من حفرةِ البشيرِ إلى “دحديرةِ” البرهان
تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT
لقد كانت فترة حكم الكيزان للبلاد شرًّا كلها، من أوَّلِها إلى آخرها. وقد بلغت من الشر مبلغًا فاق تصوٌّرَ كلِّ متصوِّر، خاصةً في السنوات الست الأخيرة، التي أعقبت ثورة 19 ديسمبر 2018. لقد عرفنا عمليًّا عن الرئيس المخلوع عمر البشير كل الصفات الذميمة التي يمكن أن تجتمع في رئيسٍ لبلادٍ ما. كان البشير فارغ العقل، خاويَ القلب، مُعتم الروح، ميت الضمير، خَرِب الوجدان.
لم ير السودان حاكمًا مهمِلاً لا يكترث بأي شيء مثل عمر البشير. لم يكن يهتم لشيءً إطلاقًا سوى البقاء في كرسي الحكم، لا ليفعل شيئًا ينفع البلاد والعباد، وإنما ليستلذ بالسلطة وبجمع المال وبإرضاء الأقارب والمحاسيب وبنشر الفساد وتمكينه من جسد الدولة. يجري ذلك، أثناء جلسات الأمسيات في مجمع كافوري، وسط أهله وزائريه المعتادين من بطانته، ليشرب شاي اللبن باللقيمات ويثرثر مع خاصته باحثًا عن آخر النكات وغيرها من سفساف الأمور وتافهها. وحين يشبع من هذه الغثاثات ينصرف إلى ارتجال القرارات التي نتجت عنها سرقة كل ما تملكه الدولة، بل سرقة الدولة برمتها. فأصبحت هناك دولة البشير وبطانته ومن يحرسونه؛ كمليشيا الجيش ومنظومة الأمن والشرطة وغيرها من قوى التأمين المجرمة. وهناك، من الناحية الأخرى، دولة الشعب السوداني، التي أضحت قوقعةً منخورةً، غارقةً في الفقر المدقع، وفي قلة الحيلة، وفي العزلة المطبقة، وفي الاشتهار بالتخلف والعجز، وفي انغلاق الأفق.
وما أن خرجنا من كابوس البشير الطويل، حتى أمسك بتلابيبنا كابوسٌ آخرٌ، هو بكل المقاييس، أسوأُ واقبحُ وأنكأُ من كابوس البشير ورهطه. فحين عجزت قوى الثورة من أن تخلف البشير خلافةً كاملةَ الأركان، على دست الحكم، بسبب قلة خبرة من تصدُّوا لقيادتها، وبسبب ميلهم للمساومات الفجة، وابتعادهم عن جمهور الثورة، خلا الميدان لكي يخلف البشير من هو أسوأ منه، ألف مرة. فنتيجةً لحالة عجز الثورة عن ملء الفراغ الذي خلقته مختلف الأسباب والظروف، لم يكن هناك مناصًا من أن يخلف البشير، من هو أسوأ، وأقل كفاءةً منه. وهكذا وصل عبد الفتاح البرهان إلى دست الحكم، بلا فكرة، وبلا رؤية، وبلا مشروع. وصل فقط، بشهوةٍ عارمةٍ للسلطة والثروة، فاقت شهوة البشير آلاف المرات. بل، ومع لامبالاة بأحوال الناس، بل وبأرواحهم ودمائهم، فاقت ما لدى البشير أضعافًا مضاعفة. وها هي الحرب، كما قال زهير في معلقته: "إلّا مَا علمتمْ وَذُقتُمُ .... وَما هوَ عَنها بالْحَديثِ الْمُرَجَّمِ، تقف شاهدًا على كل ذلك.
