لم يكن ممكنًا الانتقال من القبيلة إلى الدولة الحديثة، ومن حكم الفرد إلى حكم المؤسسة، إلا بفضل اكتشاف الصحافة والإعلام، وهو ما بات ممكنًا بعد اكتشاف المطبعة، ذلك أن ثورة الطباعة وتداول المعلومة والخبر والفكر، هي في العمق الثورة التي أسست للدولة الحديثة، وما الحداثة والتنوير سوى خلفيات مرجعية لهذا التطور الذي عرفه الإنسان.
بيد أن الإعلام، مع الثورة التكنولوجية والرقمية، لم يعد مجرد نقلٍ للخبر، أو توصيفٍ للحدث كما جرى ويجري في الواقع، بل بات صناعةً متحكمًا فيها، لها وسائلها وتقنياتها، ولها أهدافها وغاياتها، التي باتت في انفصال مستمر ومتزايد عن الواقع والحقيقة، بشكل أصبح الواقع بناء وتشكيلًا جديدًا وفق ما تبتغيه مدارات السلطة ورهاناتها، سواء كانت هذه السلطة سياسية أو اقتصادية، ثقافية أو اجتماعية، وسواء كانت نخبوية أو شعبية جماهيرية، وسواء كانت هذه السلطة داخلية أو خارجية، وطنية أو دولية، حيث كل شيء يمر عبر مسارات ومدارات تخفي أكثر مما تظهر، وحيث الشفافية التي ارتبطت بأخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام في الزمن القديم، باتت، في زمن الحداثة السائلة، شفافية مضللة، وانعكاسية زائفة.
فرجال الإعلام والصحافة كانوا في البداية كَتَبة وباعة بريد متجولين، سيرًا على الأقدام أو على ظهور الخيل؛ ثم جاء الحمام الزاجل حاملًا رسائل الملوك والأباطرة، إلى أن حل عهد اليونان القديمة، التي وجدت، وسيلة أخرى للتواصل السياسي، وهي التعبير المباشر بين السياسيين والجمهور، في "الأغورا"، حيث كان الهدف هو التعبير والتداول والإقناع والاقتناع.
إعلانلقد كان الخطاب مفعمًا بالحيوية والدفء والعفوية، وسمحت الشفهية بأنماط معينة من المصداقية، وبنصيب كبير من العاطفة والأخلاق، كما سمحت أيضًا بالحضور السياسي عبر عظمة الخطابة والبلاغة، حيث كان للإلقاء واللهجة والإيقاع والعروض قوتها وأهميتها.
وكان لأسلوب المواجهة السياسية ثقله على ما يجب قوله، وما لا يجب قوله، حسب السياق والمناسبة، وبالتأكيد، أيضًا على كيفية القول، وعلى المكونات الضرورية لنقل الخطاب بشكل أفضل.
وقد كان من المقرر أن يستمر هذا بثبات إلى حد ما، بدءًا من الثورة الصينية وحتى الثورة الكوبرنيكية التاريخية، وتحديدًا اختراع الطباعة مع غوتنبرغ، قبل ستة قرون، حيث غيرت الصحافة هذا الوضع المتمثل في الخطاب والقول وجهًا لوجه من خلال خطاب تم نقله، إلى خطاب تم بناؤه وتوضيبه، بعدما لم يعد السياسي على اتصال مباشر مع جمهوره المحتمل، وتم تعديل الخطاب، بحكم الأمر الواقع، وتبديله، وحتى تشويهه في بعض الأحيان، إذ كان السياسي في الماضي يلقي خطابه حاضرًا، ويختار المعلومات التي يريد نقلها ويغفل ما من شأنه أن يعرض سلطته للخطر.
بيد أن الصحافة اليوم غيرت الوضع، حيث نصبت نفسها على أنها "بائع" للمعلومات العامة، لخدمة عامة الناس، وأصبح الحضور غيابًا، والغياب حضورًا. لقد تم نفي الجسد إلى خارج مدارات العاطفة والأخلاق، وتم اختزال الحضور في الصورة.
