كتب جورج أورويل ذات مرة أن «كل جيل يتخيل نفسه أذكى من الجيل الذي سبقه، وأحكم من الجيل الذي يليه». وربما لم يكن هذا التوصيف أكثر صدقا مما هو عليه اليوم، في ظل القلق المتزايد بشأن ما يُعتقد أنه تأثير مدمر للتكنولوجيا الحديثة على عقول الأطفال والشباب وقدراتهم المعرفية.

لسنوات طويلة لاحظ العلماء ما يُعرف بـ«تأثير فلين»، وهو مصطلح يشير إلى الارتفاع التدريجي في متوسط الذكاء من جيل إلى آخر، كما تقيسه اختبارات الذكاء المختلفة.

لكن في السنوات الأخيرة، يبدو أن هذا الاتجاه قد بدأ بالتراجع، ما دفع البعض إلى اعتبار ذلك دليلا على أن التكنولوجيا المعاصرة، من الهواتف الذكية إلى الشاشات، بدأت تُضعف قدرات الأجيال الجديدة.

غير أن الواقع قد يكون أكثر تفاؤلا مما تبدو عليه العناوين المثيرة؛ فهناك تفسيرات أخرى لهذا التراجع الظاهري، وهي تفسيرات مشجعة إلى حد كبير.

في حقيقة الأمر تراجع تأثير فلين لا يعني بالضرورة أن الجيل الجديد أصبح أقل ذكاء، بل قد يشير إلى أن الفجوة في معدلات الذكاء بين الأجيال الشابة وكبار السن قد تقلّصت. ولئن كان بعضهم يرى في ذلك مؤشرا سلبيا؛ إلا أن الاحتمال الآخر - وهو أن الأجيال الأكبر تحتفظ بقدراتها المعرفية لفترات أطول - يبدو أكثر ترجيحا. فالانحدار المعرفي المرتبط بالتقدم في العمر الذي كان شائعا باستثناء حالات مثل مرض الزهايمر لم يعد بالحدة نفسها كما كان في السابق، وفقا لأحدث الدراسات.

ويُعزى هذا التحسّن إلى عوامل مثل: توسّع فرص التعليم، والرعاية الصحية، والوصول إلى المعلومات منذ الطفولة المبكرة، وهي امتيازات تمتعت بها الأجيال التي وُلدت في القرن العشرين. هذه العوامل لم تجعل الأجيال أكثر ذكاء فحسب، بل ساعدتها أيضا على الحفاظ على هذا الذكاء مع التقدم في العمر.

بالتالي؛ فإن تقلّص الفجوة في الذكاء بين الأجيال قد يكون مؤشرا على تطور إيجابي، لا على تدهور معرفي.

تبقى هناك مخاوف مشروعة بشأن تأثير التكنولوجيا على التركيز والقدرات العقلية لدى الشباب. نعم؛ هناك بعض الدراسات التي تربط بين كثرة استخدام الشاشات وتراجع القدرة على التركيز، وإن كانت دراسات أخرى تُفنّد ذلك، إلا أن هذه الأعراض تبدو مرتبطة أكثر بعادات سلوكية قابلة للتعديل، وليس بخلل دائم في البنية العصبية.

من المهم أيضا أن نُعيد النظر في أدوات قياس الذكاء نفسها. فالمقاييس الموحدة التي طُبقت لعقود قد لا تكون ملائمة لتقييم جيل نشأ في بيئة رقمية مختلفة جذريا عن تلك التي نشأ فيها والداه. فمثلا، التنقل السريع بين مقاطع الفيديو قد يبدو لكبار السن دليلا على ضعف التركيز، لكنه في الواقع يتطلب قدرة ذهنية عالية على معالجة عدة مصادر للمعلومات في الوقت ذاته. كما أثبتت دراسات أن ألعاب الفيديو قد تحسّن من مهارات تعدد المهام. وحتى الهواتف الذكية إذا أُحسن استخدامها يمكن أن تصبح أدوات فعالة في التعلم والتعليم.

الاعتقاد بأن الشباب أقل ذكاء هو رؤية متشائمة ومنتشرة، لكنها تفتقر إلى الأدلة العلمية. إن العالم الذي نعيش فيه يزداد تعقيدا يوما بعد يوم، ويبدو أن كلا من الأجيال الشابة والكبرى تتكيف معه بطرق فعالة، وإن كانت مختلفة.

