الجاحظ قبل سيمون.. نحو «جندرة عربية»
تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT
لقد ظل الحديث في الثقافة العربية المعاصرة حول موضوع المرأة ينصرف إلى فاعلية تقفز على الذات، إلى سياق يجد تمثيله في واقع غير واقعنا، ذلك أنه متصل بحوار مقحمٍ في وعينا، إنها مسألة «الجندر»، ولعل ما يؤسف له أن غالب الأفكار المطروحة هو تقليد لما يُكتب ويُبحث فيه بين مجتمعات نازعتها خصوصيتها حتى انتهت إلى القول فيها بالحل، وعلى تناولنا لما يجري هناك أصبح حديثنا مقطوعا عن التأثير المباشر في الواقع، بل يؤزمه أكثر، وليس السبب أننا معفون من هذا النوع من المشكلات، بل لأن القضية الأساس لدينا لا تتصل بالمساواة بين الرجل والمرأة، بل بمسائل أخرى ذات صلة بفهم الواقع قبل الخوض فيه، ورغم كل شيء لا تزال مجتمعاتنا تؤذي نفسها بالانصراف إلى قضاياها عبر غياب فهم تمظهراتها الاجتماعية.
فرغم تكاثر الدراسات في الغرب حول المرأة والتمييز ضدها، والاتهامات بطغيان الذكورية في النشاط الاجتماعي في: «الطبقة والحرفة والقانون...» ما أنتج تغييبا متعمدا للمرأة، ظهر أولا في إقصائها من سوق العمل بدوافع تتصل بالنوع، إلا أن ثقافتنا العربية كانت سبّاقة في التأكيد على حداثة العلاقة بين المرأة والرجل، وهي حداثة أصيلة وليست مستوردة، ولا يمكن لها أن تكون إلا كذلك، والسبب أنها نابعة مما نسميه «أصالة البنية»، فنحن أول من كشف زيف التفوق الذكوري في المجتمع، وعندما نقول نحن، فالإشارة إلى فضائنا العربي، وهو بعدُ يدبر مشاغله دون أية إملاءات مفروضة، وهي إملاءات تعتقد بأننا مجتمع لم يتشكل بعد، ولا يحق له أن يملك هُويته، ولذا ينفرط عقد الجماعة العربية لا بسبب قوة هذا الغازي الثقافي بأن يملي علينا ما يجب أن نفعل؟، وكيف ندير مجتمعاتنا، بل السبب كله في ممارساتنا مشوِّهة الأدوات، هو التغييب الكامل لبنى الوعي التقدمي في ثقافتنا العربية، فقبل سيمون دي بوفوار (1908م- 1986م) وكتابها «الجنس الآخر- 1949م» والذي فككت فيها علاقات السلطة بالمجتمع، وبينت المظلومية الأنثوية في سياق المجتمع الغربي، لتكشف كيف تم استثمار النوع لأجل تعطيل قدرات المرأة، وسحبها بعيدا عن فضاء الإنتاج في سياقاته كافة، وبحق استطاعت أن تحدِث ثورة في الوعي الغربي حينها، وقبل عالمة الاجتماع البريطانية آن أوكلي في كتابها (الجنس-الجندر والمجتمع- 1972م) وهو عمل أكثر تماسكا من الناحية المنهجية، ويعد تطورا لشكاية دي بوفوار التي أرادت فهم طبائع سلطة الذكور والتعتيم على النساء، فأوكلي توصلت إلى أن المشكلة لا تتصل بالحتمية البيولوجية بل تعود إلى سياق التنشئة، كل هذا في سياقهم، وتعد هذه الأشكال المعرفية استجابة طبيعية لشواغل حقيقية واجهت بناءهم الاجتماعي. أين المشكلة إذن؟ المشكلة تتعلق بنا نحن؟ كيف؟ دعنا نرى!
