بوابة الوفد:
2025-05-18@16:21:40 GMT

تقرير أخير عن السيدة «راء»

تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT

جلبة غير عادية فى المقهى هذا اليوم .. خلق كثير جاءوا من بعيد ليشهدوا ما سوف يحدث فى المساء ، يتحرك النادل العجوز ومساعده الصبى الصغير بخفة بين الموائد يعيد ترتيبها ورصها على شكل صفوف دائرية فى متتالية عددية صف أول ، صف ثان، وفى المنتصف وضع منضدة عتيقة أعدت خصيصاً لتجلس عليها السيدة «راء» ، مليئة بنقوش وأدعية وأعلام بأحرف عربية وآرامية وأمازيغية تنتمى لجغرافيا العالم العربى وتاريخه ، كما وضع على المائدة حزمة من الكتب بالأنجليزية والأندلسية ومخطوطات ودواوين شعر فلسطينية .


على كل مائدة باقة من الورد الأحمر الغامق مع وردتين بنفسجتين ووردة صفراء ، فلازال النادل العجوز يؤمن بالحب والألم والفراق .
أجلس كما أنا على مقعدى الأثير فى الزاوية البعيدة التى تطل على أطراف محطة الحياة المترامية ، أنتظر بشغف قدومها البهى بعد مرور عشر سنوات على مغادرتها حياتنا الفانية فى عام 2014 ، فعلى الرغم من عدم ظهورها حتى الأن ، الا ان مع أنتصاف ساعات النهار أصبح المقهى مكتظ مابين مفارق ومودع .. 
رجعت إلى الخلف قليلاً مستندة إلى الحائط الأخضر من خلفى وتذكرت وصف زوجها ورفيق رحلتها الشاعر الكبير « مريد البرغوثى « لها فى قصيدة تعد من أجمل ماقرأت عن الحب بين أسطورتين عاشوا معاً سبعة وأربعين عاماً من الأبداع والمقاومة لكل زيف تاريخى ، وفى نضال من أجل الحق وأسترجاع الأرض المسلوبة بتدوين حكايات المهمشين والبسطاء والنقل عنهم بالشعر والرواية والترجمة .
لخص فى هذه القصيدة  شاعرنا الكبير « مريد البرغوثى « قصته مع القاصة والروائية و الناقدة الأدبية وأستاذة الأدب الأنجليزى « رضوى عاشور « أو السيدة راء» ، التى بدأت على سلالم مبنى قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، هذه اللحظة الجياشة المليئة بالعواطف المتباينة، هو يجهر بالشعر لأصدقائه، وهى فى طريقها للمحاضرة متحمسة لمستقبلها، فتقف لتستمع وتعجب، ويتوقف قلبها وعقلها عند هذا الفتى الفلسطينى زميل الدراسة الذى لن تفارقه بعد الآن وحتى رحيلها . يقول « مريد « لرضوى « مع حفظ الألقاب لكل منهما :
أنتِ جميلة كوطن محرر
وأنا متعب كوطن محتل
أنتِ حزينة كمخذول يقاوم
وأنا مستنهض كحرب وشيكة
أنتِ مشتهاة كتوقف الغارة
وأنا مخلوع القلب كالباحث بين الأنقاض
أنتِ جسورة كطيار يتدرب
وأنا فخور كجدته
أنتِ ملهوفة كوالد المريض
وأنا هادىء كممرضة
أنتِ حنونة كالرذاذ
وأنا أحتاجك لأنمو
كلانا جامح كالانتقام
كلانا وديع كالعفو
أنت قوية كأعمدة المحكمة
وأنا دهش كمغبون
وكلما التقينا تحدثنا بلا توقف ، كمحامييْن عن العالم.
حانت اللحظة التى ينتظرها الجميع منذ الصباح الباكر ، فقد جاءت بخطوات بطيئة ولكنها ثابتة  السيدة «راء» مستندة على ذراع ولدها الشاعر الجميل « تميم مريد البرغوثى « ، وهو يدفع عنها الجمع الغفير مردداً مرثيته الشهيرة يوم رحيلها : 
فِى سَطْرِ، أَوْ أَرْبَعْ سُطُورْ
أسْمِكْ يَا أُمِّي
إِسْمِ رَضْوَى مُصْطَفَى مْحَمَّدْ عَاْشُورْ
عِشْنَا سَوَا ثَلاثِينْ سَنَةْ وْسَبْعَة،
أَبُوها وْأُمَّها عَاشُوا مَعَاهاْ أَقَلِّ مِنِّي،
وَاْنَا مَا عِشْتِشْ مَعْ بَنِى آدَمْ سِوَاها قَدَّها وَلاْ حَتَّىْ اْبُويَا.
تجلس خلف المنضدة العتيقة تحوطها هالة من النور الملائكئ ينبأ بمصيرها فى الدار الأخرة ، تقول بصوت حانى للمتحولقين حولها : “ كأن الأيام دهاليز مظلمة يقودك الواحد منها إلى الآخر فتنقاد لا تنتظر شيئا ، تمضى وحيدا وببطء ، لا فرح لا حزن لا سخط لا دهشة أو انتباه ثم فجأة وعلى غير توقع تبصر ضوءا ، ثم تتساءل هل كان حلما أو وهما ، وتمشى فى دهليزك من جديد ..”
ثم بعد صمت ابتسمت وكأنها تراجع حياتها فى دنيانا قائلة : “ أبدو هشة كورقة خريف أسلمت نفسها للهواء قبل أن تستقر على الأرض، كيف ناطحتُ إذن؟ ” ، وقالت ... ، وقالت ....
لا أدرى كم مر من الوقت وأنا مستمتعة بهذا الوصل الإنسانى، خاصة حينما رفع الحضور الكفوف فى نفس اللحظة داعين فى تضرع بالرحمة والمغفرة لزوجها الشاعر الكبير « مريد البرغوثى « الذى لم يتحمل فراقها أكثر من سبع سنين عجاف ولحق بها عام 2021 ، حينما شاهدوه يدخل المقهى ويجلس بجوارها ممسكاً بيدها وهى تحكى قصتهما معاً فى الحياة .