فإذا كان صانع القرار السياسي بالأمس هو وحده صاحب سلطة الكشف عن المعلومات أو إخفائها، فإن وسائل الإعلام دخلت في المنافسة وحاولت قدر الإمكان تقديم هذه المعلومات ذات الطابع السياسي، كجزء من خدمة المواطن، ولشروط الديمقراطية لم يعد للسياسيين نفس التعريف لكلمة "إعلام"، مثلما لم يعد للصحافة والإعلام نفس الهدف والمهمة، فبات الفضاء العام يعيش قصفًا جويًا وأثيريًا للأخبار "الكاذبة" القادرة على تعزيز موقف بعض السياسيين والإعلاميين ضد بعضهم الآخر، على حد سواء، ما دام الفضاء العام مجالًا للخطاب ونقد الخطاب وللسلطة ونقيضها.
إعلانكان السياسي بحاجة إلى أن يتم تقديمه من خلال وسائل الإعلام لجمهوره: مناصريه ومعارضيه، بشكل يثمن حضوره ويقوي من حظوظه في السلطة، عبر مصداقية الصحافة المكتوبة: الجريدة والمنشورات والدوريات، التي ارتكزت كلاسيكيًا على أخلاقيات المهنة، والتي لم تكن لتعبّر بوفاء عن صورته وحقيقته كما يشتهي، لكن مع اختراع الراديو والتلفزيون، سيجد الطريقة الصحيحة لاستعادة صورته، بصوته وصورته المباشرة أو المؤجلة، معبرًا عما يخالجه وعن مقاصده بالشكل الذي يريد، بيد أن صناعة الإعلام وغرف التحرير وضغوطات المستشهرين والمستثمرين قد جعلت السياسي، كما كل الفاعلين، بما في ذلك الأنظمة والدول، يخضع لخط التحرير، الذي ليس سوى سياسة المصلحة.
إن وجوده كصوت أو كصورة أمام الكاميرات وفي مواقع التصوير بكامل طاقته منحه المزيد من القوة والثبات. لكن عوامل التوقيت والمكان المخصص له في الأستوديو، وتقنيات التحرير، وخطة التصوير، وموقع الكاميرا، والمقاطعات المتكررة للصحفي في الموقع قلصت من هذا الحضور الكلي، وقللت من طموحاته السياسية. فماذا يبقى إذن من خطابه، إن لم يكن ما يسمح له الوسيط ببثه، كما أشار بيير بورديو عن حق؟.
ولذلك أصبح الإعلام مع التطور التقني بنية ثابتة من بنيات الخطاب الإعلامي والسياسي للفاعل السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. بيد أن الأمر مختلف تمام الاختلاف حين نتكلم عن الإعلام الجديد، أو الإعلام الرقمي. وبالرغم من أن التلفزيون والراديو، وحتى الصحافة المكتوبة، في ظل العصر الرقمي، قد خسرت المزيد والمزيد من الأرض والسلطة، فإن الخطاب السياسي ما فتئ يسعى بشدة إلى الاستفادة من هذه التقنيات الجديدة، مع العلم كما يقول المارشال ماك لوهان إن "الوسيلة هي الرسالة".
