إبراهيم شقلاوي يكتب: مياه حي الصفا تنتظر القرار
تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT
تمر ولاية الخرطوم بواحدة من أدق مراحلها التاريخية، حيث تتقاطع الأزمات الخدمية مع تعقيدات المشهدين الأمني والسياسي، في صورة قاتمة تنعكس بوضوح على حياة المواطنين. ومن بين هذه الأزمات، تبرز مشكلة المياه كواحدة من أشد صور المعاناة اليومية، لا سيما في محلية كرري – حي الصفا، الواقع غرب شارع الوادي بالقرب من قسم الحتانة، حيث لم تعد المياه موردًا طبيعيًا متاحًا، بل تحوّلت إلى سلعة باهظة تثقل كاهل الأسر محدودة الدخل.
تعتمد محطة “المنارة”، أحد أبرز مصادر الإمداد المائي في المنطقة، اعتمادًا كليًا على الكهرباء. ومع تكرار استهداف البنية التحتية من قِبل مليشيا الدعم السريع، توقفت المحطة عن العمل، ما أدى إلى تداعيات إنسانية قاسية. المخابز توقفت، والطوابير امتدت في انتظار التناكر، والمياه تحولت إلى أزمة معيشية خانقة.
في حي الصفا كان السكان يعتمدون على بيارة الحارة 20 كمصدر شبه وحيد للمياه في حال الطواري، لكنها خرجت عن الخدمة نتيجة محدودية طاقتها التصميمية. وارتفعت على إثر ذلك تكلفة برميل المياه إلى ما يزيد عن أربعين ألف جنيه، في منطقة يعيش معظم سكانها على دخول يومية أو معاشات حكومية لا تواكب تكاليف الحياة.
استجابة لهذا الواقع المؤلم، طرحت اللجنة الشعبية في الحي مبادرة لحفر بئر جوفية كحل عملي ومستدام. وقد أبدت اللجنة استعدادها الكامل للتعاون مع القطاع الخاص أو المنظمات الإنسانية أو مع حكومة الولاية، سواء من خلال المساهمة المجتمعية أو التنسيق الفني، في خطوة تعكس وعيًا شعبيًا عميقًا، وإرادة جادة لتجاوز الأزمة.
غير أن هذه المبادرة، كسابقاتها من المبادرات المحلية، لا تزال رهينة الانتظار، تنتظر قرارًا إداريًا واضحًا ودعمًا لوجستيًا من الجهات المختصة. ويُذكر أن أحياءً أخرى في محلية كرري تمكنت بالفعل من حفر آبار جوفية بتمويل رسمي أو شعبي، مما يدل على جدوى هذا الخيار ونجاعته ، إن توفرت الإرادة السياسية والدعم التنفيذي.
زيارة والي الخرطوم، أحمد عثمان حمزة لمحطتي بيت المال والمنارة، وغيرها من المواقع، شكّلت إشارة إيجابية إلى وجود وعي رسمي بحجم الكارثة. لكن هذا الوعي لم يُترجم حتى الآن إلى خطة عملية لإعادة المياه إلى الأحياء المتضررة. فلا تزال وعود الوالي حبيسة التصريحات تنتظر التنفيذ ، فيما يقول سكان حي الصفا إنهم “أول من تُقطع عنه المياه، وآخر من تعود إليه عند استئناف الضخ”.
أبناء حي الصفا، الذين تمسكوا بمنازلهم رغم الحرب والقصف، لم يجدوا بُدًّا من اللجوء إلى الصحافة لإيصال صوتهم، بعد أن غاب صوت القرار الإداري المحلي. بالنسبة لهم، لم يعد انقطاع المياه أزمة خدمية فحسب، بل صار دليلاً صارخًا على هشاشة منظومة الطوارئ، وسوء إدارة الأزمات.
إن الحرب التي تتخذ من تدمير البنية التحتية وسيلة لإضعاف الدولة، تتطلب استجابة غير تقليدية. لم يعد بالإمكان الاستمرار في الاعتماد على الكهرباء وحدها لتشغيل محطات المياه. المطلوب هو توفير بدائل فعالة، كمولدات الكهرباء أو أنظمة الطاقة الشمسية، ووضع خطة تشغيل طارئة تضمن استمرارية الخدمة.
