دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)—أشعل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب ضجة واسعة بتصريح كتبه على منصة تروث سوشال وقال فيه: "يجب السماح للسفن الأمريكية، العسكرية والتجارية على حد سواء، بالمرور مجانًا عبر قناتي بنما والسويس! هاتان القناتان ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية"، فهل كان للولايات المتحدة الأمريكية دور في وجود قناة السويس المصرية؟ ونستعرض لكم فيما يلي ملخصا عن تاريخ قناة السويس، وفقا لموقع هيئة القناة:

Credit: MAHMOUD KHALED/AFP via Getty Images)

جذور فكرة قناة السويس وبداياتها الأولى:

من المعلوم – كما تبين كتب التاريخ – أن أول من فكر في ربط البحرين الأبيض والأحمر، بطريق غير مباشر، عن طريق النيل وفروعه هو الفرعون سنوسرت الثالث، من الأسرة الثانية عشرة، وذلك بهدف توطيد التجارة وتيسير المواصلات بين الشرق والغرب، حيث  كانت السفن القادمة من البحر الأبيض المتوسط تسير في النيل حتى الزقازيق ومنها إلى البحر الأحمر عبر البحيرات المرة التي كانت متصلة به في ذلك الوقت، وما زالت آثار هذه القناة موجودة حتى اليوم في جنيفة بالقرب من السويس.

إعادة شق القناة (610 قبل الميلاد) :

في عام 610 قبل الميلاد امتلأت هذه القناة بالأتربة وتكون سد أرضي عزل البحيرات المرة عن البحر الأحمر لافتقارها إلى الصيانة فترة طويلة من الزمان، فبذل الفرعون نخاو الثاني المعروف باسم نيقوس، غاية جهده لإعادة شق القناة، فوفق إلى وصل النيل بالبحيرات المرة ولكنه فشل في وصلها بالبحر الأحمر، وفي 510 قبل الميلاد اهتم دارا الأول ملك الفرس بالقناة، فأعاد ربط النيل بالبحيرات المرة، غير أنه لم ينجح كسلفه في وصل البحيرات المرة بالبحر الأحمر إلا بواسطة قنوات صغيرة لم تكن صالحة للملاحة، إلا في موسم فيضان النيل فقط.

ويبدأ التاريخ الحقيقي لقناة السويس من فرمان الامتياز الأول وما تلاه من فرمانات مرورا  بضربة الفأس الأولى في أعمال الحفر وصولاً إلى انتهاء أعمال الحفر (18 اغسطس 1869) والتي توجت بحفل الافتتاح في 17 نوفمبر 1869.

خريطة لقناة السويس، تمتد جنوبًا من بورسعيد على البحر الأبيض المتوسط، عبر الإسماعيلية والبحيرة المرة الكبرى إلى خليج السويس على البحر الأحمر، 31 ديسمبر 1921.Credit: Hulton Archive/Getty Images)

فرمان الامتياز الأول:

صدر فرمان الامتياز الأول الذى منح فرديناند ديلسبس حق إنشاء شركة لشق قناة السويس في 30 نوفمبر 1854 وينص هذا الفرمان في مادته الأولى على أن ديلسبس يجب أن ينشئ شركة ويشرف عليها، وفى مادته الثانية أن مدير الشركة يتم تعيينه بمعرفة الحكومة المصرية وفى مادته الثالثة أن مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبدأ من تاريخ فتح القناة، وفى مادته الخامسة أن الحكومة المصرية تحصل سنوياً على 15% من صافى أرباح الشركة، وينص هذا الفرمان أيضاً على أن رسم المرور في القناة يتم الاتفاق عليه بين الخديوى والشركة، وأن تتساوى فيه كل الدول دون تفرقة أو امتياز، وأنه عند انتهاء امتياز هذه الشركة تحل الحكومة المصرية محلها، وتستولى على القناة وعلى كل المنشآت التابعة لها.

فرمان الامتياز الثاني:

صدر فرمان الامتياز الثاني في 5 يناير 1856 وهو يتضمن 23 مادة توضح ما تضمنه الفرمان الأول من أحكام، غير أنه يلاحظ أن المواد 14 و 15 من الفرمان الثاني تؤكد بصورة واضحة حياد القناة، فقد جاء في المادة 14 "القناة البحرية الكبرى من السويس إلى الطينة والمرافئ التابعة لها مفتوحة على الدوام بوصفها ممراً محايداً لكل سفينة تجارية".