وكما يعتقد جاك أتالي، فإن "أداة الاتصال هي قبل كل شيء مصدر للسلطة"، لذا يحاول السياسي التكيف مع وسائل الإعلام الجديدة ومزاياها ونقاط قوتها. بيد أن هذه السلطة لم تعد المجال الخاص للسياسي، يفعل ما يريد، ومثلما يريد، وحيثما يريد، بل أصبح الفضاء العام المرقمن- وقد انتقلت الجماهير من الواقعي إلى الافتراضي- منافسًا وخصمًا للسياسي ينازعه سلطته ويوجه إستراتيجياته بشكل باتت السياسة فن تدبير الجماهير، وتوظيف الخوارزميات، وكل جاهل بالعالم الرقمي بات ضحية لشبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، وعلى رأسهم المثقف الذي لم يعد قادرًا على مسايرة تطورات خطاب هذا الإعلام، بعدما تراجع صوته وصورته وتوالى حضوره إلى خارج مدارات الرقمنة والتفاعلية الرقمية، مقتصرًا على حضوره الورقي في زمن باتت القراءة في تراجع مستمر، وفي زمن برز فيه فاعلون جدد ومؤثرون، جعلتهم شبكات التواصل الاجتماعي نجوم المرحلة، بعدما تحولت الجماهير إلى وقود أشعلت نار النجومية والشهرة وتسويق المبتذل والعوالم السفلية لجسد شبقي وغرائزي وتثمين الفضيحة في ظل نظام التفاهة بتعبير آلان دونو، إلى حد بتنا نعيش فيه زمن المجتمعات الفضائحية.
إعلانإن الخبر الذي ارتبط في الصحافة القديمة والكلاسيكية بالأحداث والوقائع، كما كانت تجري حقيقة في المكان والزمان، أصبح اليوم صناعة وفذلكة وتوضيبًا، فمن خلال تركيب الصور وتوضيب الفيديوهات وفبركتها أصبح الخبر حقيقة مبنية ومصطنعة، وهو ما اصطلح عليه بالأخبار الكاذبة، أو الزائفة، أو "الفايك نيوز". ومن هنا بات الإعلام الجديد صناعة خطيرة بمثابة سيف ذي حدين، وجب أخذ خطورته بعين الاعتبار في مجال السلطة والسياسة والفكر.
أكيد أن الإعلام الجديد قد أسهم في دمقرطة العمل السياسي والأداء الاجتماعي لفاعليات المجتمع المدني، كما أسهم في تثمين النقد والمتابعة وفتح مجال الحوار والسجال على كافة المستويات، مما زاد من منسوب الثقافة السياسية للمواطنين، بيد أن شبكات التواصل الاجتماعي، وقد تحولت إلى منفذ ومصدر للمعلومات والأخبار، لم تعد مجرد فضاءات شخصية، بقدر ما باتت إحدى البنيات المتحكمة في صناعة الأخبار والإعلام، بما في ذلك الأخبار الزائفة والتعبئة الجماهيرية المضللة، والتي تنال من الأفراد والجماعات، مثلما باتت تنال من هوية الأمم والشعوب والدول.
إن شبكات التواصل الاجتماعي وما تقتضيه من مشاركة جماهيرية مفتوحة على كل الاحتمالات التأويلية والدلالية، باتت اليوم تتبع توجهات وتوجيهات الخوارزميات الموغلة في التجييش والتعبئة الغوغائية، ما دام كل متبحر في هذه العوالم الرقمية يملك صوتًا وصورة وسلطة الخطاب، حيث منحت شبكات التواصل الاجتماعي للمجانين والحمقى والأغبياء صوتًا وسلطة بتعبير إمبرتو إيكو، وهو ما يحتم علينا اليوم بناء مصفاة أخلاقية وقيمية، معنوية وقانونية ومؤسساتية، تمنع كل انحراف للإعلام الجديد من الغرق في بحر الأخبار الزائفة والدعاية المغرضة التي تمس الحياة الخاصة للأفراد والجماعات، وتنال من سمعة الفاعلين في المجال العام، وفق ما بات يعرف بتلويث السمعة الرقمية، التي أصبح لها جنود ومرتزقة، اصطلح عليهم بـ "الذباب الإلكتروني"، بما يجعلنا أمام حرب مفتوحة.