إنه وبسبب من غياب الوعي النقدي بالتراث، والانخراط في قراءات غير معرفية، تآكلت فينا قنوات الاتصال بالذات، لأن الحقيقة أن انشغالنا بهذه المسألة سابق لأعمال دي بوفوار وأوكلي، وهو أمر يشير إلى أصالة الطرح في تراثنا العربي، ذلك أن موضوعة «المرأة» في الذاكرة العربية لم تكن غائبة، بل نعرف كيف استجاب مثقفونا لقضية التطور والتغيير في المجتمع، ووضعوا بصماتهم بشكل حداثوي ذلك حتى قبل أن تتبلور هذه المسائل في سياق المدنية الحديثة، وهو أمر شبيه بما واجه نسويات العالم الغربي، ومن أكثر الأمور طرافة أن جندرتنا العربية لم تتأسس على يد النسوية، بل جاءت على يد أبي عثمان عمرو بن بحر «الجاحظ» (150 هـ - 255هـ) وهنا أشير إلى عمله «رسالة النساء» وهي عمل تحرري بامتياز إذا كنا بحاجة إلى استخدام هذا اللفظ الذي يحمل دلالات مؤسلبة للذات، فشيخنا يعد بحق مؤسسا لجندرة عربية أصيلة، جندرةٌ لا تقفز على حقائق المجتمع، بل تأتي استجابة موضوعية لمشكلاته، وآثارها المعيقة لتطور الذات الجماعية، وجهد الجاحظ أقرب إلى سياق السيسيولوجيا المعاصرة، فالرجل من حساسيته تجاه فكرة البنى في مجتمعه أنجز هذه الرسالة في القرن الثالث الهجري، لا ليمارس ترفا فكريا، بل ليعالج ما تبدى له من مشكلات في قضية «النوع» فأراد مواجهتها عبر تفكيك جذور الإشكالية، وهو أمر يشبه إلى حدٍ كبيرٍ ما قام به فيلسوف الحقائق المتوحشة ميشيل فوكو ( 1926م- 1984م) وهو يدرس أشكال الهيمنة في الفضاء الاجتماعي، ويعمل بقوة لصالح تفكيك بنى السلطة فيه، إذ شرح في كتابه «المعرفة والسلطة - 1980م» كيف يدبر الخطاب الاجتماعي قواعد سلطته على الفضاء الاجتماعي؟ وكيف أن هذه السلطة تنتج معارفها لصالح تجذير حضورها في الوعي؟ وهنا تصبح السلطة الذكورية خطابا قبل كل شيء.
أما صاحبنا وببيانه الباذخ سابقا رؤية فوكو، عبر قيامه بتفكيك خطاب السلطة الذكورية في مجتمعه، وبيان زيف التفوق الذكوري المزعوم والمخدوم باستثمار أعمى لما استقر من ترسيمات في الوعي أو تشكلات في بنية الخطاب، وهو القول إن تفوق الرجل يقوم على نقص عقل المرأة، فكتب: «وقد رأينا من النساء من يفوق عقلها عقل الرجل، ويزيد فضلها على فضله، كما رأينا من الرجال من هو دون المرأة، فليس النقص من النساء لازمًا، ولا الفضل من الرجال دائمًا - الجزء الرابع، صـ 77». والجاحظ هنا يرفض الحتمية الجندرية التي ترى الفضل يعود إلى امتياز العقلانية في الفعل، امتيازا لا يصح للمرأة الاقتراب منه، كما أنه يرفض التقسيم بين ذكر وأنثى بناءً على فروقات جوهرية، والرجل مبكرا يؤسس لفهم التمثيل الاجتماعي خارج إطاره البايولوجي، ليدخله في سياق تحليلي دارسا له في إطارٍ من نقد جعله يرفض ربط الكفاءة بالذكورة، بل رآها مسألة فردية في الأساس.
ولا تقف حداثة الجاحظ هنا فقط، بل إنه يدخل إلى المنطقة الأكثر حساسية، وهي مسألة الكفاءة السياسية للمرأة، ويؤكد أنها لا تعود إلى خصائص في «النوع» بقدر ما هي مَلكات في الذات، يتساوى فيها الرجل والمرأة، كتب يقول: «ولو كان نقصان العقل طبعًا لا يزايلهن، لما رأينا امرأة تصيب في التدبير، وتحسن الحيلة، وتبلغ الغاية، وتهزم الرجل، وتدبّر العسكر، وتحكم البلد». إنها حداثة أصيلة، وليست صدىً، فالحكم على طبائع وعي المرأة هو أمرٌ لا يتعلق بمسألة النوع، بل إن الحكمة فاعلية مشتركة بين الرجال والنساء، وكيف أن النساء هنا لسن فقط نظيرات للرجل في القدرات التي هي من ميدان فعله، بل يمتلكن التفوق عليه فيها، وهو موقف ناقد للهيمنة الذكورية.
ولأننا بصدد تقعيد أصول للجندرة العربية، فإننا لا نزال مع نصوص رسالة «النساء»، وفي نص بليغ ينبغي أن يوضع أمام كل من يهرف بتغييب المرأة في الثقافة العربية، ويصل متعبا إلى التراث لينتخب نصوصا أو يُذكِّر بأحداثٍ يعتقد فيها وعبر تأويله المضطرب أنها دالة على إقصاء المرأة، فعليه أن يقرأ ما كتبه الجاحظ حول أن عقلانية الشيء لا ترتبط بالنوع، كتب: «وفي الرجال حمقى كما في النساء عاقلات، وإنما هو تفاوت الطبائع لا تفاوت الأجناس- الرسائل- ص80».
إن الدعوة إلى انخراط فاعل في التراث، لن تسمح لنا فقط ببناء حالات من الرضا عن الذات، بل تسهم في تأصيل كثير من بنى الوعي فينا، إذ سنكون قادرين على مخاطبة أزماتنا الاجتماعية برسوخ وثبات، ما سيجعل النظر فيها ممكنا من الناحية الموضوعية لاستنباط حلولها من سياقنا الخاص، ولأننا نرى كيف ينخرط البعض في تبني منتجات السياق الغربي دون وعي ليتسبب في مضاعفة الأذى لمجتمعه، نرى بأن الحل أن يوفر العقل الاجتماعي العربي جهده لبناء أصالته، فهي فقط من ستطور أدواته لإصلاح مجتمعه لا تخريبه.
