لجريدة عمان:
2025-08-12@17:12:22 GMT

تكريم بائع صحف

تاريخ النشر: 12th, August 2025 GMT

اعتاد الناس أن يروا تكريم المشاهير والفنانين وأصحاب الإنجازات البارزة، فهذا أمر مألوف في حياتنا اليومية، إذ يسعى كثيرون إلى الأضواء وإلى أن يُذكروا في قوائم المكرمين. لكن حين يتجه التكريم نحو البسطاء، أولئك الذين يمارسون أعمالهم المتواضعة في ظاهرها، العميقة في أثرها، يصبح الأمر مختلفًا ونادر الحدوث. هؤلاء الذين لا تزين صورهم الصفحات ولا تتناقل أخبارهم وسائل الإعلام، ولا يسعون هم أنفسهم إلى لفت الأنظار أو التصفيق، هم الأبطال الحقيقيون للحياة اليومية، أو الجنود المجهولون الذين يواصلون العمل بصمت وإخلاص.

الأمثلة كثيرة لهؤلاء الأبطال الذين نلتقي بهم يوميا في حياتنا اليومية، فهم موجودون في كل ركن وزاوية من تفاصيل يومنا؛ كعامل النظافة والمزارع والحارس وساعي البريد وبائع الصحف ومزوّد الوقود وسائق الحافلة والبائع المتجول وكثير غيرهم، ممن نمر بجانبهم دون أن نلقي لهم بالا أو نعيرهم اهتماما، مع أنهم يكافحون بجهد وتفانٍ لتأمين لقمة عيش كريمة لأنفسهم ولأبنائهم. ورغم أن وسائل الإعلام نادرا ما تسلط الضوء على قصصهم وتضحياتهم، فإن بعضهم قد قضى عمره كاملا في هذه المهن، التي تمارسها أيديهم بكل إخلاص يومًا بعد يوم، دون أن ينالوا حقهم من التقدير والتكريم.

تكريم بائع صحف في العاصمة الفرنسية باريس ومنحه وسام الاستحقاق الوطني من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان خبرًا أثار الانتباه ووجه البوصلة نحو جهتين: البائع والصحف. الجهة الأولى، البائع، وهو علي أكبر، الرجل الباكستاني الذي أمضى خمسين عامًا يبيع الصحف الورقية على الرصيف نفسه في الحي اللاتيني. كان يوزع الابتسامات والنكات، ويعرف زبائنه بالاسم. ظل واقفًا هناك منذ قدومه من بلاده إلى فرنسا يبيع الصحف على المارة وكان الرئيس الفرنسي أحد زبائنه حين كان طالبا، أما الجهة الثانية التي أثارها هذا الخبر، فهي الاهتمام بالصحف والصحافة الورقية، التي أراها لا تقل أهمية عن النقطة الأولى، ففيها أيضًا معنى عميق في الحفاظ على الصحافة الورقية المكتوبة، ليس باعتبارها مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل كذاكرة حيّة تحفظ التاريخ، وتوثق الأحداث، وتنقل نبض الشارع بلغة الحبر والورق. فهي إرث ثقافي وفكري يعكس هوية الشعوب ووعيها، ويمنح القارئ فرصة للتأمل بعيدًا عن سرعة الشاشات وضجيج الأخبار العاجلة. 

قد لا نستطيع اليوم الاحتفاظ ببائع الصحف ولا ضمان استمرار صدور الصحف، فهنالك قوى وأحداث أكبر منا تحكم مسار الواقع، ولا نستطيع دائما أن نواكب ما يعيشه العالم من تغيرات متسارعة. وهذا ما ينطبق كثيرًا على واقع الصحافة والإعلام التقليدي، الذي يشهد تراجعًا تدريجيًا تحت وطأة الآلة الإعلامية الجديدة؛ الإعلام الرقمي، ووسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي الذي بات يغير مشهد الإعلام بشكل جذري، كما لم نشهد من قبل. ليس من السهل إيقاف هذا التيار أو عكسه، فالعالم اليوم يتجه نحو السرعة، واللحظة، والاستهلاك الفوري للمعلومات، الأمر الذي يضع الصحافة التقليدية في موقع تحد مستمر.

لكن رغم كل ذلك، هناك مساحة صغيرة يمكننا أن نصنع فيها فرقًا، ولو كان بسيطًا، من خلال الانتباه إلى تلك الزوايا الهادئة في حياتنا اليومية؛ مثل قراءة صحيفة ورقية صباحًا، أو التفاعل مع كتاب يُثري العقل، أو متابعة مجلة دورية تقدم محتوى معمقًا. إن تشجيع أنفسنا والآخرين على هذه العادات لا يعني فقط المحافظة على شكل قديم من الإعلام، بل هو فعل يؤكد على قيمة التأمل والتفكير العميق في زمن يطغى عليه الإيقاع السريع والمعلومات السطحية.

