منذ العصور القديمة، كان الشرق الأوسط مركزًا دينيًا وثقافيًا شكّل هويته الفريدة.

ومع بداية الألفية الجديدة، بدأت القوى الغربية، التي تحركها الصهيونية العالمية، في تبني سياسات تهدف إلى إعادة رسم حدود المنطقة من خلال مخطط يسعى إلى طمس الهويات التاريخية العميقة التي تشكل نسيجها الثقافي والديني.

ومن بين هذه الهويات، تبرز الهوية المسيحية الشرقية، وفي قلب هذا الصراع، تقف الكنيسة المصرية كحجر عثرة أمام محاولات إعادة تشكيل مكونات الهوية الدينية والثقافية للمنطقة.

تبنت القوى الغربية المتحالفة مع الصهيونية سياسة "الفوضى الخلاقة" كوسيلة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بهدف تفكيك الأنظمة السياسية وزرع الفوضى، مما أدى إلى تصاعد الجماعات الإرهابية، وانتشار النزاعات الطائفية، وتهجير المسيحيين من العديد من دول المنطقة. وكان لهذا التدمير الممنهج أثر بعيد المدى على هوية المنطقة، حيث سعت تلك القوى إلى فرض مشروع "مسار إبراهيم" كرمز ديني ثقافي يربط بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وتجسد ذلك في "بيت العائلة الإبراهيمي"، الذي رفضت الكنيسة المصرية الانضمام إليه، باعتباره محاولة لتكريس واقع جديد يخدم أهدافهم.

محاولة الترويج لمسار إبراهيم كمرجعية دينية وثقافية تجمع الديانات الثلاث ليست سوى وسيلة لتحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى"، الممتد - وفقًا لتصورهم - من النيل إلى الفرات، مستندين إلى رحلة النبي إبراهيم التي شملت عدة دول في المنطقة وصولًا إلى مصر.

يهدف هذا المشروع إلى تحقيق حلم إقامة "مملكة داوود"، استنادًا إلى الإيمان اليهودي بقدوم "المسيح الملك الأرضي"، الذي سيقيم ملكوته على الأرض ويقود "مملكة داوود".

ويتماشى هذا التصور مع الفكر المسيحي المتصهين للكنيسة البروتستانتية، التي تؤمن بمفهوم "حكم الألفية"، أي نزول المسيح في آخر الزمان لحكم العالم لمدة ألف عام. وكليهما يتفقان على أن كرسي حكم هذا الملك هو هيكل سليمان، وهو ما يتناقض تمامًا مع العقيدة المسيحية الشرقية، خاصة الكنيسة القبطية المصرية، التي ترفض هذا الفكر.

المواجهة الحقيقية بين الكنيسة المصرية والمشروع المتفق عليه بين المسيحية المتصهينة والمعتقد اليهودي تتجلى في صراع المسارات، بين "مسار إبراهيم" و"مسار العائلة المقدسة".

فوفقًا للتاريخ المسيحي، هرب السيد المسيح وأمه العذراء إلى مصر هربًا من بطش هيرودس، وتوقفت العائلة المقدسة في عدة مناطق مصرية، مما يجعل مصر نقطة محورية في تاريخ المسيحية.

هذا الأمر يتناقض مع الفكر المسيحي المتصهين والمعتقد اليهودي، اللذين يسعيان إلى ترسيخ الاعتقاد بأن القدس وحدها هي المركز الديني الأوحد وكرسي حكم "مملكة داوود" من داخل هيكل سليمان، وتهيئة الأجواء لقدوم "المسيح الملك" عبر مسار إبراهيم.

وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لم يتم حتى الآن تفعيل "مسار العائلة المقدسة" كحج مسيحي عالمي رغم أهميته في تاريخ المسيحية وذكره في الإنجيل المقدس؟ الإجابة تكمن في أن أصحاب مشروع "مملكة داوود" يسيطرون على شركات السياحة العالمية ويوجهونها بما يخدم مخططاتهم، كما أنهم نجحوا في اختراق عدد من المؤسسات الدينية في الغرب، مما جعل بعض الكنائس الغربية أداةً في خدمة هذا المشروع، متجاهلين الدور التاريخي لمصر في المسيحية.

الكنيسة القبطية لا تعترف بمفهوم "الملك الألفي" الذي تروج له المسيحية الصهيونية، حيث يتناقض مع الإيمان الأرثوذكسي بالمجيء الثاني للمسيح، وهو ما تم تأكيده في مجمع نيقية عام 325م ومجمع القسطنطينية عام 381م. حيث جاء في العقيدة المسيحية أن المسيح سيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، وليس كملك أرضي يحكم العالم. كما أن الكنيسة القبطية تدحض المعتقد اليهودي الذي لا يعترف بالمسيح الذي جاء بالفعل، إذ لا يزال اليهود في انتظار "المسيح الملك الأرضي" القادم لإقامة مملكتهم.

كان للبابا شنودة الثالث بُعد نظر استراتيجي ورؤية واضحة حول المخطط الصهيوني، فاتخذ موقفًا حازمًا ضد أي تطبيع مع إسرائيل، وأصدر قرارًا تاريخيًا بمنع الأقباط من زيارة القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا أن "القدس لن يدخلها الأقباط إلا مع إخوانهم المسلمين". وقد جعل هذا الموقف الكنيسة القبطية في مواجهة مباشرة مع المشروع الصهيوني الذي يسعى إلى تحقيق "مملكة داوود".