تأسيس الشركة العالمية لقناة السويس البحرية:

تأسست الشركة العالمية لقناة السويس البحرية (15 ديسمبر 1858) برأس مال قدره 200 مليون فرنك (8 ملايين جنيه)، مقسم على 400,000 سهم قيمة كل منها 500 فرنك، خصصت الشركة لكل دولة من الدول عددا معينا منها وكان نصيب مصر 92136 سهما ونصيب انجلترا والولايات المتحدة والنمسا وروسيا 85506 أسهم غير أن هذه الدول رفضت رفضا باتا الاشتراك في الاكتتاب، فاضطرت مصر إزاء رفضها، إلى استدانة 28 مليون فرنك (1120000 جنيه) بفائدة باهظة لشراء نصيبها بناء على إلحاح دليسبس، ورغبة منها في تعضيد المشروع وإنجاحه، وبذلك أصبح مجموع ما تملكه مصر من الأسهم 177642 سهما قيمتها 89 مليون فرنك تقريبا (3560000 جنيه) أي ما يقرب من نصف رأس مال الشركة.

بدء العمل في حفر قناة السويس :

في 25 أبريل 1859 بدأ العمل في حفر قناة السويس رغم اعتراضات انجلترا والباب العالي، وتدفقت مياه البحر الأبيض المتوسط في بحيرة التمساح (18 نوفمبر 1862)، وكانت وقتئذ عبارة عن منخفض من الأرض، تحف به الكثبان الرملية ويقع في منتصف المسافة بين بورسعيد والسويس، وتلاقت مياه البحرين الأبيض والأحمر (18 اغسطس 1869)، فتألف منها ذلك الشريان الحيوي للملاحة العالمية، وبذا انتهت أعمال هذا المشروع الضخم الذي استغرق تنفيذه عشر سنوات، بعد استخراج 74 مليون متر مكعب من الأتربة، وقد بلغت تكاليفه 433 مليون فرانك (17320000 جنيه)، أي ضعف المبلغ الذي كان مقدرا لإنجازه.

Credit: Evening Standard/Hulton Archive/Getty Images)

افتتاح القناة في حفل بـ17 نوفمبر 1869:

افتتحت القناة في حفل أسطوري (17 نوفمبر 1869) بحضور ستة آلاف مدعو في مقدمتهم الإمبراطورة اوجينى زوجة إمبراطور فرنسا نابليون الثالث، وإمبراطور النمسا، وملك المجر، وولى عهد بروسيا، وشقيق ملك هولندا، وسفير بريطانيا العظمى في الآستانة، والأمير عبدالقادر الجزائري، والأمير توفيق ولى عهد مصر ، والكاتب النرويجي الأشهر هنريك إبسن، والأمير طوسون نجل الخديو الراحل سعيد باشا، ونوبار باشا وغيرهم، وعبرت القناة في ذلك اليوم (17 نوفمبر 1869) السفينة "ايغيل" وعلى متنها كبار المدعوين تتبعها 77 سفينة منها 50 سفينة حربية... وأقيمت بهذه المناسبة احتفالات ومهرجانات أنفق فيها الخديوي اسماعيل نحو مليون ونصف مليون جنيه.

ما بعد الافتتاح حتى اتفاقية القسطنطينية:

في 15 فبراير 1875 اشترى دزرائيلى رئيس الوزراء البريطاني من الخديوي اسماعيل 176602 سهماً مقابل مبلغ 3.976.580 جنيه إنجليزي وهذه الأسهم المصرية المباعة كانت تمثل 44% من مجموع الأسهم وكان تعطي مصر حق الحصول على 31 % من مجموع ربح الشركة، وتنازلت الحكومة في 17 أبريل 1880 للبنك العقاري الفرنسي عن حقها في الحصول على 15% من ربح الشركة مقابل 22 مليون فرنك، وبذلك أصبحت الشركة تحت السيطرة المالية لفرنسا وانجلترا للأولى 56 % من الأسهم وللثانية 44% .