إعلانيقتضي ما سبق أن نعيد الاعتبار لأخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام، من جهة، ووجوب إنفاذ القانون فيما يخص الأخبار الزائفة والدعاية المغرضة وتلويث السمعة الشخصية والسياسية والاجتماعية للفاعلين في المجال العام. ذلك أن الانتصار للتكنولوجيات الحديثة في مجال الصحافة والإعلام، وفي مجال الثقافة والفكر، لن يتم إلا عبر تفكيك نظام التفاهة، الذي يبدو أنه أصبح يقود العالم نحو الهاوية، خاصة إذا تكلمنا عن مجتمعاتنا السائرة نحو التخلف المستديم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الحج حريات الحج شبکات التواصل الاجتماعی الصحافة والإعلام الإعلام الجدید بید أن لم یعد مجال ا ما بات
إقرأ أيضاً:
من العزلة إلى الانفتاح المشروط: تفكيك العقوبات الأميركية على سوريا
يمثّل إعلان الرئيس دونالد ترامب في مايو/ أيار 2025 بشأن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا أحد أبرز التحولات الإستراتيجية في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة.
وتعكس هذه الخطوة، المتمثلة في حزمة شاملة لتخفيف العقوبات، من خلال الترخيص العام رقم 25 الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية، والإعفاء الصادر عن وزارة الخارجية بموجب قانون قيصر لمدة 180 يومًا، تحولًا عميقًا من سياسة العزلة الاقتصادية طويلة الأمد إلى نهج مدروس لإعادة الدمج.
ورغم ما تحمله هذه السياسات الجديدة من فرص اقتصادية غير مسبوقة لسوريا، فإنها تطرح في الوقت ذاته تحديات قانونية وسياسية وتنفيذية معقّدة، من المرجح أن تؤثر على طبيعة العلاقات الأميركية السورية والاستقرار الإقليمي لسنوات قادمة.
التطور التاريخي لهيكل العقوبات الأميركية (1979–2025)يُعد تطور نظام العقوبات الأميركية على سوريا نموذجًا للتصعيد المتدرّج في توظيف الإكراه الاقتصادي، ابتداءً من إجراءات محدودة خلال الحرب الباردة، وصولًا إلى واحدة من أشدّ آليات العزل الاقتصادي صرامةً في التاريخ المعاصر للعلاقات الدولية.
أولاً: مرحلة التأسيس (1979- 2003)بدأ فرض العقوبات الأميركية على سوريا في ديسمبر/ كانون الأول 1979، عندما صنّفت الولايات المتحدة سوريا كدولة راعية للإرهاب، وهو تصنيف استمر دون انقطاع لأكثر من أربعة عقود.
إعلانوقد جاء هذا التصنيف في سياق التصاعد في التوترات الإقليمية عقب تثبيت حافظ الأسد سلطته عبر انقلاب داخلي عام 1970. وكان الدعم السوري للفصائل الفلسطينية وموقفها المناهض للمصالح الغربية، إضافة إلى اصطفافها إلى جانب الاتحاد السوفياتي، الدوافع الرئيسية لهذا التصنيف.
كانت العقوبات في هذه المرحلة محدودة نسبيًا، وتمثلت في تقييد المساعدات الأميركية، وفرض حظر على الصادرات الدفاعية والعسكرية، وضوابط على صادرات المواد مزدوجة الاستخدام. وشكّلت هذه الإجراءات الأساس الأوّلي الذي أتاح إمكانية التوسع لاحقًا.
وتجدر الإشارة إلى أن سوريا ظلت الدولة الوحيدة المستمرة على هذه القائمة من تأسيسها عام 1979 وحتى رفع العقوبات عنها عام 2025.
ثانياً: مرحلة التوسع التشريعي (2003- 2011)أسفر المناخ الدولي الذي أعقب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وما تلاه من سياسات توسعية في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن في الشرق الأوسط، عن تشديد كبير لنظام العقوبات على سوريا.