لقد تجاوزت أزمة المياه في الخرطوم حدود الشأن المحلي، وأضحت مؤشرًا خطيرًا على ضعف الإدارة الحكومية في زمن الحرب. وفي حي الصفا، باتت المياه تمثّل اختبارًا حقيقيًا للدولة: هل تستطيع صون هذا الحق الأساسي، أم تترك المواطنين فريسة للعطش واستغلال ضعاف النفوس؟
ومن منظور #وجه_الحقيقة، فإن تحديات ما بعد الحرب تقتضي نموذجًا جديدًا في الإدارة. لم يعد هناك متسع للوعود المؤجلة أو الحلول المؤقتة. المطلوب قرارات جذرية تعيد المياه للمواطنين، والثقة في مؤسسات الدولة. فالماء ليس فقط مورد حياة، بل ركيزة للاستقرار الاجتماعي، ودعامة للأمن الوطني.
ولسقيا الماء فضلٌ عظيم؛ فلولاه لما كانت الحياة ممكنة. كما قال تعالى: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ”. إن فقدان هذا المورد اليوم في حي الصفا لا يهدد صحة الأجساد فحسب، بل يُضعف روح التضامن، ويُخلخل بنيان المجتمع.
ومع ذلك فإن استعداد السكان للتكاتف، وحفر الآبار بجهدهم، يثبت أن الأمل لا يزال حيًّا، حين تتلاقى الإرادة الشعبية مع القرار الرسمي. فالناس ينتظرون القرار، سيدي الوالي.
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الأحد 25 مايو 2025م. Shglawi55@gmail.com
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
حرب الكرامة: تحديات ما بعد تحرير الخرطوم واستعادة الدولة
(1) الإنتصار في أي حرب يُقاس بمدى تحقيق أهدافها
صحيح بالنسبة للدولة السودانية هذه حرب فُرضت عليها وحارب الجيش السوداني ومن خلفه الشعب والقوات الأخرى المساندة للحفاظ على كيان الدولة وسيادتها وكرامة شعبها. هذه أهداف من موقع دفاعي فُرض على السودان. المليشيا التي بادرت بالحرب ومن يقفون وراءها من الخارج والداخل لديهم أهدافهم التي سعوا ويسعون وسيستمرون في السعي لتحقيقها.
بالنسبة لنا، ومهما كانت الحرب مفروضة علينا ونحارب من موقع الدفاع، لابد من تحديد أهداف من الحرب يُقاس بها النصر، سواء كان هذا النصر عسكري يتم تحقيقه بالقوة أو نصر سياسي أو بالاثنين معا.
أهداف الحرب بالنسبة للدولة السودانية يمكن أن تشمل:
الحفاظ على كيان الدولة ترابا وشعبا ومؤسسات
صون السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني
والهدف النهائي هو تحقيق السيادة الكاملة للشعب السوداني على السلطة عبر الوسائل الديمقراطية.
بمعنى، عندما تنتهي الحرب تكون هناك دولة قائمة على أرضها بحدودها المعروفة وبسيادة كاملة على أرضها وتملك قرارها كدولة والشعب السوداني هو صاحب السلطة يمارسها بكامل حريته وبشكل ديمقراطي. إذا انتهت الحرب إلى هذا الوضع نكون قد انتصرنا في هذه الحرب.
(2)
حتى الآن استطاع الجيش السوداني وبدعم ومساندة مختلف مكونات الشعب السوداني وبتضحيات ودماء جنود وضباط القوات المسلحة والفصائل المساندة، استطاع هزيمة المليشيا واستعادة العاصمة ومركز ثقل الدولة. واستطاعت “سلطة الأمر الواقع” بقيادة الفريق البرهان المحافظة على الشرعية الخارجية والاعتراف الدولي ومؤخرا استطاعت تعيين رئيس وزراء حكومة مدنية تحظى بالاعتراف والقبول الخارجي.
وقبل أن يستغرب اللبعض؛ السلطة الحالية هي سلطة أمر واقع ليس بالقياس إلى الوضع السابق، وضع ثورة ديمسبر والشراكة مع المليشيا ومع حلفاءها في قحت، ولا هي سلطة أمر واقع نسبة لوجود أطراف أخرى تنازعها الشرعية ولا تعترف بها؛ بل هي سلطة أمر واقع بالقياس إلى المستقبل وما يجب عليها هي نفسها أن تقوم به، بإعادة السلطة إلى الشعب.
صحيح بالنسبة للمتمردين والخونة الذين يحاربون السودان من الخارج وبدعم خارجي، هذه السلطة القائمة في بورتسودان والتي توصف تقليلا ب “سلطة بورتسودان” هي السلطة التي تمثل السودان وتدافع عن الشعب السوداني وتحارب من أجله، من هذه الزاوية فهي سلطة شرعية مكتملة الشرعية؛ فهي الجهة التي تمثل مصالح الشعب السوداني وقادتها هم قيادة الشعب السوداني في معركته المصيرية ضد الأعداء، وفي هذه المعركة يقف الشعب خلف الفريق البرهان كقائد محارب يقود شعبه في حرب وجودية ضد عدوان مدعوم من الخارج ويستهدف الدولة وشعبها.
