بمخلوقاته من الأزمنة والأوقات، وبعدها قال عز وجل إن في ذلك القسم تفكرا وتأملا لذي حجر أي لذي عقل.
ثم نجد أن الله عز وجل ذكر أحوال الأمم والحضارات المادية المتغطرسة، التي تشبه الأمم المتغطرسة في عصرنا من يملك القوة لكنه لا يملك الرحمة، فقال عز وجل: « أَلَمتَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ لعِمَادِ (7) الَّتِي لَم يخلق مِثلُهَا فِي البلد (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ لصَّخرَ بِالوادِ (9) وَفِرعون ذِي الاوتادِ (10) الَّذِينَ طَغَواْ فِي البلادِ (11) فَأَكثَرُواْ فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيهِم رَبُّكَ سَوطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِلمِرصَادِ (14)»، فذكر قوم عاد وحضارتهم التي تعتبر من أعظم الحضارات في التاريخ الإنساني، فهي حضارة مكن الله لها ووصفها بأنها ذات أعمدة عمرانية عظيمة، وأنها لم يخلق مثلها في البلاد، لعظيم ما وصلت إليه، فماذا فعل الله بها، وكذلك حضارة أصحاب الحجر، الذين وصف الله قوتهم فقال إنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا فارهة، وذلك لعظمة ما مكن الله لهم من قوة وقدرة وعلم، كما أورد ذكر فرعون الذي بنى الأهرامات العظيمة التي تشبه الجبال، فجميع هذه الأمم والحضارات امتلكت القوة، فاستعلوا بها على البشر، فظلموا وطغوا وتجبروا، فكان مصيرهم الدمار الإلهي.
فصب الله عليهم العذاب صبا، فأهلك عاد بالريح، فقال الله عز وجل في سورة الحاقة: « وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ»، وأهلك ثمود بالصيحة، فقال تعالى في سورة الحجر: « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ»، وأما فرعون وجنوده فقد أهلكهم الله بالغرق فقال الله تعالى في سورة البقرة:« وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».
وهذا هو حال دول الطاغوت اليوم، من أمثال دولة الاحتلال ومن يساندهم من دول الغرب الذين أكثروا الفساد في الأرض فقتلوا أكثر من 60 ألفا من أبناء غزة، وجرحوا أضعاف هذا العدد، واحرقوا الأخضر واليابس، ودمروا المساكن، وهم يمعنون في تعذيب أهل غزة وظلمهم وتجويعهم.
بعدها ذكرت سورة الفجر حال الإنسان مع الابتلاء بالخير والشر، ويقول المفسرون إن ورود كلمة «الإنسان» في القرآن تأتي دائما في صفة الذم، فالله في سورة الفجر ابتلى الإنسان بالإكرام، والتوسعة في الرزق، كما أنه يبتليه بتضييق الرزق عليه فقال تعالى: « فَأَمَّا الانسانُ إِذَا مَا بتلاه رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عليهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبّي أَهننِ (16)».
تأتي الآيات التي تصف أخلاق المجتمع الظالم، فتجد فيها أوصافا تطابق واقعنا أمام غزة اليوم: «كَلَّا بَل لَّا تُكرِمُونَ ليَتِيمَ (17) وَلَا تَحَضُّونَ عَلَى طَعَامِ لمِسكِينِ»، فاليوم أصبحت مدينة غزة كلها أيتاما ومساكين، فهل حضضنا الناس على إطعامهم، فالله تعالى قال: ولا تحاضّون، أي لا يشجع بعضنا بعضا على إغاثة المساكين، فكيف بمن يسكت أو يثبط أو يساوم على جوعهم؟ ومما يدمي القلب ويعتصره مشاهد الجوع والدماء التي تختلط بالطعام عندما يقوم المجرم الإسرائيلي بقنص شباب غزة وأطفالها ونسائهم في مسيرهم الطويل إلى نقاط توزيع الطعام.
فمع اشتداد العدوان الأخير، وقطع المعابر، ومنع دخول الوقود والغذاء، صار الجوع سلاحا إضافيا يستخدم في حرب ظالمة تخاض ضد المدنيين، فترى صور الأطفال ذوي الوجوه الشاحبة، والرضع الذين توقف حليب أمهاتهم، والنساء اللائي يطبخن الأعشاب، ونحن في زمن الوفرة في عالم تتكدس فيه الموائد، ويهدر فيه الطعام، وتصرف المليارات على الترف، تتجلى هذه المأساة الإنسانية في غزة.
والمصيبة الأعظم ليست فقط في موت الجوعى، بل في اعتيادنا على موتهم، فقد أصبحنا نرى الأخبار ولا نهتز، ونقرأ الإحصاءات ولا نحزن، ونشاهد الجثث فلا نتضرع، ولعل أخطر ما يصاب به القلب هو تبلد الإحساس، حين نتحول من شهودٍ على الجريمة إلى متعايشين معها، وكأنه وضع طبيعي، بل وفي أحيان كثيرا نحاول أن لا نرى تلك الصور والمشاهد ونتجاهلها، إمعانا في حب أنفسنا.
فالمسلم يجب عليه اليوم هو أن يجدد صلته بمفهوم «الجسد الواحد»، الذي لا يهنأ بعضه إذا اشتكى بعضه الآخر، الذي ذكره الرسول الكريم في الحديث الشريف، فيجب أن يلهج قلبنا بالدعاء لإخواننا، وأن نقوم بخطوات عملية من خلال الإغاثة المالية عبر القنوات الموثوقة، والضغط السياسي عبر منابر الرأي، والتبرع، والصيام التضامني، والمشاركة الإعلامية المستمرة، فهي مسؤوليات دينية قبل أن تكون إنسانية.
بعدها يقول ربنا في سورة الفجر: «وَتَأكُلُونَ لتُّرَاثَ أَكلا لَّما (19) وَتُحِبُّونَ لمَالَ حُبّا جَمّا (20)»، وهذا توصيف دقيق للمجتمعات التي تراكم المال وتسرف، بينما على الطرف الآخر من العالم، يموت الأطفال من الجوع.
ثم تنتقل أيات سورة الفجر إلى التحوّل الأخروي، فتصفع كل ضمير غافل، فيقول ربنا جل وعلا: « كَلَّا إِذَا دُكَّتِ لأَرضُ دَكا دَكّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَلمَلَكُ صَفا صَفّا (22) وَجِاْيءَ يَومَئِذ بِجَهَنَّمَ يَومَئِذ يَتَذَكَّرُ الإِنسَنُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكرى(23) يَقُولُ يَلَيتَنِي قَدَّتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَومَئِذ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَه أَحَد (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد (26)»،
حين تتزلزل الأرض، وتتلاشى الحدود، ويكشف المستور، ستعرض غزة من جديد، على ميزان الله، فكم منا سيقولها حين يكتشف أنه رأى أهل غزة يموتون جوعًا، ولم يتحرّك «يا ليتني قدمت لحياتي» سيصاب بهذه الحسرة لأنه صمت حين وجب الكلام، وبخل حين وجب العطاء.
وفي الختام يقول الله عز وجل لأصحاب النفس المطمئنة من أصحاب المأساة الدنيوية، ومن أعانهم ابتغاء لمرضاة الله: « يَأَيَّتُهَا لنَّفسُ لمُطمَئِنَّةُ (27) رجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة مَّضِيَّة (28) فَدخُلِي فِي عِبَدِي (29) وَدخُلِي جَنَّتِي (30)».