جلبة غير عادية فى المقهى هذا اليوم .. خلق كثير جاءوا من بعيد ليشهدوا ما سوف يحدث فى المساء ، يتحرك النادل العجوز ومساعده الصبى الصغير بخفة بين الموائد يعيد ترتيبها ورصها على شكل صفوف دائرية فى متتالية عددية صف أول ، صف ثان، وفى المنتصف وضع منضدة عتيقة أعدت خصيصاً لتجلس عليها السيدة «راء» ، مليئة بنقوش وأدعية وأعلام بأحرف عربية وآرامية وأمازيغية تنتمى لجغرافيا العالم العربى وتاريخه ، كما وضع على المائدة حزمة من الكتب بالأنجليزية والأندلسية ومخطوطات ودواوين شعر فلسطينية .
على كل مائدة باقة من الورد الأحمر الغامق مع وردتين بنفسجتين ووردة صفراء ، فلازال النادل العجوز يؤمن بالحب والألم والفراق .
أجلس كما أنا على مقعدى الأثير فى الزاوية البعيدة التى تطل على أطراف محطة الحياة المترامية ، أنتظر بشغف قدومها البهى بعد مرور عشر سنوات على مغادرتها حياتنا الفانية فى عام 2014 ، فعلى الرغم من عدم ظهورها حتى الأن ، الا ان مع أنتصاف ساعات النهار أصبح المقهى مكتظ مابين مفارق ومودع ..
رجعت إلى الخلف قليلاً مستندة إلى الحائط الأخضر من خلفى وتذكرت وصف زوجها ورفيق رحلتها الشاعر الكبير « مريد البرغوثى « لها فى قصيدة تعد من أجمل ماقرأت عن الحب بين أسطورتين عاشوا معاً سبعة وأربعين عاماً من الأبداع والمقاومة لكل زيف تاريخى ، وفى نضال من أجل الحق وأسترجاع الأرض المسلوبة بتدوين حكايات المهمشين والبسطاء والنقل عنهم بالشعر والرواية والترجمة .
لخص فى هذه القصيدة شاعرنا الكبير « مريد البرغوثى « قصته مع القاصة والروائية و الناقدة الأدبية وأستاذة الأدب الأنجليزى « رضوى عاشور « أو السيدة راء» ، التى بدأت على سلالم مبنى قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، هذه اللحظة الجياشة المليئة بالعواطف المتباينة، هو يجهر بالشعر لأصدقائه، وهى فى طريقها للمحاضرة متحمسة لمستقبلها، فتقف لتستمع وتعجب، ويتوقف قلبها وعقلها عند هذا الفتى الفلسطينى زميل الدراسة الذى لن تفارقه بعد الآن وحتى رحيلها . يقول « مريد « لرضوى « مع حفظ الألقاب لكل منهما :
أنتِ جميلة كوطن محرر
وأنا متعب كوطن محتل
أنتِ حزينة كمخذول يقاوم
وأنا مستنهض كحرب وشيكة
أنتِ مشتهاة كتوقف الغارة
وأنا مخلوع القلب كالباحث بين الأنقاض
أنتِ جسورة كطيار يتدرب
وأنا فخور كجدته
أنتِ ملهوفة كوالد المريض
وأنا هادىء كممرضة
أنتِ حنونة كالرذاذ
وأنا أحتاجك لأنمو
كلانا جامح كالانتقام
كلانا وديع كالعفو
أنت قوية كأعمدة المحكمة
وأنا دهش كمغبون
وكلما التقينا تحدثنا بلا توقف ، كمحامييْن عن العالم.
حانت اللحظة التى ينتظرها الجميع منذ الصباح الباكر ، فقد جاءت بخطوات بطيئة ولكنها ثابتة السيدة «راء» مستندة على ذراع ولدها الشاعر الجميل « تميم مريد البرغوثى « ، وهو يدفع عنها الجمع الغفير مردداً مرثيته الشهيرة يوم رحيلها :
فِى سَطْرِ، أَوْ أَرْبَعْ سُطُورْ
أسْمِكْ يَا أُمِّي
إِسْمِ رَضْوَى مُصْطَفَى مْحَمَّدْ عَاْشُورْ
عِشْنَا سَوَا ثَلاثِينْ سَنَةْ وْسَبْعَة،
أَبُوها وْأُمَّها عَاشُوا مَعَاهاْ أَقَلِّ مِنِّي،
وَاْنَا مَا عِشْتِشْ مَعْ بَنِى آدَمْ سِوَاها قَدَّها وَلاْ حَتَّىْ اْبُويَا.
