الأفول الفرنسي في أفريقيا.. قراءة في الأسباب
تاريخ النشر: 26th, January 2025 GMT
هيمن المستعمر الفرنسي على مناطق شاسعة من القارة الأفريقية بعد غزوها في القرن السابع عشر الميلادي؛ فيما عُرف ببداية مرحلة الاستعمار الأوروبي للقارة السمراء الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية المتنوعة ذات الوفرة.
استخدمت فرنسا أبشع أنواع العنف والتنكيل بالشعوب الأفريقية التي وقعت فريسة لها، وتلظّت بنير عسفها وجورها وتسلّطها غير المسبوق، الذي تميزت به المدرسة الاستعمارية الفرنسية عن غيرها من مدارس الاستعمار الأوروبي الحديث.
اتخذت فرنسا منهجًا استعماريًا خاصًا بها، أصبح مدرسة لها خصائصها التي عُرفت بها، تلتقي في بعض ملامحها مع مناهج الاستعمار بصفة عامة، وتختلف بتميز الطابع الفرنسي الخالص الذي يقوم على مقومات عديدة، منها:
استخدام القوة المفرطة، والعنف والقسوة، والإبادة ضد الشعوب المُستعمَرة. الإدارة المباشرة للمناطق التي تستعمرها بقوتَي الحديد والنار. تدمير الهوية المحلية والقضاء على لغة الشعوب المحلية التي تقع تحت سيطرتها، وإحلال اللغة الفرنسية حتى يسود مشروع فرنسا الاستعماري الذي عُرف بـ"الفرانكفونية"، أي الدول أو الشعوب الناطقة بالفرنسية من غير الفرنسيين. مسخ عقل أفريقيّ اللون والعرق، وتحويله إلى فرنسي الفكر والهوى والتبعية. استنزاف ثروات الشعوب المستعمرة وتوظيفها في ازدهار فرنسا وبناء قوتها العسكرية والاقتصادية. قمع حركات المقاومة وارتكاب المجازر، وإطلاق حملات تنصير كبيرة لتحويل أفريقيا إلى قارة مسيحية. إفقار الأفارقة وإبقاؤهم تحت نير الثالوث الاستعماري: "الجهل، والفقر، والمرض". إعلان ما بعد الحرب العالمية الثانيةاستمرت فرنسا في حملات الإبادة والقمع للشعوب الأفريقية منذ بدايات استعمارها لأوطانهم، وارتكبت خلالها أبشع صور الإبادة لحركات المقاومة، وخاصة الإسلامية منها. وأكبر دليل على ذلك ما ارتكبته في تشاد من قتل أكثر من 400 عالم مسلم في مذبحة عُرفت بـ"كبكب" سنة 1917 ميلادية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، استقدمت فرنسا الجنود من مستعمراتها ليكونوا وقودًا في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ووعدتهم في مقابل ذلك بنيل الاستقلال إذا كسبت الحرب منًّا وكرمًا منها، لا استحقاقًا طبيعيًا لشعوب ترنو لنيل حريتها واستقلالها وتقرير مصيرها.
وانتصر الحلفاء، إلا أن المستعمر لا تُؤمَن بوائقه، فأخلفت الوعد وتلكأت وماطلت. لكنها عادت فاستجابت، مضطرة، أمام إصرار الأفارقة الذين نالوا قسطًا من التعليم في فرنسا، وعادوا للمطالبة بالتحرر والاستقلال من خلال تكوينهم جمعيات ومنظمات وأحزابًا قادها رموز من الحركات الوطنية الأفريقية مثل: لومومبا ونيكروما وغيرهما. أُجبرت فرنسا منكسرة على تلبية مطالب الشعوب الأفريقية بالحرية والاستقلال عنها في ستينيات القرن المنصرم.
مرحلة الاستقلال الصوريخرجت فرنسا من بعض مستعمراتها الأفريقية تحت ضغط حركات التحرر، التي نشطت وقدمت الكثير من التضحيات لأجل نيل الاستقلال والحرية، وتمكين أبناء البلاد من حكمها وإدارة مقدراتها، وإدخال برامج التنمية للقضاء على ثالوث ركائز الاستعمار الفرنسي: الفقر، والجهل، والمرض.