المصدر: بوابة الوفد

إقرأ أيضاً:

وداعاً أيها الشاعر الذي أزعج الظالمين والقتلة والفاسدين كثيراً ..!

بقلم: فالح حسون الدراجي ..

غيب الموت نهار اليوم الخميس، الشاعر البابلي الجميل موفق محمد بعد أزمة صحية لم تمهله طويلاً للأسف ..

أكتب هذا المقال وطعم الفجيعة المر يملأ فمي، وسواد الحزن يغطي كل مسامات روحي، ليس لأن بيني وبين هذا الشاعر الجميل وداً فحسب، إنما لأن القصيدة العراقية فقدت شاعراً استثنائياً لا يتكرر، وحين أقول ( شاعراً لايتكرر)، فإنا أعني وأقصد تماماً ما أقول..

فهذا الشاعر الذي يكتب بشكل ولون مميز وخاص، سواء من الناحية اللغوية، أو الفنية، أو الأسلوبية، حتى لتحار في نوعية قصيدته: أهي قصيدة عاملة وشعبية أم قصيدة فصحى؟

وفي هذا اللون لا يتشابه معه سوى الشاعر الراحل گزار حنتوش..

أما عن جرأة موفق محمد

وشجاعة قصيدته، فحدث بلا حرج، ولا تسألني عن تفرده وتميزه في قول ما يريد قوله دون خوف من أحد، أو التفكير بالنتائج، وما يترتب على ما سيقوله من نقد قاس ولاذع بحق السلطة الحاكمة، وفساد الطبقة السياسية، أو بحق من يراه سبباً في دمار العراق وإفقار شعبه الأبي.

وفي هذه الجرأة أجزم أن موفق محمد كان يغرد وحده بعيداً عن الأسراب الشعرية والفنية الأخرى.

وهنا سأعترف لموفق محمد وأقول له، كثيراً ما كنت أتساءل مع نفسي متعجباً : ألا يخاف هذا الرجل على حياته وهو يعنف الحيتان بكل هذا التعنيف، ويرزل الأقوياء بكل هذه الرزالة..

