تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

فى لحظة صامتة، حين تتوقف الكلمات عن التدفق ويتحول الحبر إلى شاهد قبر، نفقد من كانوا يشيدون العوالم بالكلمات، ونجد أنفسنا أمام غياب ثقيل يفرض نفسه على الروح قبل الورق. اليوم نرثى الكاتب الكبير والناقد والأديب مصطفى بيومي، الرجل الذى عاش للأدب والنقد، وأعطى دون أن ينتظر مقابلًا، وترك وراءه أثرًا لا يُمحى فى قلوب تلاميذه وقرائه.

فى منشوراته، كان بيومى يكتب عن الوحدة، عن الليل الطويل الذى يتسربل بالذكريات، عن الكوابيس التى تزاحم الأحلام، عن الرجل الذى يتقدم به العمر لكنه لا يزال يحدّق فى رفوف المكتبة متسائلًا: "متى أقرأ كل هذه الكتب؟". لم يكن مجرد أديب، بل كان إنسانًا يحمل همّ العالم على كتفيه، ويمنح دفئه لمن حوله، حتى عندما كان البرد يتسلل إلى قلبه دون أن يشعر به أحد.

كان مصطفى بيومى مثالًا للإنسانية والعطاء، أستاذًا لجيل من الكتّاب الذين وجدوا فيه داعمًا حقيقيًا، ومرشدًا فى دروب الأدب الوعرة. لم يكن يومًا ممن يتصدرون المشهد الصاخب، لكنه كان حاضرًا فى القلوب والعقول، حيث تُصنع المعرفة الحقيقية بعيدًا عن الأضواء المبهرة التى لا تدوم.

تحدث كثيرًا عن الاستبداد والكهنوت وتحالفهما ضد الإنسان، لكنه لم يكن واعظًا ولا خطيبًا، بل كان مفكرًا يكتب بأسلوب يضع القارئ أمام مرآة الحقيقة. كان يرى أن التركيز على الدين دون الاستبداد السياسى خلل يعمّق الأزمة، وأن التقدم الحقيقى لا يتحقق إلا بتحرير العقول من القيود المفروضة عليها، سواء باسم الإيمان أو السلطة.

كان شتاء مصطفى بيومى شتاءً خاصًا. لم يكن مجرد طقس عابر، بل كان انتظارًا أبديًا لشيء ما، لحظة نقاء يطيح بسخافات الصيف وعكاراته. كان يرى نفسه يسير فى ليلة ممطرة، يغنى "يمامة بيضا.. ومنين أجيبها؟"، كأنما يبحث عن شيء فقده منذ زمن بعيد. وربما كانت الكتابة هى اليمامة التى كان يحاول أن يمسك بها طوال حياته.

وحيدًا عاش، ووحيدًا رحل. لكن الوحدة لم تكن نقصًا لديه، بل كانت اختيارًا واعيًا، موقفًا وجوديًا يليق بكاتب يرى الأشياء تتداعى من حوله، لكنه لا يزال متمسكًا بالحبر والورق حتى اللحظة الأخيرة. فى يومياته الأخيرة، كتب: "الحياة ماسخة المذاق، والبرابرة يغزون المدينة"، وكأنه يرثى هذا الزمن قبل أن يرثيه الزمن نفسه.

وكتب أيضا يرثى نفسه: يقول جيرانه بعد موته: "كان فقيرًا بائسًا ساذجًا، لكنه رجل طيب". ولكننا نقول: كان مصطفى بيومى أعمق من أن يُختزل فى كلمات بسيطة كهذه. كان أستاذًا، أديبًا، ناقدًا، وإنسانًا حمل فى داخله حبًا صادقًا للأدب والحياة، حتى وإن بدت الحياة أقل وفاءً له مما كان يستحق.

طوبى لمن يموتون وهم يكتبون، وقد كان مصطفى بيومى واحدًا من هؤلاء. رحل جسدًا، لكن كلماته باقية، شاهدة على رجل عاش بالكلمات، ورحل بها، تاركًا وراءه إرثًا لن يُمحى.

 

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: مصطفى بيومي مصطفى بیومى بل کان لم یکن

إقرأ أيضاً:

في الطريق إلى غزة يطهر الغرب نفسه

آخر تحديث: 24 ماي 2025 - 9:24 صبقلم:فاروق يوسف هل يعلن العالم عن شعوره بالذنب لأنه لم يكتف بإدارة ظهره لأهل غزة بل ساند الحرب عليهم وقدم لها كل وسائل الدعم المادي والترويج العالمي لحكايات تلك الحرب من وجهة نظر المعتدي لا من وجهة نظر الضحية؟محت دول مثل فرنسا والسويد زمنا يناهز السنة وعدة شهور كانت فيه أشبه بالحليف الذي هو على استعداد ليكون جزءا مباشرا من تلك الحرب، لتظهر استهجانها لاستمرار الحرب التي لم يعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب يطيق سماع أخبارها من غير أن يجرؤ على الاعتراف بأنها ما كان لها أن تكون بذلك الحجم المدمر والنزعة الوحشية لولا الدعم الاستثنائي الذي تلقاه سفاحها من الإدارة الأميركية. سيقال على سبيل المغالطة إن ترامب لم يكن رئيسا يوم السابع من أكتوبر 2023. سيُقال إن دول الاتحاد الأوروبي انجرت وراء الموقف الأميركي المتطرف وهي تحت تأثير صدمة ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم. سيُقال أيضا إن طوفان الأقصى الذي يثق الغرب كله بأنه كان صناعة إيرانية قد كان بمثابة امتحان عسير للدفاع عن وجود إسرائيل باعتبارها طفله المدلل.لن يعتذر الغرب عن مساهمته في إبادة شعب أعزل ولن تكون كل التصريحات المنددة باستمرار الحرب والتي صارت تأتي من الغرب كفيلة بإعادة أسباب الحياة في بلاد ذهبت إلى الجحيم كل تلك الأقوال لا تعبّر عن رؤية سياسية عميقة في تحليلها لما حدث من انفجار، كانت غزة مساحته المباشرة لكنه في حقيقة جذوره إنما يعبّر عن حجم الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون وهم يرون أن قضيتهم تُمحى بطريقة ممنهجة، فيتم نسف كل القرارات الأممية التي تتعلق بها من أجل أن يتم تحويلها إلى مسألة إنسانية، يمكن أن تحلها منظمات الإغاثة والمعونات التي تصل إلى الفلسطينيين عن طريق إسرائيل وما من طريق آخر لها. وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد عبّرت عن خصومتها مع الشعب الأميركي من خلال سحب مساهمتها في تمويل وكالة غوث اللاجئين “الأونروا” فإن دول الاتحاد الأوروبي كانت على إطلاع مباشر على عمق الهوة التي تفصل بين ما هو سياسي وما هو إنساني. كان حضورها الإنساني قويا غير أنها ظلت عاجزة دائما عن لعب دور أساس في المسألة السياسية على الرغم من أن اتفاق أوسلو، على سبيل المثال، كان في الجزء الأكبر اختراعا أوروبيا. لم تكن أوروبا باستثناء بريطانيا على خصومة مع الفلسطينيين، غير أن ما حدث في السابع من أكتوبر قلب كل المعادلات رأسا على عقب. هناك قوى يمينية صارت تتقدم في أوروبا لتهيمن على السلطة في عدد من دولها أو تكون قريبة منها في دول أخرى. تلك قوى لا تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب مهدد بوجوده على أرضه بقدر ما تنظر إلى ما يجري باعتباره صراعا سياسيا يجب عليها أن تقف فيه إلى جانب الطرف الأقرب إليها فكان عليها أن تعمل على تصديق كل ما يقوله بنيامين نتنياهو باعتباره مرآة للواقع.

ما يفعله الغرب اليوم هو نوع من المصالحة التي يحتاجها من أجل أن يخرج من تلك الحرب القذرة نظيفا

ولذلك يمكن القول إن الطريق إلى غزة لم تكن معبدة بالنوايا الحسنة. لم يرغب أحد في أن يصدق أن حرب الإبادة التي شنها نتنياهو هي ليست حرب دفاع عن النفس تشنها إسرائيل ضد عدو كشف عن خططه لإزالتها من الوجود. لم يكن هناك تعويل على الموقف الأميركي ــ البريطاني المتضامن أصلا ومن غير شروط مع الرؤية الإسرائيلية ولكن الصادم فعلا أن تقع أوروبا طوعا في فخ العداء للشعب الفلسطيني الذي كان يعول عليها أخلاقيا وإنسانيا. كان حدثا فاجعا في دلالاته على المستوى الإنساني أن يقف الغرب كله من غير استثناء مع دولة نووية مدججة بالسلاح ومسكونة بهاجس التوسع والاستيطان ضد شعب أعزل لا يملك خيارا سوى البقاء على أرضه والذي صار بمثابة قرار تمتزج فيه المواجهة بشتى أنواع الموت. فإما أن يموت الفلسطيني قتلا تحت القصف أو يموت جوعا ومرضا وقد تمت محاصرته في بقعة ضيقة أغلقت كل أبوابها.   انتهك الغرب تاريخه الأخلاقي وقوانينه التي تحمي حقوق الإنسان ومبادئه في السلم العالمي. كل ذلك من أجل إرضاء إسرائيل في غطاء من الدعاية المضللة التي تدفع تهمة العداء للسامية بعيدا. ولكن كل شيء بدا فارغا من معناه. فحرب الإبادة لم تكن حرب دفاع عن النفس كما أن نتنياهو الذي ادعى أنه يحارب الإرهابيين قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن من غير أن يضع موعدا لنهاية حفلة انتقامه.لن يعتذر الغرب عن مساهمته في إبادة شعب أعزل ولن تكون كل التصريحات المنددة باستمرار الحرب والتي صارت تأتي من الغرب كفيلة بإعادة أسباب الحياة في بلاد ذهبت إلى الجحيم. ما يفعله الغرب اليوم هو نوع من المصالحة التي يحتاجها من أجل أن يخرج من تلك الحرب القذرة نظيفا.

مقالات مشابهة

  • رامي وحيد يحلّق عالميًا: "Living with Grandma" ينافس في مهرجان "World Film Festival"
  • في الطريق إلى غزة يطهر الغرب نفسه
  • كيف يخطط الغرب؟!
  • باحثة دولية: الرأي العام الدولي انقلب على إسرائيل لكنه غير كاف لكبح نتنياهو
  • عبد الرحيم أبو ذكرى.. أيها الراحل في الليل وحيدًا 
  • بيومي فؤاد وشيماء سيف يشاركان في “الطقاقه” بدولة الكويت
  • بناء الإنسان بالعلم : طريق طويل لكنه الطريق الوحيد
  • الرجل الخفي الذي يقرب واشنطن من أبوظبي ويقود الصفقات التريليونية.. من هو؟
  • مي فاروق في أمسية استثنائية بالأوبرا | الأول من يونيو
  • أنقذ ابنته وأحفاده ومات.. القصة الكاملة لمصرع مسن في حريق شقة بالمحلة