فقد وقّع الرئيس بوش في مايو/ أيار 2004 الأمر التنفيذي رقم 13338، تنفيذًا لـ «قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية» الصادر في العام 2003. ومثّل هذا الإجراء تحولًا بارزًا في إستراتيجية العقوبات الأميركية، من مجرد أدوات أمنية إلى وسيلة ضغط اقتصادي واسعة النطاق.
شملت العقوبات حينها فرض حظر شبه كامل على الصادرات الأميركية إلى سوريا (باستثناء الغذاء والدواء)، وقيودًا صارمة على القطاع المصرفي السوري، مع تصنيف المصرف التجاري السوري كمؤسسة مثيرة للقلق في مجال مكافحة غسل الأموال، مما أدى إلى قطع صلاته مع المصارف الأميركية. وقد ساهمت هذه العقوبات في ترسيخ مفهوم العزلة المالية كأداة رئيسية في السياسة الأميركية تجاه سوريا.
استندت هذه العقوبات إلى اتهامات بدعم الإرهاب، والتدخل في الشؤون اللبنانية، وتطوير أسلحة غير تقليدية. ورغم محدودية العلاقات الاقتصادية الثنائية آنذاك، والتي لم تتجاوز قيمتها 300 مليون دولار سنويًا عام 2004، فإن هذه الإجراءات تجاوزت التأثير الاقتصادي المباشر إلى التأثير السياسي والرمزي.
ثالثاً: مرحلة الحظر الشامل (2011- 2020)مع اندلاع الثورة الشعبية في سوريا في مارس/ آذار عام 2011، تبنّت إدارة الرئيس باراك أوباما سياسة تصعيد تدريجية ضد نظام الأسد، بدأت بإصدار الأمر التنفيذي رقم 13572 في أبريل/ نيسان من العام نفسه، والذي وسّع حالة الطوارئ المفروضة سابقًا، مستهدفًا مسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان.
وسرعان ما تبعه الأمران التنفيذيان 13573 و13582، حيث شكل الأخير (الصادر في أغسطس/ آب 2011) حجر الزاوية لفرض حظر اقتصادي شامل.
تضمن هذا القرار تجميد جميع أصول الحكومة السورية، وحظر التعامل الاقتصادي مع الكيانات الحكومية السورية، ووقف الاستثمارات الأميركية في سوريا، إضافة إلى حظر استيراد النفط السوري. بذلك، تم قطع جميع العلاقات الاقتصادية الرسمية بين البلدين تقريبًا. وفي عام 2012، تبعتها أوامر تنفيذية إضافية استهدفت أفرادًا وكيانات محددة، متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان.
رابعاً: قانون قيصر (2020- 2025)في عام 2020، دخل «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين» حيز التنفيذ، والذي وقّعه الرئيس ترامب أواخر عام 2019.
أحدث هذا القانون نقلة نوعية في بنية العقوبات، حيث امتدت لتشمل كيانات وأفرادًا أجانب، ممن يدعمون النظام السوري عسكريًا أو يشاركون في جهود إعادة الإعمار.
أدى قانون قيصر إلى خلق حالة من الخوف لدى الشركات والمؤسسات الدولية، التي باتت تتجنب الانخراط في أي نشاط تجاري مع سوريا؛ خشية التعرض للعقوبات الأميركية، مما أدى إلى تعميق عزلة سوريا الاقتصادية دوليًا.
خامساً: رفع العقوباتجاءت مبادرة تخفيف العقوبات إثر إعلان مفاجئ للرئيس ترامب في 13 مايو/ أيار 2025، خلال قمة مجلس التعاون الخليجي في الرياض، حيث أشار ترامب إلى نيته «وقف العقوبات المفروضة على سوريا لمنحها فرصة للتقدم»، واصفًا تلك العقوبات بأنها «مُعيقة للغاية وشديدة القوة».
وتبنّت إدارة ترامب نهجًا مرنًا لا يقوم على إلغاء كامل للعقوبات، بل يُتيح تخفيفًا فوريًا مع الحفاظ على إمكانية إعادة تطبيقها إذا ساءت الأوضاع.