البشر بطبيعتهم يتأثرون بما يفعلونه من حولهم، خاصة القدوات الذين يمثلون لهم نموذجًا يُحتذى به في المجتمع. لذلك، يمكننا أن نكون جزءًا من هذا التغيير الإيجابي من خلال دعوتنا المتواضعة للاهتمام بتلك اللحظات الهادئة التي تمنحنا فرصة للتفكير والتعمق. فلو أن كل منا بدأ بهذه العادة، ولو بشكل بسيط، لكان ذلك كافيًا لصنع أثر يتسع مع الوقت، يحفظ جزءًا من جوهر الصحافة التقليدية وروح القراءة العميقة، ويمنح الأجيال القادمة فرصة لاكتساب معرفة وثقافة ليست مقتصرة على العناوين السريعة أو الأخبار المقتضبة.

في النهاية، قد لا نستطيع تغيير المشهد الإعلامي بالكامل، لكن يمكننا أن نُحدث فرقًا حقيقيًا في طريقة استهلاكنا للمعلومة، وأن نحتفي بالقيم التي تستحق البقاء، مؤكدين أن الإعلام ليس فقط نقل أخبار، بل بناء عقلٍ ووعي قادر على مواجهة تحديات المستقبل. وهذا ما تجسده قصة تكريم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبائع الصحف علي أكبر، الذي كرّم بوصفه رمزًا لصمود الصحافة الورقية والتزامها بالقيمة الحقيقية للخبر والإعلام. هذا التكريم ليس مجرد تقدير فردي، بل رسالة واضحة بأن الفروق الصغيرة في حياتنا اليومية، مثل الاهتمام بالصحافة التقليدية، يمكن أن تكون لها أصداء كبيرة وتُحدث تأثيرًا إيجابيًا عميقًا في المجتمع، يذكرنا بأهمية الحفاظ على جذورنا الإعلامية وسط زخم التغيير والتكنولوجيا المتسارعة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی حیاتنا الیومیة

إقرأ أيضاً:

انطلاق برنامج تدريبي لتأهيل الكوادر الإعلامية اليمنية في القاهرة

انطلقت في العاصمة المصرية القاهرة فعاليات الدورة التدريبية المتخصصة التي ينظمها المركز اليمني المستقل للدراسات الاستراتيجية ضمن إطار البرنامج التأهيلي للكفاءات اليمنية الذي افتتحه معالي الدكتور أبو بكر القربي وزير الخارجية اليمني الأسبق.

 

تحمل الدورة عنوان “المهارات الإعلامية الحديثة والإلقاء وصناعة المحتوى الإعلامي” وتهدف إلى رفع قدرات الإعلاميين اليمنيين ومواكبة التطورات الحديثة في مجال الإعلام وصناعة المحتوى.

 

وتستمر الدورة خلال الفترة من 9 وحتى 12 أغسطس 2025 بواقع ثلاث ساعات تدريبية يومياً من الساعة الرابعة عصراً وحتى السابعة مساء وتشمل محاور عملية وتطبيقية تهدف إلى إكساب المشاركين مهارات الإلقاء الاحترافي وصناعة المحتوى الإعلامي المتميز.

 

يأتي هذا البرنامج في إطار حرص المركز اليمني المستقل للدراسات الاستراتيجية على تمكين الكوادر الإعلامية اليمنية وتأهيلها بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الراهنة وسوق العمل الإعلامي,

وحاضر في الدورة كل من: أ/سمير السروري، باحث في سلك الدكتوراه في الصحافة والإعلام الحديث بالمملكة المغربية ومدير إدارة البحوث في وزارة الإعلام اليمنية ومذيع تلفزيوني والدكتور السعودي عيسى الربعي باحث في سلك الدكتوراه في الصحافة والإعلام بجمهورية مصر العربية وناقد تلفزيوني.

  

مقالات مشابهة

  • صوت غزة للعالم.. كيف تناول الإعلام الأفريقي اغتيال أنس الشريف ورفاقه؟
  • الحاج أبو محمد… بائع الأمل الذي تحدى الحرب بابتسامة
  • أنس.. الكلمة التي أرعبت الرصاصة
  • إعلام جنوب الوادي تشارك فى الكونجرس العالمي لتعليم الصحافة بسان فرانسيسكو
  • من ماسبيرو إلى الصحافة القومية.. خطة شاملة لإحياء الدور الإعلامي
  • «الشوربجي» يشكر الرئيس السيسي على تقديره لدور الصحافة والإعلام في بناء الشخصية المصرية
  • أحمد موسى: الصحافة والإعلام مهمتهما الدفاع عن قضايا الشعب المحلي والعربي
  • رئيس «الوطنية للصحافة»: اجتماع الرئيس السيسي وضع خريطة طريق شاملة لتطوير الإعلام
  • انطلاق برنامج تدريبي لتأهيل الكوادر الإعلامية اليمنية في القاهرة