أما بالنسبة للوضع النهائي الذي يسعى إليه الجميع بما في ذلك -نظريا على الأقل- الفريق البرهان وقيادات الحكومة في بورتسودان والخرطوم المحررة، وهو الوضع الديمقراطي الذي تعود فيه السلطة كاملة إلى الشعب، فإن السلطة الحالية هي سلطة أمر واقع فرضتها الظروف وهي سلطة إنتقالية الهدف منها الانتقال بالسودان إلى بر السلام والاستقرار، حيث تقوم دولة بدستور وقوانين ومؤسسات وتعود فيها السلطة إلى الشعب السوداني. بهذا الوصف هي سلطة أمر واقع عابرة ويجب أن تكون كذلك.
(3)
بعد تحرير العاصمة وتعيين رئيس وزراء وبداية تشكيل الحكومة وما صحب ذلك من عودة الصراعات السياسية حول السلطة، بالإضافة إلى ابتعاد الحرب عن المركز الدولة في الخرطوم وولايات الوسط ومع تباطؤ تقدم الجيش غربا وتراجع حالة الالتفاف الشعبي المتحد خلف الجيش والقوات المساندة، مع كل هذه العوامل وغيرها تأخذ الحرب مسارا أكثر سياسيّةً وأقل قدسية؛ بمعنى أن الحرب تفقد هالتها الأخلاقية والروحية وتصبح أكثر برودة كحرب يقودها الجيش وقوات مساندة له ضد قوات متمردة خارج مركز الدولة.
هذا الوضع حصل لعدة أسباب، على رأسها توقف اندفاع الجيش وتقدمه لتطهير الغرب، كردفان ثم دارفور. وقد يكون من أسباب هذا التراجع تراجع التركيز الإعلامي والغضط الشعبي على الجيش نفسه؛ فحينما كانت المليشيا تحتل ولاية الجزيرة وتنتشر في أجزاء من سنار وتسيطر على معظم العاصمة بمدنها الثلاث، كان هناك توتر عالي وتركيز وضغط متواصل على الجيش. هذه الامور تراجعت الآن والسبب هو تحرير مركز الدولة، حيث أكبر كتلة تملك التأثير الإعلامي بما يتوفر لديها من تعليم وانتشار في وسائط التواصل الاجتماعي.
وهناك بالإضافة إلى ذلك معطى آخر، وهو ما يُمكن أن نسميه “الشعور بانتهاء حالة الغزو والاحتلال” وما تبع ذلك من انتهاكات. فهناك شعور ضمني بأن وجود المليشيا في كردفان ودارفور لا يعبر عن حالة غزو واحتلال تستدعي التحرير بنفس القدر الذي كان عليه الوضع في مناطق مثل سنار والجزيرة الخرطوم. فمناطق كردفان ودارفور هي تعتبر مناطق حواضن بالنسبة للمليشيا. وكذلك، وعلى الرغم من وجود الكثير من الانتهاكات التي تقوم بها المليشيا ضد المواطنين في مناطق سيطرتها في دارفور وكردفان، ولكن لن يُنظر إليها بنفس المنظار الذي يُنظر به إلى الممارسات المشابهة التي حدث في مناطق مثل الخرطوم والجزيرة.
أضف إلى ذلك أن المليشيا ستقاتل في هذه المناطق بدافع مختلف عن قتالها السابق في المركز. فهي هنا تقاتل من منطلق دفاع عن النفس والوجود وبالتالي لدى جنودها دافع أكبر للقتال.
إذن، نحن نشهد تحول في الطريقة التي قد ينظر بها الكثيرون إلى الحرب، وهنا نحن لا نطلق أحكاما ذات طابع معياري يحاكم الناس، ولكن نصف ونحلل لنفهم لكي نعرف كيف سنتعامل مع الوضع.
النتيجة لهذه المطعيات وما لم تحدث تحولات عسكرية كبيرة لصالح الجيش في كردفان ودارفور، ستتحول الحرب من حرب كرامة وتحرير لأرض السودان من الخياري إلى الجنينة وأم دافوق من الجنجويد والمرتزقة، ستتحول الحرب مع مرور الوقت إلى صراع سياسي تلقيدي بين حكومة في مركز الدولة وحركات متمردة متحالفة ضدها تسيطر على أجزاء واسعة من الدولة و تتمتع بسند شعبي. ووهو وضع لم يتوفر لأي حركة تمرد سودانية في الماضي لا حركات جنوب السودان ولا حركات دارفور.