عن مجلة نيو ساينتست

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي يكشف مستقبلا مناخيا أكثر قسوة في الشرق الأوسط

في عالم يزداد احترارا، تبدو منطقة الشرق الأوسط أكثر عرضة من غيرها لتداعيات المناخ. من الجفاف الطويل إلى الفيضانات المفاجئة، ومن التصحر الزاحف إلى تقلبات درجات الحرارة، تمثل التغيرات المناخية تحديا معقدا يهدد الموارد والاقتصادات وحتى الاستقرار السياسي.

وسط هذا المشهد، يبرز نموذج جديد للتنبؤ المناخي، يعتمد على الذكاء الاصطناعي، كأداة واعدة لإعادة فهم المستقبل المناخي في الإقليم.

في دراسة نشرت يوم 8 مايو/أيار في مجلة "إن بي جاي كلايمت آند أتموسفيريك ساينس"، طور فريق بحثي نموذجا يعرف باسم "ستاكينج إي إم إل"، يمزج بين تقنيات تعلم آلي متعددة ويظهر قدرة غير مسبوقة على التنبؤ بدقة بدرجات الحرارة وهطول الأمطار في الشرق الأوسط، حتى نهاية القرن الحالي.

موجات الحر تتجاوز 45 درجة مئوية (شترستوك) ما الجديد في هذا النموذج؟

يوضح المؤلف الرئيسي للدراسة "يونس خسروي"، الباحث في علم المعلومات الجغرافية في المعهد الوطني للبحث في كيبك، كندا، إن النموذج المقترح يعتمد على دمج 5 خوارزميات تعلم آلي مع 3 "نماذج ميتا" تقوم بتحليل مخرجات الخوارزميات وتجميعها للحصول على التنبؤ النهائي.

ويضيف في تصريحات لـ"الجزيرة نت": "هذه التقنية المعروفة باسم التعلم الجماعي تتيح تقليص نسبة الخطأ وزيادة الدقة".

ويضيف "خسروي" أن الفريق صمم هذا النموذج كي يتعامل مع بيئة مناخية معقدة كبيئة الشرق الأوسط، حيث تمتزج التلال والسهول والصحارى والبحار، مما يصعّب دقة التنبؤ باستخدام نماذج تقليدية، لافتا إلى أنه باستخدام تقنيات التعلم الآلي، أصبحنا قادرين على رؤية أنماط مناخية لا تلتقطها النماذج الكلاسيكية.

إعلان

تعتمد النماذج المناخية التقليدية، مثل نماذج الغلاف الجوي العام، على معادلات فيزيائية تحاكي تفاعلات معقدة بين المحيط والغلاف الجوي، لكنها غالبا ما تعاني من ضعف الدقة في التنبؤ على المستوى المحلي، خاصة في المناطق التي تفتقر إلى شبكات مراقبة مناخية كثيفة.

وعلى النقيض من ذلك، يستند نموذج "ستاكينج إي إم إل" إلى تحليل البيانات المتاحة واستنباط الأنماط منها، دون الحاجة إلى معرفة مسبقة بقوانين الفيزياء، ويتميز بقدرته على التكيف مع البيانات غير المكتملة أو المناطق التي يصعب رصدها ميدانيًا، مثل المناطق الصحراوية أو الجبلية.

"لا نقلل من أهمية النماذج الفيزيائية، لكننا نكملها بأسلوب جديد يجعل التوقعات أكثر واقعية على أرض الواقع"، يشرح المؤلف الرئيسي للدراسة، ويضيف: "باختصار: الذكاء الاصطناعي لا يستبدل العلماء، بل يمنحهم رؤية أعمق".

نتائج دقيقة وتحذيرات ساخنة

عند تطبيق النموذج الجديد على بيانات "سي إم آي بي 6″، وهي قاعدة بيانات عالمية شاملة للتنبؤ المناخي، حقق دقة تنبؤية غير مسبوقة في توقع درجات الحرارة القصوى وفي توقع هطول الأمطار، وفقا للمؤلفين.

وتحت سيناريو الانبعاثات المرتفعة، كشف النموذج عن صورة مثيرة للقلق، فموجات الحر تتجاوز 45 درجة مئوية في جنوب الجزيرة العربية وجنوب إيران، كما كانت هناك زيادة غير متوقعة في كميات الأمطار شمالا، مما قد يؤدي إلى فيضانات.

"لم نعد نتحدث عن تحذيرات عامة، بل عن خرائط دقيقة توضح أي المناطق ستعاني أكثر، ومتى"، كما أوضح "خسروي".

