في خطوة اعتبرها مراقبون استمراراً لسيطرة المؤسسة العسكرية على السلطة، أثارت التعديلات المُقترحة على الوثيقة الدستورية في السودان عاصفة من الجدل، وسط مخاوف من أن تُحوِّل البلاد إلى نظام حكم هجين، يرفع شعارات الديمقراطية بينما يكرس الهيمنة العسكرية خلف واجهة مدنية هشة. جاءت هذه التعديلات بعد أشهر من المفاوضات المغلقة بين قيادات الجيش وأطراف سياسية موالية، في مشهد يُعيد إلى الأذهان انقلاب أكتوبر 2021، الذي أنهى أحلام الثورة السودانية بالإطاحة بحكم عمر البشير.



من ثورة الشوارع إلى دهاليز السلطة
لم تكن التعديلات الدستورية وليدة اللحظة، بل نتاج تراكمات بدأت مع انهيار التوافق الهش بين المدنيين والعسكر بعد الإطاحة بالبشير. فبعد أشهر من توقيع "الاتفاقية الدستورية" في 2019، والتي نصت على فترة انتقالية مدتها 39 شهراً، استغل الجيش أخطاء القوى المدنية وتفكك تحالف "قوى الحرية والتغيير"، لتنفيذ انقلاب أكتوبر 2021، مستعيداً السيطرة على السلطة بدعم من مليشيات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). اليوم، تبدو التعديلات الجديدة امتداداً لهذا المسار، حيث يسعى العسكر إلى ترسيخ وجودهم عبر أدوات دستورية تبدو قانونية، لكنها تفرغ الانتقال الديمقراطي من مضمونه.

تفاصيل التعديلات: أين تكمن المخاطر؟
تتضمن التعديلات زيادة مقاعد الجيش في "مجلس السيادة" – الهيئة الأعلى لإدارة الفترة الانتقالية – من 5 مقاعد إلى 7، بينما يُترك مقعدان فقط للمكون المدني. كما تُمنح القوات المسلحة صلاحية ترشيح رئيس المجلس وإعفائه، وهو ما يعني عملياً تحويل المجلس إلى غرفة تابعة للعسكر. وفي خطوة مُثيرة للشكوك، أُلغِيَ ذكر "مليشيات الدعم السريع" من الوثيقة، واستُبدِلَت بمصطلح غامض هو "القوات النظامية"، في محاولة لدمج هذه المليشيات – المتهمة بارتكاب جرائم حرب في دارفور – ضمن هيكل الجيش، ما يمنحها شرعية دائمة.

أما التمديد الجديد للفترة الانتقالية لتصبح 39 شهراً، فلم يُقنع الكثيرين بأنه خطوة تقنية، خاصة مع تعثر تنفيذ اتفاقيات السلام مع الحركات المسلحة في المناطق المهمشة، واستمرار الأزمة الاقتصادية التي دفعت بالجنيه السوداني إلى الانهيار، ووصل التضخم إلى معدلات قياسية تجاوزت 400%. ويُعتبر تضخم عدد الوزارات إلى 26 وزارة – بعد أن كان مخططاً تقليصها إلى 16 – دليلاً على عودة النهج الزبائني، حيث تُستخدم المناصب الحكومية كـ"هدايا" لاسترضاء التحالفات، بدلًا من بناء حكومة كفؤة قادرة على معالجة الأزمات.

المنظور القانوني: انتهاك مبادئ الثورة
يرى خبراء قانونيون أن التعديلات تنتهك روح الوثيقة الدستورية الأصلية، التي نصت على ضرورة تحقيق توازن بين السلطات، وضمان انتقال تدريجي إلى حكم مدني. فزيادة تمثيل العسكر تُعطي انطباعاً بأن البلاد تُدار عبر "مجلس عسكري مُقنَّع"، بينما يُحذر نشطاء من أن إلغاء ذكر "الدعم السريع" قد يكون مقدمة لإفلات قادتها من المحاسبة على جرائم دارفور، خاصة مع وجود مذكرة اعتقال دولية بحق حميدتي من المحكمة الجنائية الدولية.