وفيما بين مايو وسبتمبر 1882 تم احتلال الانجليز لمصر في أعقاب الثورة العرابية واستولى الجيش البريطاني على مرافق الشركة، وأوقف المرور بالقناة مدة مؤقتة، وصدر تصريح من لورد جرانفيلد في 3 يناير 1883 إلى الدول الكبرى أعلن فيه أن الحكومة الانجليزية ترغب في سحب جيشها من مصر في أقرب فرصة تسمح فيها حالة البلاد بذلك، ويقترح تنظيم وضع قناة السويس بموجب اتفاقية تبرم بين الدول الكبرى.

واجتمعت في 30 مارس 1885 في باريس لجنة دولية لوضع وثيقة بضمان حرية الملاحة في القناة في كافة الأوقات ولكافة الدول، ولكن لم يتم الاتفاق على وضع هذه الوثيقة.

اتفاقية القسطنطينية (29 اكتوبر 1888) :

أبرم في القسطنطينية اتفاق بين كل من فرنسا والنمسا والمجر واسبانيا وانجلترا وايطاليا وهولندا وروسيا وتركيا بمقتضاه تم وضع نظام نهائي لضمان حرية الملاحة في قناة السويس، وارتباطا بمسألة احترام مصر لاتفاقية القسطنطينية بعثت في 17 يوليو 1957 برسالة إلى محكمة العدل الدولية، يبلغها أن مصر قد قبلت الولاية الجبرية للمحكمة طبقاً لأحكام المادة 36 من القانون الأساسي لهذه المحكمة بالنسبة لكافة المنازعات التي تتعلق بالمرور في قناة السويس.

قناة السويس والبحيرات المرة بالقرب من مدينة فايد العام 1956 Credit: Three Lions/Getty Images)

تأميم قناة السويس:

أعلن الرئيس المصري، جمال عبدالناصر في خطابه التاريخي في مدينة الإسكندرية في 26 يوليو 1956 قرار تأميم قناة السويس، ونصت المادة الأولى من القرار على "تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية (شركة مساهمة مصرية) وتنقل إلى الدولة جميع مالها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات وتحل الهيئات واللجان القائمة حالياً على إدارتها، ويعوض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكون من أسهم وحصص بقيمتها مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون في بورصة الأوراق المالية في باريس، ويتم دفع هذا التعويض بعد إتمام استلام الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المؤممة.

توسيع المجرى الملاحي وتعميقه:

عند افتتاح القناة للملاحة في السابع عشر من نوفمبر عام 1869 كان طولها 164 كيلومترا، وعرضها عند مستوى سطح المياه 52 مترا وعمقها 7 أمتار ونصف متر... وكان غاطس السفن المسموح به للعبور لا يزيد عن 22,5 قدما وكانت الملاحة لا تتم في القناة إلا نهارا فقط، واستمرت الملاحة نهارا في قناة السويس طوال 18 عاما متصلة، حتى أدخلت شركة القناة نظام الملاحة الليلية في اليوم الأول من مارس 1887.

وطوال الفترة ما بين فتح القناة الأولى وقيام مصر بتأميمها في عام 1956 قامت شركة القناة المؤممة بتنفيذ العديد من برامج تحسين وتطوير قناة السويس، وكان من نتائج هذه المشروعات، زيادة عمق القناة إلى 13 مترا ونصف المتر وزيادة عرضها عند القاع من 22 مترا إلى 42 مترا وزيادة القطاع المائي من 304 أمتار مربعة إلى 1250 مترا مربعا، والغاطس المسموح به من قدمين وربع إلى 35 قدما وبلغت جملة تكاليف هذه التحسينات 20 مليون و500 ألف جنيه مصري.

ومع استمرار تطور صناعة السفن وبناء سفن أكبر في الحجم والحمولة، ظهر الاحتياج إلى تطوير قناة السويس، وقد تم ذلك بمعرفة الشركة العالمية لقناة السويس البحرية حتى وصل غاطس السفن إلى 35 قدمًا، ومساحة القطاع المائي للقناة إلى 1200 متر مربع قبل تأميم القناة في 26 يوليو 1956.