ويقول "محمد توفيق"، أستاذ المناخ التطبيقي بجامعة سوهاج (لم يشارك في الدراسة) "هذه الدراسة تمثل خطوة متقدمة في ربط الذكاء الاصطناعي بمشكلات واقعية في أكثر مناطق العالم هشاشة مناخيا. النموذج المقترح لا يكتفي بتحسين الدقة التنبؤية، بل يفتح الباب أمام استخدامات عملية مباشرة، مثل إدارة المياه وتخطيط المدن".

إعلان

ويضيف "توفيق" في تصريحات لـ"الجزيرة نت" أن ما يثير الاهتمام حقا هو أن النموذج يعمل بكفاءة حتى في المناطق التي تعاني من نقص البيانات، وهذه ميزة إستراتيجية لدول مثل اليمن أو السودان. لكن يبقى التحدي في مدى استعداد صناع القرار للاستفادة الفعلية من هذه الأداة، وتحويل التنبؤات إلى سياسات قابلة للتنفيذ.

تغير توقيت الأمطار يعني اضطراب مواسم الزراعة (الفرنسية) التغير المناخي ليس مجرد طقس

تنبؤات المناخ ليست فقط مسألة علمية، بل لها تبعات مباشرة على الاقتصاد، حسب أستاذ المناخ التطبيقي الذي يلفت إلى أن الزراعة، التي تمثل شريان الحياة في بلدان مثل العراق وسوريا والسودان، مضيفا أن "تغير توقيت الأمطار يعني اضطراب مواسم الزراعة، والجفاف المتكرر يهدد الأمن الغذائي".

ويوضح توفيق "في الخليج، ترتفع كلفة التبريد والطاقة نتيجة درجات الحرارة القياسية، مما يزيد الضغوط على الميزانيات العامة. كما تؤثر الفيضانات المرتبطة بالأمطار غير المنتظمة على البنية التحتية الهشة في بلدان مثل اليمن ولبنان".

من جانبه، يحذر "خسروي" من أنه في بعض الحالات، ستكون التغيرات المناخية مكلفة أكثر من أي أزمة اقتصادية تقليدية، ولهذا السبب يشدد على الحاجة إلى إدماج النماذج المناخية في كل خطة اقتصادية أو إستراتيجية تنموية.

 ما الذي يجب فعله الآن؟

يوصي الباحثون بالاعتماد على النموذج الجديد كأداة إستراتيجية لدعم اتخاذ القرار في مجالات متعددة، أبرزها تخطيط استخدام الأراضي وتوزيع الزراعات الموسمية وفقا لتوقعات المناخ، وتحسين إدارة الموارد المائية بين القطاعات الزراعية والصناعية والحضرية، إضافة إلى تصميم شبكات الكهرباء والطاقة المتجددة بما يتناسب مع الارتفاع المتوقع في درجات الحرارة.

كما يؤكدون على أهمية ربط النموذج بأنظمة الإنذار المبكر لمواجهة مخاطر الفيضانات أو موجات الجفاف قبل وقوعها. ويشدد الفريق البحثي على ضرورة إتاحة النموذج كمورد مفتوح المصدر، قابل للتكييف والتدريب محليًا بما يتوافق مع ظروف واحتياجات كل دولة أو منطقة.

إعلان

ويوضح خسروي "نريد لهذا النموذج أن يخرج من المختبرات إلى الوزارات والمزارع والمجالس البلدية" ويضيف: "كلما كان القرار مبنيًا على العلم، كانت المجتمعات أكثر قدرة على الصمود".

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • هل يُشكّل الذكاء الاصطناعي فرصةً للبشرية لتصبح أكثر إنسانية؟
  • كيف يضيء الدماغ أفكارك.. دراسة تظهر تأثير لحظات الإدراك على الذاكرة
  • بالفيديو.. مختص يوضح أبرز العوامل التي تؤدي لانتشار الصداع بين الأطفال والمراهقين
  • السيد القائد: أهم شيء بالنسبة للأمريكي الذي يورط نفسه أكثر فأكثر فيما لا فائدة له فيه وإنما يقدمه خدمة للصهيونية أهم شيء بالنسبة له أن يورط الآخرين معه
  • كم من الأطفال يجب أن يَـقـتُـل الذكاء الاصطناعي؟
  • وزيرة: أكثر من 80% من المهن معرّضة للزوال مستقبلاً بفعل الذكاء الاصطناعي
  • دعامي يحكي أنّ ظلمَ المليشيا بات أكثرُ فداحةً مِنْ ظلم الدولة التي قاتلها
  • الذكاء الاصطناعي يكشف مستقبلا مناخيا أكثر قسوة في الشرق الأوسط