خرجت فرنسا من الباب، في الظاهر، لكنها في الحقيقة لم تخرج حقًا، وإن ظن البعض ذلك؛ بل عادت من النافذة، وذلك لعدة اعتبارات:
أن من تسلم قيادة هذه الدول هم صنيعة فرنسا الاستعمارية: ثقافةً ولغةً وأفكارًا وتبعية مطلقة. أن فرنسا ربطت مقدرات هذه الدول بالتبعية لها، وسيطرت على مواردها الطبيعية، التي استخدمتها في صناعتها التي تقدم الرفاهية لمواطنيها، وتحرم الأفارقة من عائداتها؛ ليبقوا تحت نير الثالوث الفرنسي الذي فرضته على الأفارقة. ربط اقتصاد المستعمرات الأفريقية السابقة بالفرنك الفرنسي، حتى إن بعض الدول مصارفها المركزية في فرنسا وليس في عواصمها. وهذا لا يمكن فهمه إلا أنه نوع من أنواع الوصاية على هذه الدول المتطلعة للحرية والتنمية. إعلانالسياسة الفرنسية في دول أفريقيا ما بعد الاستقلال
ترسخت السياسة الفرنسية في أفريقيا وفق منهجية استمرارية لتجذير ثالوثها القاتل للشعوب المستعبدة، والمغذي لثرواتها وقوتها على حسابها. وزاد الطين بلة، والأمر تعقيدًا وخرابًا، حين استبدلت الاستعمار المباشر بقادة الاستقلال الأوائل الذين خيم على إداراتهم الفشل والتبعية، وعدم القدرة على التخلص من ربقة الاستعمار الفرنسي في صورته الثانية.
وسرعان ما تيقنت فرنسا من فشلهم، فاستبدلتهم بقيادات أكثر تبعية وأكثر إخلاصًا لفرنسا من إخلاصهم لأوطانهم وشعوبهم، عبر انقلابات عسكرية متعاقبة بين ضباط عسكريين متصارعين على السلطة، مع جهل تام بإدارة الدولة، وغياب مفاهيم الحرية والتنمية والاستقرار؛ ما أفرز حروبًا أهلية أودت بالآلاف من الضحايا من الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، وحوّلت هذه الدول إلى مناطق إبادة ومجاعات، رغم ما تزخر به من ثروات كبيرة ومتنوعة كفيلة بازدهارها ونموها.
مرحلة الوعي الأفريقي وما قبل الانتكاسةترتب على هذه السياسة القاصرة وغير الأخلاقية ردة فعل لدى النخب الأفريقية، التي أدركت ما تمر به بلادها من تخلّف وفقر وحروب وتبعية؛ فأخذت في الدعوة إلى الخروج من تحت الهيمنة الفرنسية، التي لم تحقق استقرارًا ولم تساعد في تنمية، بل كانت هذه الهيمنة السبب الأول والمباشر لاستمرار واستقرار ثالوث الجهل والفقر والمرض.
وخلصت النخب الأفريقية إلى أنه لن تقوم لها قائمة في ظل هذا الوجود بشقيه؛ المدني والعسكري، المتمثل في وجود قواعد عسكرية في المنطقة، أصبحت غير مرغوب في وجودها؛ لأنها مصدر قلاقل أكثر من كونها مصادر استقرار.
العامل الخارجي المساعد في نكسة فرنسافي مرحلة الوعي الأفريقي بما يثقل كاهل المستعمرات الفرنسية السابقة من نفوذ يكبل حرياتها ويسلب ثرواتها، برز الحل في التخلص من هذا النفوذ وإلقائه عن كاهل هذه الدول. وصادف ذلك دخول ثلاث قوى على الخط؛ منها اثنتان قوى دولية عظمى، والثالثة قوة إقليمية صاعدة تتمدد:
إعلان القوة الدولية الأولى تميزت بالجانب العسكري (روسيا)، التي أخذت في التمدد بعد انكفائها عقب تفكك الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. بقيادة رئيسها الحالي فلاديمير بوتين، جعلت من أفريقيا هدفًا لبناء قواعد عسكرية تزاحم بها نفوذ حلف الناتو عدوها اللدود. ووجدت في حالة التبرم الأفريقي من الوجود الفرنسي فرصةً للدخول على الخط لإخراج فرنسا من مستعمراتها السابقة. القوة الدولية الثانية هي الصين، التي دخلت الساحة الأفريقية اقتصاديًا، ففتحت الآفاق أمام الأفارقة لتحسين أوضاعهم الاقتصادية، والاستفادة من ثرواتهم الطبيعية لتحقيق تنمية شاملة. القوة الإقليمية الثالثة تمثلت في تركيا، التي دخلت أيضًا على الخط اقتصاديًا وإن كان بدرجة لا تنافس الصين، وتميز وضع تركيا بوجود علاقات قديمة بالقارة الأفريقية تعود إلى أيام الدولة العثمانية في تلك المناطق. الانتكاسة والخروج غير المشرفتضافرت كل الظروف التي أذنت بانتكاسة فرنسا في القارة الأفريقية، كان أولها:
السياسة التي اتبعتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة على مدى عقود، دون اعتبار لحاجات الشعوب الأفريقية وتطلعاتها، ولا لحركة التاريخ وسنن التغيير. يقظة سياسية بين الأجيال الشابة الأفريقية، وفقدانها الأمل في تغيير السياسة الفرنسية، وإدراكها ضرورة التغيير والخروج من تحت عباءة الوصاية ثقيلة التكلفة. دخول أطراف سياسية وازنة لها طموحات سياسية واقتصادية وعسكرية ومصالح في القارة، لن تتحقق إلا بإزالة النفوذ الفرنسي.وقد حالفها الحظ في وجود التيار الوطني المناهض للنفوذ الفرنسي المسيطر على مقاليد الحياة العامة في هذه الأجزاء من القارة، الذي سرعان ما فتح أبوابه أمام دخول المشروعات الاقتصادية الصينية والتركية، وانتهى الأمر بتغلغل القوات العسكرية الروسية، وإخراج القوات العسكرية الفرنسية التي كانت جاثمة على أراضيهم؛ بحجة مكافحة الإرهاب، وغيرها من المبررات.