ألا يخشى ( الكاتم) مثلاً، حين يتحدى عصابات الشر كل هذا التحدي، أو حين ينتصر للفقراء والمظلومين والمحرومين والمهمشين ضد جميع مستغليهم، وهو الذي لا يملك في بيته حتى (مسدس فالصو )، فمن أين تأتيه كل هذه القوة وهذا الجبروت الشعري والعناد الطبقي، من من يأتي العزم وتأتي الخسارة لهذا الفقير، اليتيم، الأعزل واليساري الذي ليس معه غير حب الفقراء وثقته بنفسه، وإيمانه بقضيته العادلة.. وأقصد قضيته الوطنية والتقدمية ..؟

كيف يخرج هذا الشاعر عن جادة زملائه الشعراء، فيكتب كل ما يريد بلا خوف ولا حرج حتى، لاسيما في قصائده ( الخاصة حداً) ، ولماذا لا يخاف هذا المجنون على حياته وحياة عائلته، وهو يمسح كل يوم الأرض – شعراً – بالأقوياء الظالمين والقتلة والمجرمين والمستبدين، ويجلدهم بقصائده ولسانه اللاذع .. كيف يجرؤ هذا الكائن الرقيق على الوقوف عارياً إلا من ورقة توت الشعر، فيتبول على رؤوس ووجوه الفاسدين بلا استثناء، بدءاً من أبطال صفقة القرن وليس انتهاء بمن وقف خلفهم من الزعماء والقتلة العتاة دون ان يرمش له جفن، كيف.. وهو الذي لا تقف خلفه سلطة ولاحزب مسلح أو ميليشيا أو قبيلة أو حتى أصدقاء متنفذون،

كيف بربكم كيف ؟

اليس لهذا الشاعر الباسل الحق في ان يبكيه الفقراء والشعراء والمظلومون.. ؟لقد اردت الحديث فقط عن هذه الجزئية المهمة في شعره وفي شخصيته، وهي حتماً جزئية متماسكة مع جزئيات أخرى في حياته ومزاجه وثقافته وتفكيره، وإلا ما مان سيمضي في هذا الطريق الخطير والصعب كل هذه السنين الطويلة.. نعم لقد أردت الحديث اليوم عن جرأته الفذة، وعن جسارته الشعرية الاستثنائية دون غيرها، لأنها الميزة التي تستحق الحديث أكثر من غيرها.. وأظن ان الناس الذين بكوا اليوم موفق محمد حزناً على رحيله وفراقه أولاً، بكوا عليه أيضاً لأنهم أدركوا بحساسيتهم المدربة والمجربة أن لا شاعر غيره سيفعل فعله، ولا أحد غيره سيشتم علناً القتلة، أو شاعر مثله ينال من الفاسدين ويفضحهم شعراً ونثراً ونكاتاً حتى !!

لذلك وجدت إن التعريف بتاريخ ومنجز هذا الشاعر غير ضروري اليوم بقدر الضرورة التي يوفرها التذكير بجرأته وبسالته وانحيازه الصارخ للفقراء، كما اعتقد أن الرجل ليس محتاجاً للتعريف بمنجزه الإبداعي ، فمن كان مثله لايحتاج قطعاً إلى تعريف.

أخيراً أقول ومعي جميع الشعراء والفقراء والمحرومين: وداعاً موفق محمد، وداعاً أيها الشاعر الشجاع الذي سيفتقده المظلومون كثيراً، ويفرح لرحيله الظالمون كثيراً ..

فالح حسون الدراجي

مقالات مشابهة

  • الشعبة الجزائية تمنح خلية التخابر البريطانية فرصة أخير لتقديم دفوعاتهم
  • الشِعر.. بين الإبداع الإنساني والتحدّي الرقمي
  • بعد غناء عمرو دياب معرفش حد بالاسم دة.. أيمن بهجت قمر يعلق: أخيرًا غنيتها
  • متحدث الوزراء: تطوير شامل وتعويض المتضررين بمنطقة السيدة عائشة
  • الحكومة تكشف مفاجأة للمتضررين من تطوير منطقة السيدة عائشة.. فيديو
  • إزالات عقارات وتعويضات.. رئيس الوزراء يتابع تطوير منطقة السيدة عائشة
  • عاجل- الوزراء يتفقد كوبري السيدة عائشة
  • المجلس القومي للمرأة يشكر السيدة انتصار السيسي لرعايتها لبرنامج نور
  • مسلسل برستيج.. رحلة تائهة بين الكوميديا والجريمة
  • وداعاً أيها الشاعر الذي أزعج الظالمين والقتلة والفاسدين كثيراً ..!