ومع تولي البابا تواضروس الثاني قيادة الكنيسة المصرية، استمرت هذه السياسة الوطنية، وبرز ذلك في مقولته الشهيرة: "وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن"، وهي رسالة قوية تؤكد أن الكنيسة المصرية لا يمكن أن تكون جزءًا من مشروع يهدف إلى طمس الهوية الوطنية المصرية.

كما لعب البابا تواضروس دورًا مهمًا في تعزيز علاقات الكنيسة بالأقباط في الخارج، ودعم دورهم كصوت وطني مدافع عن مصر في مواجهة محاولات التشويه والتأثير الخارجي. لم تقتصر مواقف البابا تواضروس على الجاليات القبطية في الخارج فقط، بل عمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة حول أوضاع الأقباط في مصر، مؤكدًا أن ما يتم الترويج له بشأن "اضطهاد الأقباط" هو مجرد افتراءات تهدف إلى زعزعة استقرار الوطن.

وقد أظهر الرئيس عبد الفتاح السيسي تقديره الكبير للكنيسة المصرية وللبابا تواضروس في عدة مناسبات، أبرزها حضوره احتفالات عيد الميلاد المجيد في الكاتدرائية، مما يعكس العلاقة القوية بين الكنيسة والدولة في مواجهة المخططات الخارجية التي تستهدف مصر وهويتها الوطنية.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الکنیسة القبطیة الکنیسة المصریة مسار إبراهیم مملکة داوود

إقرأ أيضاً:

ترامب : القاهرة ستشهد مراسم توقيع اتفاق وقف الحرب

أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب التأكيد على التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب على قطاع غزة، كاشفًا عن موعد تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، ومعلناً عزمه التوجه قريبًا إلى الشرق الأوسط لحضور مراسم توقيع رسمية في مصر.

وقال ترامب، في تصريحات للصحفيين خلال اجتماع عقده في البيت الأبيض، إن عملية الإفراج عن الأسرى ستجري "الإثنين أو الثلاثاء المقبلين"، مؤكداً أن مراسم التوقيع على الاتفاق ستُعقد في القاهرة، موجهاً شكره لقادة قطر ومصر وتركيا لدورهم الحاسم في إنجاح المفاوضات التي وصفها بأنها "حققت نتيجة رائعة".

وأشار ترامب إلى أن "السلام الذي ساعدنا في التوصل إليه في الشرق الأوسط سيكون مستدامًا"، مضيفاً أن "كل دول المنطقة كانت متفقة بشأن الحاجة لإنهاء الحرب"، وأن قطاع غزة سيُعاد إعماره بدعم مالي كبير من عدة دول.

وعن خسائر الحرب، قال إن حركة حماس فقدت نحو 70 ألف شخص، مشدداً على أن "هذه الحرب يجب أن تتوقف"، وموضحاً أن نزع سلاح حماس سيكون جزءاً من المرحلة التالية، بعد استعادة جميع "الرهائن"، حسب تعبيره.

ورأى ترامب أن "سلام الشرق الأوسط ممكن"، مشيراً إلى نيته خلق "مكان في غزة يمكن للناس أن يعيشوا فيه بكرامة وفي ظروف أفضل".

وعن موقفه من إقامة دولة فلسطينية، قال ترامب إنه لا يتبنى موقفاً معيناً، وإنه "سيدعم ما يتفق عليه الطرفان"، في إشارة إلى الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي.

وفي سياق متصل، كشف الرئيس الأميركي أنه وافق على إلقاء كلمة أمام الكنيست الإسرائيلي في حال طلب منه ذلك، مضيفاً: "إذا رغبوا، فسأفعل".


© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)

خليل اسامة

انضممت لأسرة البوابة عام 2023 حيث أعمل كمحرر مختص بتغطية الشؤون المحلية والإقليمية والدولية.

الأحدثترند ترامب : القاهرة ستشهد مراسم توقيع اتفاق وقف الحرب خارجية الاحتلال تصرح حول استئناف الحرب على غزة تسريبات حول زيارة "خاطفة" للرئيس الأميركي إلى تل أبيب ساعة حاسمة.. بدء جلسة "الكابينت" لبحث اتفاق غزة نصائح هامة لتجاوز أول شتوة بأمان Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • زيلينسكي: وقف الصراع في الشرق الأوسط يؤكد إمكانية إنهاء الحرب الروسية
  • زيلينسكي يهنئ ترامب على النجاح في الشرق الأوسط
  • النفط يفقد زخمه وسط ترقب لتطورات الشرق الأوسط
  • ممثلو الحكومات الأوروبية يشيدون بدور القيادة المصرية في تعزيز أمن واستقرار الشرق الأوسط
  • إنجاز تاريخي لشركة فيات في الجزائر
  • عاطف عبد الغني: شرم الشيخ أعادت رسم خريطة السلام في الشرق الأوسط
  • ترامب : القاهرة ستشهد مراسم توقيع اتفاق وقف الحرب
  • عاجل | ترامب: أنهينا الحرب في غزة
  • ترامب: هذا يوم عظيم في الشرق الأوسط
  • ترمب: هذا يوم عظيم في الشرق الأوسط وواثق من مضي نتنياهو وحماس قدماً نحو السلام