إعلانوكانت النهاية غير المشرفة لفرنسا بمغادرتها تلك الأراضي بضغط شعبي عارم، ولسان حال الأفارقة يردد ما تمثل به الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي حين خرجت القوات الإيطالية من ليبيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية:
و"إذا ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات هذه الدول فرنسا من
إقرأ أيضاً:
الإنجيليون في قلب دبلوماسية ترامب الأفريقية
في مشهد لافت، ظهر الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي وزوجته دينيس نياكرو في جلسة صلاة جماعية قادتها القس الأميركية باولا وايت، المستشارة الروحية للرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لم يكن حضورها مجرد طقس ديني، بل جزءا من جولة أفريقية واسعة بين 5 و17 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري شملت الغابون والكونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا، في وقت تسعى فيه واشنطن إلى دفع عملية السلام بين كينشاسا وكيغالي، والمتأزّمة بسبب الحرب في شرق الكونغو، وفق ما أورده موقع أفريكا ريبورت.
وتجسد وايت، التي تترأس "مكتب الإيمان" داخل البيت الأبيض منذ فبراير/شباط الماضي، تنامي نفوذ الدوائر الإنجيلية المحافظة في إدارة ترامب. هذا النفوذ تجاوز الداخل الأميركي ليشمل ملفات السياسة الخارجية، خاصة في أفريقيا حيث تشهد الكنائس الإنجيلية ازدهارا واسعا.
ويشير تقرير أفريكا ريبورت إلى أن ترامب اعتمد على هذه الشبكات في حملته الانتخابية عام 2016، حيث حصد 80% من أصوات الإنجيليين البيض.
ولم تكن رحلة وايت معزولة، فقد نسجت علاقات وثيقة مع قادة دينيين أفارقة بارزين مثل القس الغاني نيكولاس دنكان ويليامز، الذي يُعد من أبرز الشخصيات الكنسية في أكرا وله علاقات سياسية تمتد إلى واشنطن.
كما يرتبط دنكان ويليامز بزوجته روزا ويتاكر النافذة في دوائر التجارة الأميركية الأفريقية، والتي لعبت دورا في صياغة قانون الفرص والنمو الأفريقية "أغوا"، الذي منح الدول الأفريقية امتيازات تصديرية إلى الولايات المتحدة منذ عام 2000.
وبحسب أفريكا ريبورت، فإن حضور وايت في القصور الرئاسية الأفريقية لم يكن بروتوكوليا فحسب، بل حمل رسائل سياسية غير مباشرة من ترامب.
إعلانفقد استضافها الرئيس الرواندي بول كاغامي، على سبيل المثال، على مأدبة عشاء، مدركا أن قربها من ترامب يمنحها وزنا خاصا في أي وساطة.
أما الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني فاستقبلها على هامش حملة تبشيرية نظمها القس روبرت كايانجا، أحد أبرز حلفائها المحليين.
ورغم إصرار وايت على أن زيارتها "شخصية"، فإن توقيتها جاء وسط تحركات دبلوماسية أميركية مكثفة لإعادة إطلاق اتفاق تعاون إقليمي بين الكونغو ورواندا.
وقد حضرت بنفسها توقيع اتفاق سلام أولي في البيت الأبيض يوم 27 يونيو/حزيران الماضي، حيث قادت الصلاة عقب التوقيع، مما يعكس تداخلا غير مسبوق بين الدين والسياسة في دبلوماسية ترامب الأفريقية.
وتكشف رحلة باولا وايت إلى أفريقيا عن ملامح "دبلوماسية دينية" جديدة، حيث يتقاطع النفوذ الإنجيلي الأميركي مع مصالح واشنطن في القارة.
ورغم إصرار المستشارة الروحية على أن مهمتها روحية بالأساس، فإن حضورها في قلب الملفات السياسية الحساسة يطرح أسئلة حول حدود هذا الدور ومدى تأثيره على مسار السلام في منطقة البحيرات الكبرى.