ووصل غاطس السفن المسموح لها عبور القناة إلى 66 قدما في عام 2010، ليستوعب جميع سفن الحاويات حتى حمولة 17000 حاوية تقريبا فضلا عن عبور جميع سفن الصب من جميع أنحاء العالم.

المصدر: CNN Arabic

كلمات دلالية: قناة السويس الإدارة الأمريكية البحر الأحمر البحر المتوسط البيت الأبيض السويس جمال عبدالناصر دونالد ترامب سيناء قناة السويس البحر الأحمر ملیون فرنک القناة فی Getty Images

إقرأ أيضاً:

ترامب يدمر ريادة أمريكا التكنولوجية

من سبوتنيك في خمسينيات القرن العشرين إلى طفرة الإلكترونيات اليابانية في الثمانينيات، أعرب الأمريكيون مرارا وتكرارا عن تخوفهم من خسارة تفوقهم التكنولوجي لصالح منافسين أجانب. ولكن في كل مرة، كانت الولايات المتحدة تستجيب بمضاعفة الجهد في تعزيز مواطن قوتها -اجتذاب المواهب العالمية، والاستثمار في الأبحاث المتطورة، وتطبيق قانون المنافسة (مكافحة الاحتكار)- وكانت في النهاية تخرج أكثر قوة. بيد أن أخطر تهديد لريادة أمريكا في مجال التكنولوجيا اليوم ليس سبوتنيك آخر أو سوني أخرى؛ بل تآكل المزايا الأساسية في الداخل. ويكاد يبدو أن السياسات التي ينتهجها الرئيس دونالد ترامب مصممة لتفكيك ذات الركائز التي يقوم عليها الإبداع الأمريكي.

تتمثل الركيزة الأولى في المؤسسات البحثية الأمريكية. أثناء الحرب الباردة، دعم إجماع من الحزبين الجمهوري والديمقراطي برامج طموحة مثل برنامج أبولو ووكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة. فكان الباحثون والمحققون يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية الفكرية. نشأت طلائع شبكة الإنترنت الحديثة المبدعة -مفهوم «الحوسبة التفاعلية» الذي ابتكره جيه. سي. آر. ليكلايدر وشبكة ARPANET لتبديل الحزم- ضمن شبكية فيدرالية/جامعية غير مقيدة تربط بين جامعة ستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة كولومبيا وغيرها من الجامعات. لكن تخفيضات الإنفاق التي فرضتها إدارة ترمب قوضت هذا النموذج: تواجه ميزانيات المؤسسة الوطنية للعلوم، ومديرية العلوم في ناسا، والمعاهد الوطنية للصحة تخفيضات بنسبة 56%، ونحو 50%، ونحو 40% على التوالي.

مثل هذه التخفيضات العميقة، إلى جانب الاختبارات السياسية لانتقاء الـمِـنَـح البحثية، إلى خنق النظام البيئي الذي تعتمد عليه الاكتشافات العلمية المتقدمة. الركيزة الثانية المهمة هي الموهبة. على مدار أكثر من قرنين من الزمن، كانت أعظم ميزة تتمتع بها أمريكا هي القدرة على اجتذاب الناس من مختلف أنحاء العالم. في القرن التاسع عشر، جلب صامويل سلاتر خبرة صناعية بريطانية حَـرِجة إلى المصانع الأمريكية.

وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، أمضت عالمة الكيمياء الحيوية المجرية المولد كاتالين كاريكو عقودا من الزمن في المختبرات الأمريكية وهي تضع الأساس للقاحات الحمض النووي الريبي المرسال المنقذة للحياة. غير أن التدابير الصارمة التي فرضها ترامب على منح التأشيرات، وحظر الطلاب الأجانب، والعداء تجاه الجامعات، جعلت الولايات المتحدة أقل جاذبية للمواهب العالمية. والآن، تحتفل المؤسسات البحثية الأوروبية باجتذاب كبار العلماء من الولايات المتحدة. لقد أصبح «كسب العقول» الذي مَـيَّـزَ أمريكا تاريخيا قريبا بدرجة خطيرة الآن من التحول إلى «استنزاف للعقول». الركيزة الثالثة هي المنافسة. لم تأت الثورة التكنولوجية في أمريكا من الصناعات المحمية؛ بل جاءت من الشركات التي اضطرت إلى المنافسة مع نظيراتها، سواء في الداخل أو في الخارج. وعلى عكس اليابان، حيث فضلت سياسة المنافسة المتساهلة التكتلات الراسخة وخنقت الابتكار والإبداع، استهدف نظام مكافحة الاحتكار القوي في أمريكا الاحتكارات على نحو مستمر، وبالتالي عمل على تعزيز ريادة الأعمال. على سبيل المثال، أدى تفكيك شركة الاتصالات العملاقة AT&T في عام 1984 إلى منع شركة واحدة من احتكار شبكة الإنترنت الناشئة، فساعد هذا في خلق بيئة تنافسية سمحت بازدهار الإبداع بشكل طبيعي. لكن التزام أمريكا بالمنافسة القوية تمكن منه الضعف على نحو متزايد لعقود من الزمن. فأصبح تَـرَكُّـز الصناعات في ازدياد، وتناقص عدد الشركات البادئة، وتباطأ نمو الإنتاجية. وكما لو أن هذه الاتجاهات لم تكن سيئة بالقدر الكافي، فإذا بجدار ترامب الجمركي يعمل على التعجيل بالانزلاق، وتعمل حماية الشركات الراسخة من المنافسين الأجانب -عَـبر نظام إعفاءات غير شفاف- على تحويل السياسة التجارية إلى بازار «المال النقدي مقابل الخدمات».

وعلى هذا فقد ارتفعت نفقات جماعات الضغط المرتبطة بالإعفاءات الجمركية -لتكافئ التقارب السياسي وليس الأداء- إلى عنان السماء لتتجاوز الزيادة نسبة 277% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2025. يشير نظام الإعفاءات المُسيّس هذا إلى الانجراف نحو رأسمالية المحسوبية، والابتعاد عن السوق المفتوحة والتنافسية التي كانت تدعم الإبداع الأمريكي في السابق.