ردود الفعل: غضب مدني وتحذيرات من عودة الاحتجاجات
لم تُخفِ القوى المدنية غضبها من التعديلات. فبينما هدَّد "تجمع المهنيين السودانيين" – الذي كان قاطرة الاحتجاجات ضد البشير – بالعودة إلى الشوارع، وصفت تحالفات أخرى الخطوة بأنها "انقلاب دستوري". لكن هذه القوى تواجه معضلة حقيقية: فضعفها التنظيمي وانقساماتها الداخلية جعلتها عاجزة عن مواجهة الآلة العسكرية المدعومة بتمويل إقليمي. في المقابل، تبدو الأطراف الموالية للجيش – خاصة بعض الموقعين على اتفاقية سلام جوبا – مستفيدة من التمثيل الواسع، لكنها تخسر شعبيتها وسط اتهامات بالتواطؤ.

الدور الدولي: صمت مُريب ومصالح متضاربة
يكشف الموقف الدولي من الأزمة عن تناقضات عميقة. فدول مثل مصر والإمارات – اللتين تربطهما مصالح أمنية واقتصادية مع الجيش السوداني – تتجاهل الانتقادات، بينما تكتفي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإصدار بيانات "قلقة" دون ضغوط فعلية. ويُفسر مراقبون هذا الصمت بخوف الغرب من دفع السودان نحو التحالف مع روسيا أو الصين، خاصة مع تردد معلومات عن مفاوضات لإنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر.

مستقبل مُظلم: هل ينزلق السودان إلى حرب أهلية جديدة؟
رغم أن التعديلات تبدو انتصاراً مؤقتاً للعسكر، إلا أنها تحمل بذور أزمة أعمق. فاستمرار تهميش المطالب الأساسية للثورة – مثل العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسات – يغذي السخط الشعبي، خاصة في المناطق المهمشة (دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق)، والتي قد تعود إلى التمرد إذا لم تُستجب مطالبها. كما أن تنامي نفوذ "الدعم السريع" داخل الجيش يُنذر بصراع على السلطة بين حميدتي وقيادات الجيش التقليدية.

خيط الأمل الوحيد: عودة الشارع
رغم المشهد القاتم، يرى بعض المحللين أن عودة الاحتجاجات الشعبية قد تكون الخيار الوحيد لإنقاذ ما تبقى من مكتسبات الثورة. ففي 2019، أثبت السودانيون أنهم قادرون على إسقاط نظام دام 30 عاماً، لكن النخبة السياسية فشلت في تحويل زخم الشارع إلى مشروع ديمقراطي متماسك. اليوم، قد تكون الفرصة الأخيرة أمام القوى المدنية لتوحيد صفوفها، واستعادة زمام المبادرة، قبل أن يتحول السودان إلى دولة فاشلة تُدار بوصاية عسكرية-مليشياوية، تُذكِّر العالم بأسوأ سنوات حكم البشير.

 

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

بالتزامن مع تجديد البعثة الأممية في السودان .. اتهامات لمصر بدعم الجيش و الإسلاميين

 

كشفت مسؤولة بمركز «العدالة الجندرية وتمكين المرأة» د. أميرة هالبرين، أثناء مخاطبتها جلسة مجلس حقوق الإنسان، عن دعم عسكري كبير تقدمه مصر للجيش السوداني وللإسلاميين في البلاد.

الخرطوم ـــ التغيير

وأكدت د. هالبرين وجود دعم عسكري كبير تقدمه مصر للجيش السوداني وللإسلاميين في السودان، و أعتبرت أن هذا الدور «المصري» المباشر يعد انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان، خاصة مع إثبات تقارير سابقة استخدام الجيش للأسلحة الكيماوية.