وقد أكد وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت على أن «الوزارة تعمل وفق تفويضات جديدة تهدف لتشجيع الاستثمار في سوريا»، مشددًا على أن «سوريا مطالبة بالمضي قدمًا نحو التحول إلى دولة مستقرة وآمنة».
سادساً: الترخيص الاقتصادي الشاملفي 23 مايو/ أيار 2025، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية، الترخيص العام رقم (25) GL 25، والذي يمثل أكبر خطوة نحو تخفيف العقوبات على سوريا منذ أكثر من عقد من الزمن.
يُعلّق هذا الترخيص غالبية العقوبات السابقة التي نصّت عليها لوائح العقوبات السورية، ما يسمح بإجراء نطاق واسع من التعاملات المالية التي كانت محظورة.
يشمل الترخيص ثلاثة مجالات رئيسية: السماح بتصدير الخدمات المالية إلى سوريا، وفتح المجال أمام فرص استثمارية جديدة، والسماح بالمعاملات المتعلقة بالنفط السوري ومشتقاته.
كما يشمل الترخيص الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع، بالإضافة إلى 28 كيانًا رئيسيًا مدرجًا في ملحق الترخيص، من بينها مؤسسات مصرفية كبرى مثل البنك المركزي السوري، والمصرف التجاري والصناعي والعقاري والزراعي، ومصرف الادخار.
وتعتبر هذه المؤسسات ضرورية لإعادة بناء الثقة المالية، وإدارة الرواتب الحكومية، وتشغيل المرافق العامة.
وفي سياق إعادة دمج النظام المالي، شكّل الترخيص العام رقم 25 اختراقًا كبيرًا للعزلة المالية الطويلة لسوريا، حيث رفع القيود عن مؤسسات مالية حيوية، خاصة مصرف سوريا المركزي، الذي حُرم سابقًا من الوصول إلى النظام المالي الدولي والعملات الأجنبية.
وفي إجراء مكمل، أصدرت شبكة إنفاذ الجرائم المالية (FinCEN) إعفاءً خاصًا، بموجب قانون باتريوت، يسمح للبنوك الأميركية بفتح حسابات مراسلة مع المصرف التجاري السوري بعد إغلاق استمر منذ أبريل/ نيسان 2006. هذه الخطوة تسهّل إعادة الاتصال بين القطاع المصرفي السوري والدولي وتحدّ من التعقيدات القانونية المتعلقة بالامتثال.
الإعفاء من قانون قيصر: القيود القانونية والاستجابة التنفيذيةيختلف قانون قيصر في طبيعته القانونية عن العقوبات التنفيذية التي تصدر بقرارات رئاسية، والتي يمكن تعديلها أو تعليقها بسهولة أكبر؛ إذ يُعتبر قانون قيصر تشريعًا صادرًا عن الكونغرس، ما يتطلب تدخّلًا تشريعيًا صريحًا لإلغائه بصورة نهائية.
وقد أقر وزير الخارجية ماركو روبيو بهذا الواقع القانوني، موضحًا أن الإعفاءات الحالية محدودة بفترة زمنية مدتها 180 يومًا، داعيًا في هذا السياق إلى ضرورة تحرّك تشريعي يضمن الإنهاء الدائم لهذه العقوبات.
إعلانوقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية إعفاءً مؤقتًا لمدة 180 يومًا، يوفر غطاءً قانونيًا للمشاركين من غير المواطنين الأميركيين في الأنشطة الاقتصادية التي يسمح بها الترخيص العام رقم 25.
وأوضح الوزير روبيو أن الهدف من هذه الخطوة هو تشجيع الاستثمار والتدفقات المالية التي تدعم الخدمات الأساسية وجهود إعادة الإعمار في سوريا، مؤكدًا التزام الولايات المتحدة الراسخ بمساندة الشعب السوري في بناء مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.