العامل الرابع هو التمويل. كان رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة -المرتكز على الأسواق العامة السائلة العميقة- هو الذي سمح لشركتي Apple وMicrosoft في سبعينيات القرن العشرين، ثم Amazon وGoogle في التسعينيات، بالتوسع بسرعة فائقة. وبحلول عام 2000، شكلت الشركات المدعومة برأس المال الاستثماري ثلث القيمة السوقية في الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل النموذج الأوروبي الذي يركز على البنوك يبدو قِـزما بالمقارنة. لكن هذا المحرك بدأ الآن يتباطأ. وسوف تعمل تخفيضات ترامب الضريبية على توسيع العجز المالي، على النحو الذي سيجبر وزارة الخزانة على اقتراض المزيد، ومن المحتمل أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة. وسوف تؤثر تكاليف الاقتراض المرتفعة على الشركات البادئة في وقت، حيث تستنزف تقلبات السوق الناجمة عن التعريفات الجمركية بالفعل شهية المستثمرين للمخاطرة. وتحذر تقارير أخيرة من أن التعريفات الجمركية وحالة انعدام اليقين أظلمت آفاق التمويل الاستثماري والاكتتابات العامة الأولية، وهذا يهدد الأسس التي يقوم عليها اقتصاد الشركات البادئة في أمريكا. الركيزة الخامسة هي الدولة المحايدة. تعلمت أمريكا أثناء العصر الـمُـذَهَّـب أن الاحتكارات غير الخاضعة للرقابة والفساد السياسي يهددان النمو. وقد استجاب الكونجرس بإصلاحات داعمة للمنافسة: فقد استعاض قانون بندلتون لعام 1883 عن المحسوبية بخدمة مدنية قائمة على الجدارة، وقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890 الذي كبح الممارسات المانعة للمنافسة. اليوم، يزداد ضَـعف هذه الضمانات المؤسسية. ومن شأن التغيير الذي اقترحه ترامب في قانون «الجدول F» أن يؤدي إلى تطهير الآلاف من الخبراء الحكوميين المحترفين واستبدالهم بموظفين موالين له، وهذا يعكس نهج الرئيس شي جين بينج في الصين (حيث يكون الولاء مفضلا على الكفاءة في كثير من الأحيان). على نحو مماثل، تهدد إدارة الكفاءة الحكومية -بقيادة إيلون ماسك- بإنتاج خدمة مدنية أقل كفاءة وأكثر عرضة للخطر من الناحية السياسية. ذلك أن وكالات مثل دائرة الإيرادات الداخلية توظف عددا هائلا من الموظفين في المقام الأول لأن قانون الضرائب الأمريكي شديد التعقيد ومليء بالثغرات. وبدون التبسيط التنظيمي، يصبح من غير الممكن الحد من البيروقراطية بشكل مجدٍ، ويتعذر تطبيق القواعد بشكل فعّال. العزاء الوحيد هو أن المنافس الرئيسي لأمريكا، الصين، تواجه هي الأخرى تحديات داخلية كبرى. فبرغم أن معظم النشاط الإبداعي في الصين لا يزال يأتي من شركات خاصة أو مدعومة من الخارج، فإن الحكومة تعمل على إعادة مركزية السلطة الاقتصادية: حيث يحابي تخصيص التراخيص والائتمان والعقود العامة على نحو متزايد التكتلات التي تتمتع بالثقة سياسيا؛ وتُـطَـبَّـق قواعد مكافحة الاحتكار بشكل انتقائي؛ وتتضاعف جهود حملة شي لمكافحة الفساد كمرشح للولاء. كما تعطلت الإنتاجية مع امتصاص قطاع العقارات المرهق لثلث الناتج المحلي الإجمالي. من ناحية أخرى، تعمل الشركات التي تفتقر إلى رعاة سياسيين أقوياء -وبينها شركة الذكاء الاصطناعي البادئة «DeepSeek»- في منطقة قانونية رمادية، كما أن قبضة الدولة المحكمة على تكنولوجيات المعلومات المهمة تستدعي رقابة أكثر تشددا من أي وقت مضى تخنق التجارب الشعبية. قد تؤمن استراتيجية «فرّق تسد» التي يتبعها شي السيطرة السياسية، لكنها تقوض اللامركزية الإقليمية التي دعمت صعود الصين بعد ثمانينيات القرن العشرين. بيد أن الديمقراطيات الليبرالية أيضا لا تضمن التقدم التكنولوجي المستمر. فالإبداع يعتمد على الانفتاح والقواعد النزيهة والمنافسة القوية. ولا يمكن اعتبار هذه الأمور من الـمُـسَـلَّمات. وفي ظل إدارة ترامب، تتدهور بسرعة المزايا التاريخية التي انفردت بها أمريكا. الواقع أن صيانة الإبداع -مصدر ازدهار أمريكا- تتطلب الدفاع بنشاط عن المؤسسات، وليس حماية الصناعات.

كارل بنديكت فراي أستاذ مشارك في الذكاء الاصطناعي والعمل في معهد الإنترنت بجامعة أكسفورد، ومدير برنامج مستقبل العمل في مدرسة أكسفورد مارتن، هو مؤلف الكتاب المرتقب «كيف ينتهي التقدم: التكنولوجيا والابتكار ومصير الأمم».

خدمة بروجيكت سنديكيت

مقالات مشابهة

  • قناة “قوت” البرازيلية تمدد بث دوري روشن حتى 2029
  • إقتصادية قناة السويس تفتتح فرع بلتون للتأجير التمويلي والتخصيم
  • رئيس اقتصادية قناة السويس: نسعى لجذب الكيانات المالية الكبرى لدعم الاستثمار بالمنطقة
  • لتحسين الواقع المائي… البدء بمشروع تأهيل قناة الري “ج 2” بمنطقة الغاب
  • رئيس جامعة قناة السويس يهنئ فريق جراحة الأورام على نجاح عملية جراحية معقدة لاستئصال ورم ضخم بالمثانة
  • ترامب يدمر ريادة أمريكا التكنولوجية
  • جامعة قناة السويس تنظم ورشة عمل موسعة لتفعيل دور القطاع الطبي في مناهضة العنف ضد المرأة
  • جامعة قناة السويس تطلق حملة توعوية شاملة بمركز مدينة التل الكبير
  • قناة عبرية: واشنطن وعدت عائلات أسرى بطلب معلومات من حماس عن ذويهم
  • تردد قناة طيور الجنة نايل سات 2025.. محتوى لأطفالك أفضل من ألعاب الهاتف