و جدد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جلسته أمس، ولاية بعثة تقصي الحقائق في السودان لعام إضافي، في قرار اعتمد  وأثار اعتراضاً من حكومة بورتسودان التي اعتبرته «تعدّياً على سيادة الدولة». وكان قد أيدت القرار، الذي أيّدته  دولة ورفضته 11 دولة (من بينها السودان)، و صدر  التمديد للبعثة وسط اتهامات دولية بـ«جرائم حرب» ارتكبها طرفا النزاع.

إدراج الإنتهاكات ضمن البند العاشر

ووفقاً للتصريحات المتداولة، أكدت د. هالبرين أن مصر قامت بنقل السلاح الكيماوي الإيراني إلى الجيش وللإسلاميين، وساهمت في تسليح جماعة «البراء بن مالك» المرتبطة بتنظيم القاعدة، والتي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات مؤخراً. وقالت هالبرين إن ما يقارب 8 مليارات دولار من ذهب السودان تم تهريبها إلى مصر خلال العامين الماضيين، إضافة إلى اقتطاع 6 مليارات متر مكعب من مياه نهر النيل من حصة السودان المائية، مشددة على ضرورة إدراج هذه الانتهاكات تحت البند العاشر لحماية حقوق الإنسان، وموضحة أن مدينة بورتسودان قد تحولت اليوم إلى مصدر للسلاح والإرهاب. ورغم اعتراض ممثل حكومة بورتسودان على ما ورد في هذا التقرير، سمحت رئيسة الجلسة باستمراره.

وكانت قيادات قوات الدعم السريع قد وجهت مراراً اتهامات لمصر بدعم الجيش السوداني بالطائرات والأسلحة، وهو ما نفته الخارجية المصرية بشكل قاطع.

يُذكر أن القرار الأممي أدان بشكل قاطع استمرار النزاع، وأعرب عن قلق المجلس إزاء استنتاجات البعثة التي أفادت بوجود «أسباب معقولة للاعتقاد» بأن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ارتكبا انتهاكات للقانون الدولي «قد ترقى إلى جرائم حرب»، وبأن قوات الدعم السريع ارتكبت أيضاً «جرائم ضد الإنسانية».

طالب القرار بـ«وقف فوري لإطلاق النار»، وإنشاء آلية مستقلة لمراقبته، وإصلاح البنية التحتية، والتوصل إلى حل تفاوضي للنزاع. كما أدان القرار جميع أشكال التدخل الخارجي التي تؤجج النزاع، مطالباً بضرورة احترام سيادة السودان وسلامة أراضيه ووقف الدعم المادي لطرفي الحرب. في المقابل، رحبت قوى سودانية معارضة لسيطرة الجيش، مثل «التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة – صمود» و«محامو الطوارئ»، بقرار تمديد ولاية البعثة.

الوسوماتهامات لمصر الأمم المتحدة الإسلاميين بعثة تقصي الحقائق بشأن السودان تهريب الذهب د. أميرة هالبرين دعم الجيش

مقالات مشابهة

  • الغارديان: مرتزقة كولومبيون يدربون أطفالاً في السودان للقتال بجانب الدعم السريع
  • كبد الدعم السريع خسائر فادحة.. الجيش السوداني يستعيد مواقع إستراتيجية بالفاشر
  • السودان: 12 في قصف لقوات الدعم السريع على مستشفى الفاشر
  • الجيش السوداني يسيطر على مواقع دفاعية في الفاشر وقتلى بقصف للدعم السريع
  • اشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بمدينة الفاشر
  • مجزرة في مستشفي الفاشر.. مقتل 12 شخصا وإصابة 17 آخرين في قصف للدعم السريع
  • «الدعم السريع» تقصف مستشفى الفاشر للنساء والتوليد ومقتل 12 شخصاً
  • الجيش السوداني يحقق تقدماً نوعياً في الفاشر ويسيطر على مواقع دفاعية للدعم السريع
  • بالتزامن مع تجديد البعثة الأممية في السودان .. اتهامات لمصر بدعم الجيش و الإسلاميين
  • الجيش السوداني يمد قواته في الفاشر والدعم السريع يعلن إسقاط مسيرة