لم يتخبط حاكمٌ قط، مدفوعًا بسببٍ منحصرٍ في شهوتي السلطة والثروة، في كامل التاريخ السوداني، كما تخبَّط هذا الشخص ذو التركيبة النفسية بالغة الغرابة، المُسمَّى: عبد الفتاح البرهان. ولم يسرف حاكمٌ قط، في الولوغ في دماء السودانيين الأبرياء كما فعل. ولإنعاش ذاكرة أصحاب الذاكرة القصيرة والانتقائية، أجد من الضروري إعادة القول عن مجزرة فض اعتصام القيادة، التي جرى فيها قتل الشبان بوحشية بالغة وبتشفٍّ. وجرى فيها اغتصاب البنات في مسجد جامعة الخرطوم. كما جرى فيها رمي الأحياء من الشباب في النيل وأرجلهم مربوطة على أثقال خرسانية. ولا بد، أيضًا، من التذكير بقنص الشبان والشابات المتظاهرين السلميين، على مدى شهورٍ طويلة، ببنادق القنص ذات المنظار، بالغة الدقة، من على أسطح البنايات العالية، حتى تجاوزت أعداد من جرى إحصاؤهم قرابة 130 فرد. وقد كان القناصون يتعمَّدن أصابة المتظاهرين في الرؤوس والصدور، إضافةً إلى الدهس المتكرر للمتظاهرين بسيارات القوى الأمنية. وحين لم يؤتِ كل ذلك أُكلَه، وأوشك الاتفاق الإطاري أن يمنع البرهان وكيزانه التحكم في الفترة الانتقالية القادمة، مثلما فعلوا عقب الوثيقة الدستورية، أشعل البرهان هذه الحرب اللعينة التي لم يشعل مثلها، قط، حاكمٌ ضد شعبه بأكمله، مهما كانت درجته من الجنون أو اللامبالاة.
والآن، فإن طائرات الأنتونوف تلقي، بأوامر البرهان، البراميل المتفجرة، وبصورةٍ يوميةٍ، هادمةً البيوت على رؤوس المواطنين الأبرياء؛ في الخرطوم، وفي الجزيرة، وفي النيل الأزرق، وفي كردفان، وفي دارفور. كما يواصل البرهان تكوين الميليشيات القبلية ويزكي نيران الكراهية العرقية لينتصر في حربه هذه، التي توشك أن تنهي عامها الثاني. بل، إن بعض الميليشيات التي يصل عددها قرابة العشر في شرق السودان، يُجري تدريبها داخل الأراضي الإريترية. وقد حدث قبل بضعة أيامٍ احتكاكٌ بين ما تسمى "حركة تحرير شرق السودان" وبين الجيش، الذي قالت إنه حاول منع الآلاف من جنودها دخول البلاد بعد أن شاركوا في احتفالاتٍ جرت في دولة إريتريا! وكانت ميليشيا "الأورطة الشرقية" التي يقودها الأمين داؤود قد عبرت الحدود قبل شهرٍ ويزيد عائدةً من إريتريا بعد اكتمال تدريبها هناك، لتنضم إلى جبهة الفاو في البطانة، التي يجري فيها الإعداد الآن للتوجه نحو الجزيرة لتحريرها، كما تزعم منصات جيش الكيزان.
من ناحيةٍ أخرى، ارتجل البرهان إجراءات بالغة الخطورة، حيث أمر بطباعة عملةٍ جديدةٍ ليست مبرئة للذمة في كامل وسط وغرب البلاد وجنوبها الجديد. كما قرر حرمان ثلثي سكان البلاد من استخراج الوثائق الثبوتية. كما وافق على إجراء امتحانات الشهادة في شمال وشرق البلاد، وحرمان ثلثي الطلاب من الجلوس لها. يُضاف إلى ذلك، تعتيم الاتصالات في كامل ثلثي البلاد، ومنع وصول الإغاثة إلى خارج مناطق سيطرته. بكل هذا وغيره، مع رفضه المستمر للتفاوض ولإيقاف الحرب والإصرار على الاستمرار في التجييش القبلي، يسوق البرهان البلاد، وبسرعة، إلى ما هو أسوأ مما هي فيه الآن. بل هو يسعى إلى تقسيم البلاد، وقد شرع في ذلك عمليًا، تسنده في مخطط التخلي عن غرب البلاد وجنوبها المخابرات المصرية. لقد سنحت الآن لمصر الفرصة التي طالما حلمت به،ا وظلت تعمل لها منذ إخراج الثورة المهدية قواتها الاستعمارية الخديوية من السودان، في نهايات القرن التاسع عشر.