تجلس خلف المنضدة العتيقة تحوطها هالة من النور الملائكئ ينبأ بمصيرها فى الدار الأخرة ، تقول بصوت حانى للمتحولقين حولها : “ كأن الأيام دهاليز مظلمة يقودك الواحد منها إلى الآخر فتنقاد لا تنتظر شيئا ، تمضى وحيدا وببطء ، لا فرح لا حزن لا سخط لا دهشة أو انتباه ثم فجأة وعلى غير توقع تبصر ضوءا ، ثم تتساءل هل كان حلما أو وهما ، وتمشى فى دهليزك من جديد ..”
ثم بعد صمت ابتسمت وكأنها تراجع حياتها فى دنيانا قائلة : “ أبدو هشة كورقة خريف أسلمت نفسها للهواء قبل أن تستقر على الأرض، كيف ناطحتُ إذن؟ ” ، وقالت ... ، وقالت ....
لا أدرى كم مر من الوقت وأنا مستمتعة بهذا الوصل الإنسانى، خاصة حينما رفع الحضور الكفوف فى نفس اللحظة داعين فى تضرع بالرحمة والمغفرة لزوجها الشاعر الكبير « مريد البرغوثى « الذى لم يتحمل فراقها أكثر من سبع سنين عجاف ولحق بها عام 2021 ، حينما شاهدوه يدخل المقهى ويجلس بجوارها ممسكاً بيدها وهى تحكى قصتهما معاً فى الحياة .
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
إشراقات شعرية في «بيت الشعر» بالشارقة
الشارقة (الاتحاد)
نظّم بيت الشعر في الشارقة أمسية شعرية شارك فيها كل من الشعراء: محمد المؤيد مجذوب، طارق العباس، ومفرّح الشقيقي، بحضور الشاعر محمد عبدالله البريكي مدير البيت، وعدد كبير من جمهور الشعر الذي تنوع بين نقاد وشعراء ومحبين للغة والجمال، والذي تفاعل مع الشعراء والنصوص بحماس.قدمت الأمسية الإعلامية ريم معروف، التي استهلّت مقدمتها بكلمة ترحيبية قائلةً: «نلتقي هذا المساء في إمارةِ الثقافةِ والشعرِ والأدبِ والحرفِ.. إمارةِ الشارقةِ.. وتحديداً في بيتٍ يحتضنُ عشّاقَه ويحفظُ ملامِحَهم.. فالشعرُ هنا ليس ترفاً لغوياً بل مرآةٌ للروحِ.. ووطنٌ نلجأ إليه حين تَضيقُ بنا الأوطان».
افتتحت القراءات مع الشاعر محمد المؤيد مجذوب، الذي قدم افتتاحية لقراءاته بأبيات تغنّت بالصوت الشعري وقوته وقدرته على إحداث تأثير في الحياة، كما قرأ قصيدة «اللحظة التي لم تذكرها»، والتي أهداها إلى الشاعر السوداني الراحل محمد إدريس الجماع، مقدما فيها مشاعر من الوفاء والاستذكار لما مر به في حياته من آلام.
تلاه الشاعر طارق العباس، الذي غاص في تجليات الروح وتساؤلاتها، بنصوص تستنطق رؤية العالم وتداعياته، مثلما جاء في قصيدته «الليل تهمته الظلام»، وألقى نصاً آخر بعنوان «ما يراه العمى» قدّم فيه صوراً شعرية سرد عبر لغتها فلسفات الشاعر وتأملاته، فيقول: لمحْتُ سناً في المدى مُبْهَماً يخبِّرُني ما يراهُ العمى.
واختتم القراءات الشاعر مفرّح الشقيقي، الذي طرّز نصوصه بكوامن المعاني الرقيقة، ففي أحد نصوصه طرح أهمية الشاعر وترفعه واعتزازه بموهبته.
أما في نصه المعنون «شغب المرايا»، فإن الشاعر يقدم سيرة للكتابة والتماهي مع العواطف الصادقة للحظة الإبداع، وفي الختام كرّم الشاعر محمد البريكي الشعراء المشاركين ومقدمة الأمسية.