ويوفر هذا الإعفاء المؤقت مساحة قانونية مهمة للانخراط الاقتصادي، مع الإقرار بالتعقيدات السياسية والقانونية التي تواجه الحصول على إعفاء تشريعي دائم.
ورغم اتساع النطاق الذي يغطيه الترخيص العام رقم 25، فإنه استثنى بشكل واضح المعاملات المتعلقة بكل من روسيا، وإيران، وكوريا الشمالية، بهدف منع هذه الدول من الاستفادة بشكل مباشر أو غير مباشر من إعادة فتح الاقتصاد السوري.
كذلك أبقى الترخيص على القيود المفروضة على مئات الأفراد والكيانات المُدرجة ضمن قائمة الأشخاص المحظورين (SDN)، والتي يرتبط معظمها بشكل مباشر أو غير مباشر بنظام الأسد.
وأكد الترخيص أن تجميد الأصول أو الممتلكات المجمدة بتاريخ 22 مايو/ أيار 2025 سيستمر، ما لم تصدر لاحقًا تراخيص خاصة تسمح بفك التجميد عنها.
اعتبارات مراقبة الصادراترغم تخفيف القيود المالية واسع النطاق بموجب الترخيص العام رقم 25، فإن القيود على صادرات السلع والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، والتي يشرف عليها مكتب الصناعة والأمن (BIS) التابع لوزارة التجارة الأميركية، ما تزال قائمة دون تعديل.
يُنشئ هذا الواقع التنظيمي بيئة قانونية متداخلة ومعقدة، إذ يُسمح بالتعاملات المالية بشكل عام، في حين تبقى القيود التقنية المتعلقة بالسلع والتكنولوجيا سارية. ونتيجة لذلك، تواجه الشركات الراغبة في دخول السوق السورية تحديات إضافية في الموازنة بين تيسير العقوبات المالية من جهة، والقيود المستمرة على الصادرات التقنية من جهة أخرى.
إعلان الأبعاد السياسية والإستراتيجيةتشكّل هذه السياسة الجديدة بتخفيف العقوبات تحولًا مهمًا في إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وتمثل انتقالًا واضحًا من نهج العزلة العقابية إلى إستراتيجية إعادة الدمج المدروسة، وذلك عبر توظيف الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف أمنية إستراتيجية، دون التخلّي تمامًا عن أوراق الضغط المتاحة.
وتساهم هذه السياسة في خلق مناخ استثماري ملائم قد يؤدي إلى تعزيز الاستقرار المحلي، وتوفير حوافز اقتصادية تدعم الاستقرار المجتمعي وتقلّص من دوافع العنف.
ومن الناحية الجيوسياسية، تهدف هذه الإستراتيجية أيضًا إلى منح الشركات الأميركية فرصة مبكرة للمشاركة في إعادة الإعمار في قطاعات مهمة، مثل النفط، والبناء، والاتصالات، والخدمات العامة، ما قد يُساعد في موازنة النفوذ المتزايد لروسيا، وإيران، والصين في مرحلة تعافي سوريا.
إطار المشاركة المشروطةتمّ تطبيق تخفيف العقوبات وفق إطار واضح ومحدد بشروط، حيث يشترط على الحكومة السورية الجديدة الالتزام بحماية حقوق الأقليات الدينية والإثنية، وعدم توفير ملاذات للمنظمات الإرهابية.
وأكدت وزارة الخزانة الأميركية أن هذه التسهيلات ستظل مشروطة، وأن الإدارة ستراقب من كثب التطورات على الأرض مع احتفاظها بالحق الكامل في إعادة فرض العقوبات إذا لم يتم الالتزام بالشروط المحددة.
كما تواجه المؤسسات المالية الدولية تحديات خاصة في إعادة بناء العلاقات مع القطاع المصرفي السوري، تتطلب إصلاحات داخلية كبيرة لتعزيز الشفافية، وضمان الالتزام بالمعايير المالية الدولية.