لقد عاشت مقولات الجاحظ بعده لسنوات طويلة، لكنها انقطعت عنا لغياب الصلة الثقافية بتراثنا، فها هو ابن حزم يقول في طوق الحمامة: «وقد رأيت من النساء من يفوقن الرجال في العقل والأدب والدين، كما رأيت من الرجال من هو دون النساء».
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الأونكتاد: مساهمة المرأة في التجارة العالمية لا تزال دون التقدير الحقيقي رغم التقدم المحرز
سلّط مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء الضوء على تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، بعنوان "المرأة في التجارة: لا تزال العمالة النسائية غير مقدرة قيمتها الحقيقية في الصادرات العالمية"، حيث أشار التقرير إلى استمرار الفجوة بين الجنسين في التجارة الدولية، على الرغم من بعض التقدم المحرز في هذا المجال.
مساهمة المرأة في الصادرات.. تفاوت واضح بين القطاعاتأوضح التقرير أن مساهمة المرأة في القيمة المضافة للصادرات العالمية تظل أقل من مساهمة الرجال في جميع القطاعات، لا سيما في الزراعة والصناعة، في حين تسجل نسبًا أعلى في قطاع الخدمات.
مركز معلومات مجلس الوزراء يُطلق تقرير "اتجاهات عالمية.. فرص محلية" لاستشراف المستقبل ودعم التنمية المستدامة في مصر معلومات الوزراء يرصد أبرز اتجاهات واستطلاعات الرأي العالمية حول القضايا الاقتصادية والمناخية والاجتماعيةويُعزى هذا التفاوت إلى عوائق هيكلية تشمل ضعف التمويل الموجه للنساء وقلة الفرص في القطاعات عالية القيمة، مثل التكنولوجيا والابتكار.
فجوة إقليمية لافتة بين الاقتصادات المتقدمة والناميةكشف التقرير أن الاقتصادات المتقدمة تسجل أعلى نسب لمساهمة النساء في الصادرات، حيث بلغت هذه النسبة 40%، أي ضعف النسبة المسجلة في قارة إفريقيا. أما في أمريكا اللاتينية وآسيا، فلا تزال مساهمة الرجال في القيمة المضافة تفوق مساهمة النساء بنسبة تصل إلى الضعف.
تباين بين القطاعات: الصناعة تتفوق على الزراعة والخدمات أكثر توازنًاأفاد التقرير بأن قطاع الصناعة يهيمن على الصادرات عالميًا، حيث يمثل 56% من القيمة المضافة، يليه قطاع الخدمات (42%) ثم الزراعة (3%).
وتبلغ مساهمة النساء في الصناعة بين 20% و40%، لكن هذه النسبة تصل إلى 50% أو أكثر في دول مثل كمبوديا وفيتنام وتايلاند، بسبب انتشار صناعات تعتمد على المنسوجات والملابس، التي توظف عددًا كبيرًا من النساء.
أما في قطاع الخدمات، والذي يمثل 25% من إجمالي الصادرات العالمية، فتتراوح مساهمة النساء في الدول النامية بين 2% و60%، بينما تصل إلى 30% و50% في الاقتصادات المتقدمة. ويُعد هذا القطاع من أكثر القطاعات مرونة بالنسبة للنساء ويشكل فرصة لتعزيز حضورهن في التجارة الدولية.
الزراعة: فرص واعدة ولكن بعوائق هيكليةوفيما يتعلق بالقطاع الزراعي، رغم أنه يوظف أعدادًا كبيرة من النساء في الدول النامية، فإن محدودية الوصول إلى الأراضي والتمويل والتكنولوجيا ما تزال تشكّل عائقًا أمام استفادتهن الكاملة من التجارة.
إلا أن بعض الدول مثل فيتنام وكمبوديا ولاوس سجلت مستويات مرتفعة من مشاركة النساء في القيمة المضافة الزراعية، بفضل سياسات داعمة وموجهة لهذا الغرض.
توصيات لتعزيز دور المرأة في التجارة العالميةأكد التقرير أن هناك فجوة مستمرة بين الجنسين في القطاعات القابلة للتجارة، مما يتطلب تحليلًا معمقًا على مستوى كل دولة لتحديد العوامل والعوائق التي تحول دون مشاركة النساء بصورة عادلة.
وشدد على أهمية تبني سياسات داعمة تعمل على تعزيز اندماج المرأة في القطاعات عالية القيمة، إلى جانب حماية حقوقها العمالية وتوسيع فرص الوصول إلى الموارد والإنتاج.
وحذر التقرير من أنه في حال عدم اتخاذ إجراءات مستهدفة، فإن التجارة العالمية ستستمر في التقليل من قيمة مساهمة النساء، الأمر الذي يهدد بتباطؤ النمو الاقتصادي ويزيد من الاختلالات الهيكلية بين الجنسين.