وفي أي صراع كهذا سينتهي الأمر في النهاية إلى هزيمة الحكومة وانتصار الحركات المتمردة في نهاية المطاف. وتفصيل ذلك في الفقرة التالية.
(4)
مع مرور الوقت، اذا استمرت الحرب دون تقدم عسكري كبير وحاسم ثم تفاوض بإملاء شروط المنتصر الذي يجب أن يكون هو الدولة في هذه الحالة وهوانتصار معرف بالأهداف المذكورة في الفقرة (1) بمعنى أن التفاوض في النهاية يهدف إلى تحقيق هذه الأهداف مسنودا بالتفوق العسكري، إذا لم يتحقق ذلك، وفي ظل حالة من عدم النضج السياسي في الساحة وانعدام الكفاءة فإن السلطة القائمة ستضعف أكثر وأكثر وقد يؤدي هذا إلى تراجع دعم الناس وثقتهم في القيادة والتفافهم حول الجيش؛ فالصراعات السياسية والخلافات ستزيد ما لم تكن هناك رؤية وأهداف للانتقال بسرعة من هذا الوضع إلى وضع جديد تنتهي فيه الحرب بتحقيق أهدافها، وهنا يمكن أن يترافق المجهود العسكري والمجهود السياسي ولكن لابد من رؤية وخطة وسقف زمني: إلى متى سنقاتل ومتى سنتوقف ومتى سنقول أننا انتصرنا وما هي التنازلات التي يمكن ان تقدمها وما هي الأمور التي لا يمكن أن تنتازل عنها حتى لو اضطررنا لخوض الحرب لسنوات قادمة بكل ما يتضمنه ذلك من تحديات ومخاطر.
هنا أمام الجيش والحكومة امتلاك رؤية للحرب واستكمال الأهداف العسكرية بالقوة العسكرية ورؤية موازية للسلام. وكل شيء يجب أن يكون مبني على حسابات المصالح والخسائر على المدى البعيد، أو باختصار على تقدير شامل للموقف على مستوى الجبهة الداخلية والاستعداد لمختلف السيناريوهات وكذلك على المستوى الخارجي الإقليمي والدولي. وغني عن القول يجب أن يسبق ذلك رؤية إنهاء الحرب ترتيب الوضع الداخلي لمعسكر السيادة الوطنية الذي ساند الجيش ودعمه في هذه الحرب وشارك معه بالفعل في القتال.
ونحن هنا لا نتقاءل ولا نتشاءم، على الرغم من أن ما تحقق حتى الآن هو تقدم وانتصار كبير للدولة السودانية؛ إذ تم دحر المليشيا من مركز الدولة ومن العاصمة، وعادت الدولة ويجري تشكيل حكومة مدنية كمحصلة وتتويج لهذا الانتصار.
لقد قطعنا مسافة هائلة من حصار القيادة العامة والقائد العام للجيش ورأس الدولة في مئات قليلة من الأمتار المربعة، إلى استعادة القيادة والعاصمة والدولة. وذلك بفضل تضحيات كبيرة وأرواح يجب أن نتذكرها باستمرار. ولكن مع هذه الاستعادة أيضا استعدنا كل مشاكل الدولة والسلطة القديمة وتحدياتها. ومثلما كان تطهير العاصمة والمركز انتصارا إلا أنه خلق وضعا جديدا للحرب التي أصبحت بعيدة من المركز، وضع يهدد بتحولها إلى حرب تلقيدية مثل كل الحروب التي عرفها السودان وعرفتها القارة: حركات تمرد تقاتل حكومة مركزية تمثل التجسد الواقعي لمشاكل الدولة طوال تاريخها.
(5)
هنا نقطة خطيرة لابد من الوقوف عندها. وهي أن التمرد عادة ما يفوز بالسرد الأخلاقي، هو الطرف الذي يطالب، وهو بلا أعباء، بلا مسئوليات وبالتالي أقل عرضة للفشل. حركة التمرد يُمكن أن تُهزم ثم تعود من جديد وتستغل الظروف والمتغيرات الداخلية والخارجية، الحكومات والدول لا تملك هذه الرفاهية إن هُزمت فلن تقوم لها قائمة. صحيح الدولة يمكن أن تضعف ثم تقوى وتنتصر مثلما حدث في السودان حتى الآن، ولكن ما يزال هناك مشوار آخر طويل ينتظر الحكومة الحالية كوريث لدولة 56 تتحمل كل تاريخها بينما يقف حلف التمرد خفيفا في الطرف الآخر يطالب بسودان جديد ويزايد بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية.
صحيح انتصرنا حتى الآن ونحن في موقف قوة، ولكن يجب أن نستغل ذلك بوعي قبل أن تتبدل الأحوال.
حليم عباس