ومن المتوقع أن تكون عملية إعادة دمج الاقتصاد السوري في النظام المالي الدولي تدريجية، وتعتمد على إعادة بناء الثقة، وإرساء آليات فعالة للرقابة، وإدارة المخاطر.
التداعيات والفرص الاقتصاديةيوفّر الترخيص العام رقم 25 فرصًا غير مسبوقة لمشاركة القطاع الخاص الأميركي في جهود إعادة إعمار سوريا، عبر السماح بفتح استثمارات جديدة في كافة المجالات الاقتصادية بعد فترة طويلة من العزل الاقتصادي.
إعلانويسهم هذا التطور في معالجة أزمة السيولة النقدية التي شهدتها سوريا جراء تجميد القنوات المصرفية الرسمية، واللجوء إلى القنوات غير الرسمية والنقد اليدوي لتسيير شؤون الاقتصاد اليومي. ويمكّن الترخيص المؤسسات العامة والخاصة من إعادة تشغيل آليات الدفع المصرفية، وأنظمة الرواتب، وبرامج التمويل، والإقراض.
وتواجه الحكومة السورية الجديدة في هذا الإطار مهمة حساسة تتعلق باستعادة الثقة في النظام النقدي الوطني، من بينها التوجه نحو نقل إنتاج العملة من روسيا الخاضعة للعقوبات إلى اتفاقيات تعاون جديدة مع ألمانيا والإمارات.
كما يمثل السماح بإجراء التعاملات المالية المتعلقة بالنفط السوري ومشتقاته أحد أبرز البنود في الترخيص العام رقم 25، إذ يفتح الباب أمام تدفقات مالية هامة يمكنها أن تدعم بشكل ملحوظ موازنات الحكومة السورية. كما يوفر هذا الانفتاح فرصًا استثمارية واسعة النطاق في قطاع الطاقة، ويؤسس لإعادة إحياء العلاقات التجارية النفطية بين سوريا والشركاء الدوليين.
الجدول الزمني للتنفيذ التدريجيتميّزت عملية تخفيف العقوبات بمنهجية تدريجية تُوازن بين المرونة التنظيمية والحذر في التطبيق. حيث يتيح الإعفاء المؤقت المحدد بـ 180 يومًا في إطار قانون قيصر مراجعة دورية من قبل الولايات المتحدة لمدى التزام الحكومة السورية الجديدة بالشروط المنصوص عليها.
ومع أن هذا النهج يسمح بقدر من المرونة، فإنه يُبقي في الوقت نفسه على حالة من عدم اليقين، ما يُعيق التخطيط الاستثماري طويل المدى.
وقد أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) عن خططه لإصدار إرشادات إضافية حول تطبيق الترخيص العام رقم 25، ما يؤكد أن عملية التنفيذ ستبقى متجددة وتتطلب تعديلات مستمرة بحسب التطورات على أرض الواقع، مما يوفر آلية لتصحيح الأخطاء المحتملة، ولكنه في الوقت ذاته يعزز من الغموض في المراحل الأولى من التطبيق.
إعلانخاتمة: يشكّل قرار إدارة ترامب برفع العقوبات الأميركية عن سوريا نقطة تحول تاريخية في العلاقات الأميركية السورية، وفرصة كبيرة لنهوض الاقتصاد السوري من الرماد.
من الناحية العملية، يعتمد نجاح هذه الخطوة على التوازن الدقيق بين ضمان امتثال الحكومة السورية الجديدة للشروط الأميركية، وبناء الثقة بشكل تدريجي مع المؤسسات المالية الدولية، وإدارة التنافس الجيوسياسي مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
كما تستلزم مواجهة التحديات البنيوية للاقتصاد السوري، خاصة إصلاح القطاع المصرفي، واستعادة الثقة في العملة المحلية، وإعادة بناء البنية التحتية التي دمرتها الحرب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline