مواريث الهلالي وأصابع إبراهيميّة
تاريخ النشر: 22nd, April 2025 GMT
لم أكن أتصوّر يومًا أن نصل إلى لحظة تُطرح فيها المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وكأنها قضية قابلة للنقاش، في مجتمع يُفترض أنه مسلم، ويعلم أن أحكام المواريث وردت بنصوص قرآنية قطعية لا لبس فيها ولا مجال لإعمال العقل فيها أو الاجتهاد.
ولا أدري لماذا يتصدّر رجال دين محسوبون على المؤسسات الدينية لفتاوى في الفترة الأخيرة تثير الجدل، وتعمق الجرح أكثر مما تعالج، وتحدث صدعا أكثر مما تؤلف بين نسيج هذا البلد، وكلامي هنا مقصده الدعوى التي أطلقها الدكتور سعد الدين الهلالي، للمساواة بين الرجل والمرأة في المواريث، والحقيقة أنها لم تكن دعوة عادية بل كانت بمثابة قنبلة، ولا أبالغ إن وصفتها بأنها ذرية، فهي من وجهة نظري ليست اجتهادًا فكريًا كما يدّعي البعض، بل هو تعارض مع نصوص صريحة لحدود الله، وفتح لباب فتنة لن تغلق بسهولة، خصوصًا حين تأتي في توقيت حساس، مدعومة من مظلة مشبوهة تُروَّج اليوم لما يسى بـ«الديانة الإبراهيمية».
الأمر لم يعد مجرد رأي فردي منسوب لأستاذ جامعي، بل تحوّل إلى حملة منظمة تتقاطع فيها مصالح فكرية وسياسية، تقودها أطراف خارجية تسعى لإعادة تشكيل هوية المجتمعات العربية، ومصر في القلب منها.
والمثير للقلق أن هذه الدعوات لا تجد من يوقفها عند حدها، بل تصاحبها أذرع إعلامية خارجية تشن هجومًا شرسًا على الأزهر الشريف، المؤسسة التي ما دام كانت الحصن الأخير في وجه هذا النوع من التغريب الديني
ويشهد المجتمع المصري هذه الأيام جدلًا واسعًا بعد هذه التصريحات، خصوصا أنها تتعارض صراحة مع النصوص القرآنية القطعية التي لا تحتمل التأويل، كما ورد في قوله تعالى في سورة النساء: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين…. »، وكذلك آية: «ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع...» من السورة نفسها، ما يجعل هذه الدعوة مناقضة تمامًا لما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وقد قوبلت دعوة الهلالي برفض قاطع من الأزهر الشريف، الذي وصفها بأنها انحراف فكري وليست من قبيل التجديد أو التنوير، مؤكدًا أن هذا النوع من الدعوات لا يجوز فيه إعمال العقل لأنه يتعلق بثوابت شرعية منصوص عليها بشكل واضح.
واعتبر الأزهر أن ما صدر من الهلالي لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال تحت مظلة الاجتهاد أو التدبر.
لكن اللافت في هذا الجدل لم يكن فقط المضمون، بل التوقيت والمحيط الإعلامي المصاحب له. فقد شنت بعض الصحف التابعة لدولة عربية تروج لما يسمى بـ«الديانة الإبراهيمية» هجومًا عنيفًا على الأزهر، متهمة إياه بـ«الإرهاب الفكري» الذ يحاول إسكات الأصوات التي تنادي بـ«تجديد الفكر الديني»، في إسقاط واضح على موقفه من تصريحات الهلالي.
ولم تكتفِ تلك الصحيفة بالنقد، بل ذهبت إلى حد التحريض على الأزهر واتهامه بالسعي إلى تشكيل دولة داخل الدولة، وهو ما يثير علامات استفهام كبرى حول خلفيات هذا الهجوم.
وما زلت لا أستوعب فكرة أن من يحمل لواء التجديد والتنوير لا بد أن يكون خارج المؤسسة الدينية سواء الأزهر أو در الإفتاء، ومحاولة تصدير فكرة أن تلك المؤسسات لا تضم قامات علمية دينية قادرة على التجديد والتنوير.
ولماذا عندما يخرج رأي أو فكر شاذ يتعلق بأمور دينية نجد تكاتفا ودعما له، وإنكارا لرأي الأزهر إذا انتقد ذلك الشذوذ.
علامة استفهام كبيرة، تؤكد حقيقة واحدة أنه مطلوب منا أن نقبل تلك الدعوات الشاذة، وننحي رأي الأزهر لأنه رجعي ظلامي متخلف وهذا بخلاف الحقيقة.
ويتضح من مجريات الأمور أن المسألة لا تتعلق باجتهاد فردي من أحد العلماء، بل يبدو -ولا أتهم الدكتور سعد الدين الهلالي- أن هناك محاولات ممنهجة لفرض مفاهيم «الديانة الإبراهيمية» على المجتمعات العربية، وهي ديانة مشبوهة تهدف إلى تذويب الخصوصيات الدينية والثقافية تحت شعارات زائفة كالوحدة الدينية أو التسامح المطلق.
ومصر، بما تمثله من ثقل ديني وحضاري، تقف في مرمى هذه المحاولات، التي تسعى لاختراقها من خلال قضايا شائكة كالميراث، لتهيئة الأرضية لتمرير هذا المشروع.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد نقاش فكري أو ديني، بل هو اختبار حقيقي لوعي المجتمع المصري وقدرته على التمييز بين التجديد المشروع، والهدم الممنهج للقيم والثوابت باسم الحداثة.
ويقيني أن تلك الدعوات ستموت مثلما حدث مع فتاوى شاذة سابقة، بفضل وعي ذلك الشعب، ويقظة المؤسسات الدينية وتماسك رجالها على مر العصور.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: انحراف التسامح الهلالي وجهة نظر الشذوذ المؤسسات الدينية المجتمع المصري سعد الدين فتاوي سعد الدين الهلالي سورة النساء الدكتور سعد الدين الهلالي المساواة في الميراث
إقرأ أيضاً:
الهوية الدينية والثقافية تواجهان تحديات العولمة .. والحوار والتفاعل الإيجابي يحققان التوازن
يلعب الدين دورا حيويا في تشكيل القيم والأخلاقيات التي تحدد هوية الفرد والمجتمع. ومع تزايد التأثيرات الثقافية العالمية، يصبح من الضروري فهم كيف يمكن للدين أن يعزز الهوية الثقافية؟ وكيف يمكن للأفراد والمجتمعات التكيف مع هذه التغيرات دون أن يفقدوا جوهرهم الثقافي؟
قال الشيخ منذر بن عبدالله السيفي: «إن العلاقة بين الدين والهوية الثقافية في مجتمعنا معقدة ومتشابكة، حيث يشكل الدين جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية، ويحدد الأخلاق والمبادئ والسلوكيات. في المقابل، تتأثر الهوية الثقافية بالدين من خلال العادات والتقاليد وممارسة الشعائر، ومن المعروف أن الدين يواجه تحديات عدة في المجتمعات المعاصرة، حيث تتأثر الهوية بعوامل مثل العولمة والتغيرات الاجتماعية، الدين هو أكبر إيمان في حياة الإنسان، ويعبر عن الإيمان الذي يفسر سر الوجود، الإنسان، والكون، والحياة. لقد أدركت جميع الأمم أن قضية الهوية قضية محورية، وأن من لا ينتبه إليها سيذوب حتماً في ثقافة أخرى، مما يؤدي إلى فقدان ميزاته الخاصة، ويجب على مجتمعنا أن يحرص على هويته، وأن يكون واعيًا لأولئك الذين يحاولون تذويب هويتنا وطمس معالمها، بعيدًا عن الدين. فالمجتمع الذي يرغب في البقاء يجب أن يلتزم بهويته، ومن هنا تأتي أهمية أن تحرص كل دولة أو أمة على حماية هويتها ومواجهة غزو الثقافات الأخرى».
قيم ومعتقدات
وأضاف يلعب الدين دورًا محوريًا في تشكيل قيم الأفراد ومعتقداتهم الثقافية، من خلال تقديم إطار أخلاقي يحدد الهوية ويعزز التماسك الاجتماعي. يساهم الدين في توجيه السلوك وتشكيل القيم، بالإضافة إلى تحديد الأدوار والمسؤوليات في المجتمع. كما يوفر إطارًا لفهم العالم، ويمنح إحساسًا بالهدف والانتماء. لقد كان الدين جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية لقرون، حيث لعب دورًا مهمًا في تشكيل الثقافات والقيم الاجتماعية.
وأشار السيفي إلى أن الدين يؤثر أيضًا على العادات والتقاليد، حيث يشكل إطارًا أخلاقيًا وقيميًا يوجه سلوك الأفراد والجماعات، ويحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. يمتد تأثير الدين ليشمل مختلف جوانب الحياة، مثل التربية والزواج واللباس والممارسات الاقتصادية، وتعتبر الأعراف، كأفعال وأقوال متفق عليها من قبل المجتمع، مشابهة للتقاليد، حيث اعتاد الأفراد عليها بشكل تلقائي على مر الزمن. تعكس هذه الأعراف ثقافة المجتمع وإنجازاته الحضارية، وغالبًا ما تدخل كمصدر ومرجع في الكثير من القوانين. تختلف درجة تأثير الدين على الحياة العامة باختلاف الشعوب، وقد شهد هذا التأثير تقلبات عبر التاريخ. موضحا أن الدين يمكن أن يؤدي إلى تباين الهويات الثقافية بين الأفراد، حيث لا يقتصر الدين على كونه مجموعة من المعتقدات والممارسات الروحية، بل هو أيضًا نظام ثقافي يؤثر على القيم والأخلاق والسلوكيات.
وأشار الشيخ منذر إلى أن الدين يمكن أن يعزز التفاهم الثقافي بين المجتمعات المختلفة عبر تعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل والحوار البناء. كما يمكن أن يوفر الدين أرضية مشتركة للتعاون في القضايا الإنسانية، ويشجع على فهم وتقدير التنوع الثقافي. لا يمكن تصور وجود الهوية الثقافية دون وجود الإسلام، ولتحقيق التوازن، من الضروري تعزيز قيم التفاهم والاحترام بين الجميع وتعزيز الوعي بالثقافات المختلفة وتشجيع الحوار بين المجتمعات. علاوة على ذلك، ينبغي أن تكون القوانين والسياسات العامة شاملة، تعكس التنوع الثقافي للمجتمع، مثل ضمان حقوق الأقليات الثقافية وتشجيع مشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية، وتعزيز اللغات والثقافات المختلفة من خلال الإعلام والتعليم.
عصر العولمة
وأوضح أن الشباب يتعامل مع تأثير الدين على هويتهم الثقافية في عصر العولمة بطرق متعددة، حيث يواجهون تحديات وفرصًا متباينة. يسعى البعض للحفاظ على هويته الدينية والثقافية من خلال التمسك بالقيم والمبادئ الإسلامية، بينما يتأثر آخرون بالثقافات الأخرى ويتبنون مواقف أكثر انفتاحًا وتأقلمًا مع التغيرات العالمية. وتتسم ثقافة العولمة بخصائص معينة تجعلها قوية، حيث تُنقل عبر الوسائل الاتصالية الحديثة، وهي غالبًا ما تفرض من أعلى دون أن تعكس احتياجات محلية أو تلتزم بمضمون التراث الثقافي. تتضمن وسائل الغزو الثقافي الناعم تأثيرات الدعاية الثقافية، التي تسعى لنقل أفكار ومعلومات محددة.
تحديات
تواجه المجتمعات تحديات كبيرة في الحفاظ على هويتها الثقافية وهذه التحديات تشمل: تراجع دور الموروث الثقافي فقد يؤدي التمسك الشديد بالقيم الدينية إلى التجاهل أو التقليل من أهمية بعض جوانب التراث الثقافي غير الديني مما قد يؤدي إلى فقدان بعض الممارسات والتقاليد الثقافية، وصراع القيم فقد تنشأ صراعات بين القيم الدينية والقيم الثقافية التقليدية خاصة إذا كانت بعض الممارسات الثقافية تتعارض مع مبادئ أو تعاليم دينية معينة، والتفسيرات الدينية المتشددة التي قد تؤدي بعض التفسيرات الدينية المتشددة إلى فرض قيود على التعبير الثقافي أو الفني مما قد يؤثر على حريه الإبداع والابتكار، ويمكن لوسائل الإعلام الدينية أن تلعب دورا مهما في نشر القيم الدينية ولكنها قد تؤثر أيضا على الهوية الثقافية إذا لم يتم التوازن بين الجانبين، والجمود الثقافي الذي قد يؤدي إلى صعوبة التكيف مع التغيرات الاجتماعية مما يترتب عليه تراجع الاهتمام بالهوية الثقافية، ونقص الوعي بأهمية الحفاظ على الهوية الثقافية مما قد يؤدي إلى إهمال هذا الجانب، بالإضافة إلى محدودية الموارد فمجتمعاتنا تواجه تحديات في توفير الموارد اللازمة للحفاظ على التراث الثقافي مثل: ترميم المواقع التاريخية ودعم الكتاب والأدباء.
ويمكن استخدام الدين كوسيلة لتعزيز الهوية الثقافية دون انقسامات من خلال تعزيز الهوية الثقافية والتأكيد على القيم المشتركة والأخلاق الحميدة التي يتبناها الدين مع التركيز على الجوانب الإيجابية التي تجمع الناس بدلا من تلك التي تفرقهم وينبغي أن يكون هناك حوار مفتوح حول الدين وأهميته في تشكيل الهوية الثقافية مع التأكيد على احترام التنوع الديني حيث إن الدين له دور محوري في تشكيل الهوية الثقافية حيث يجمع بين العقيدة والقيم والتقاليد التي تشكل نسيجا متماسكا يعزز الوحدة بين الشعوب.
واختتم الشيخ منذر حديثه قائلا: «إن فهم العلاقة بين الدين والهوية الثقافية أمر بالغ الأهمية في بناء مجتمعات متماسكة ومتوازنة فالدين يلعب دورا محوريا في تشكيل الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات حيث يزودهم بقيم وأخلاقيات ومبادئ توجه سلوكهم وتفاعلاتهم الاجتماعية وأن هويتنا تكمن في الدين الإسلامي وأن فهم العلاقة بين الدين والثقافة لا يكتسب أهمية من الناحية النظرية والأكاديمية فقط بل له أهمية كبيرة من حيث التطبيقات الاجتماعية ووضع السياسات الثقافية».
وشدد السيفي على ضرورة أن يحافظ الشباب على الهوية الثقافية والقيم الإسلامية من خلال إحياء المناسبات الدينية التي تحمل في طياتها موروثات تاريخية وروحية عميقة، والحذر من الوقوع في الأفكار الهدامة المضللة التي تبثها الوسائل المعاصرة، كما حذر من التحديات الكبرى التي تواجههم مثل العولمة والتفكك الاجتماعي والتطرف الديني وتلقي الأفكار والعادات الدخيلة دون وعي أو تفكير.