نحن الآن في منعطفً تاريخي بالغ الحرج والخطورة، لم يسبق أن مرت به البلاد، منذ الاستقلال. وقد أحدث إعلام الحرب التضليلي منذ بداية هذه الحرب، ضبابًا كثيفًا مانعًا للرؤية. وهو ضبابٌ طال تأثيره عددًا من كبار المثقفين. خطة البرهان هي أن يبقى في السلطة، مستندًا على الانبطاح الكامل لمصر، وبيع البلاد ومقدراتها لها. وهو أمرٌ أنجز فيه الكثير منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021. أما الكيزان فإنهم يسيرون خلف البرهان الآن لكي يعينهم على استعادة سلطتهم واجتثاث الثورة وقواها الحية اجتثاثًا تامًّا. عقب ذلك، يتفرغون للتخلص من البرهان المهووس بالسلطة، حد الجنون. فعلى كل وطنيٍّ مبصرٍ غيور، أن يعرف بدقةٍ، الآن، أين يضع نفسه، في هذه الاصطفافات الراهنة، شديدة الالتباس، شديدة الخطر. إذ لم تعد هناك أي مساحة لمسك العصا من المنتصف. فأي وقوفٍ على الحياد الآن يعني، بالضرورة، اصطفافًا مع البرهان وقبيله، كما يعني انزلاق البلاد نحو الهاوية الأخيرة التي لا صعود منها.
elnourh@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
فليتحدث البشير ليصمت الخونة الكَذَبة وأدعياء الوطنية وسماسرة المواقف !!
فليتحدث البشير ليصمت الخونة الكَذَبة وأدعياء الوطنية وسماسرة المواقف !!
■ سيبقي يوم سقوط وتداعي دولة وزمان الإنقاذ يوماً حزيناً في يوميات ودفاتر حياتي السياسية والإعلامية .. ويوم سقوط الإنقاذ عندي يشابه يوم سقوط بغداد الجريحة عندما استباحتها عصابات المؤامرة الصليبية بقيادة التحالف الأمريكي مع أنظمة الوضاعة العربية ..
■ مع مرور الأيام وخفوت( نزوة الثورة المصنوعة) بانت شمس الحقيقة في رابعة النهار ..
أسقطوا البشير وقبله أسقطوا صدام حسين ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع حقيقة أنفسهم .. لقد كانوا أدوات لتمرير مشروع كسر القادة الشجعان وأنظمة الحكم التي تأبي بعقل جمعي أن تمشي في ركاب الجهلة والقطيع ..
■ نعم إرتكب البشير أخطاء وخطايا طيلة سنوات حكمه .. وكذلك القائد المهيب صدام حسين .. نعم أخطأ البشير وأخطأ صدام لكنهما لم يرتكبا خيانة في حق شعبيهما وأمتهما العربية والإسلامية .. كانا وفيين للخرطوم وبغداد والقدس وغزة ..قالا لا عندما رضي قادة وملوك بنعم الذليلة .. آثروا سلامة الكرسي والقصر فلم يهنأوا براحة الضمير ولا هناءة الجلوس علي العرش !!
■ سقطت الإنقاذ لأن مؤامرة ومطامع الصف القيادي كانت أقوي من خيارات المكتب القيادي وخيانة مجموعة البحث عن العَرَض القريب والسفر القاصد كانت أكثر مكراً وتدبيراً من صف الجماعة المتداعي بهوانه علي الجماهير وتكسُر النصال علي النصال !!
■ سقطت الإنقاذ لأن إرث وكسب التجربة قد هان علي أصحابه شيباً وشباباً من جيل أصلب العناصر لأصلب المواقف .. وفي ذكري الإنقاذ يتلفت السودانيون بمختلف ألوان طيفهم السياسي والإثني والثقافي ليجدوا أن الإنقاذ تركت في إرشيف تاريخ البلاد إرثاً مادياً ومعنوياً يصعب تجاوزه وإن أبي المكابرون والناقمون علي تجربة الإنقاذ برمتها وإن كانت مبرأة من كل عيب ..
■ سقطت الإنقاذ لأن سنة التاريخ وخط سير الحضارات لاتُحابي أحداً لأنه لم يُكتب لعهد أو نظام أو حزب أو جماعة الخلود ..ومع هذا فإنه من عظمة عهد الإنقاذ أن ذكري إندلاع ثورته وانقلابه لا تنفك عن ذكري سقوطه وزوال سطوته!!
■ ومابين ذكري النهوض والسقوط لايزال كثيرون ممن صنعوا الأحداث وكانوا شهوداً علي التاريخ صامتين .. ومنهم من قضي نحبه ومات بأسراره ..
■ إن من حق الشعب السوداني علي الرئيس البشير أن يقول كلمته لله ..ثُمّ للتاريخ ..
■ فليتحدث البشير .. الرئيس الذي وضعته تصاريف الأقدار في وجه أحداث وتحولات عاصفة .. ليته يتحدث ليصمت سماسرة المواقف والأدعياء الكذبة !!
عبدالماجد عبدالحميد
عبد الماجد عبد الحميد