كنتُ أقرأ مقال «تلك النار القادمة لجيمس بالدوين»، وهو في الأصل رسالة لابن أخيه الصغير عن هوية السود ومستقبلهم في أمريكا، عندما ومض هاتفي بإشعار من مجلة «ميجافون» اللبنانية بخبر وفاة زياد الرحباني، اتصلتُ بأقرب شخص لي، فعلتُ ذلك دون تفكير، بدا كما لو أن الخسارة شخصية، قلتُ: زياد توفي. لحظة صمت قبل أن ننهي المكالمة.
بدأت علاقتي مع زياد لا من ألحانه الرائعة لفيروز، بل من مجموعته الشعرية «صديقي الله»، حينها كنتُ أتعرف على نفسي، أحاول أن أفهم، وأن أستقل، أن أجد طريقي وطريقتي. عشتُ لحظات من الغيرة، المُحِررة، لأنه كتب المجموعة وهو في الثانية عشرة من عمره، ورغم أنني سيئة في الحفظ، خصوصا تذكر الشعر، بقي لي من تلك المجموعة ذلك السؤال: كيف تُظلم الدنيا/ وصديقي ما زال يلعب في الأحراج». عندما صدر الشريط الجديد لفيروز ٢٠١٠ «إيه في أمل» تملكتني الرهبة، كيف يمكن أن أصدق أنني أحيا في زمن فيروز، وأنها لا تزال تغني، وتُصدر «كاسيت»، يحدث هذا بعادية، ببساطة كانت فيروز تغني لنا! نحن أبناء هذا الزمن الذي أهلكتنا فيه الخسارات.
كان الشريط «مولود» يختبر فرد أطرافه في مناخ ثورات الربيع العربي، حينها تعرفتُ على وجه آخر لزياد، فلحنه لأغنية «إيه في أمل»، التي أعدت سماعها لدافع نرجسي، ورطني بمشروعه. كان زياد قد أنزل أمه من السماء، وفتح لها قاموس الأسى اليومي على الأرض، صوتها تغير أيضا فبدا ساخرا في بعض الأحيان، متراخيا، تهكميا، طفوليا، نزقا، كان قد حررها من تعالٍ روحاني، إلى أقدام أرضية روحانيتها في رقة اليومي والاستسلام له، لكن علاقتي بزياد ستعكس ما أظن أنه حالة من الإحباط واليأس من تغيير الواقع الذي أردنا تغييره.
كنتُ أحس بأن أغاني زياد، تنضح بالقوة، كانت القوة هي آخر ما أحتاجه وأنا في السابعة عشرة من عمري، بينما تشتعل ساحات العالم العربي. وإن كان ما حدث قد أوقد فينا حماسة، فإن بعضنا كان يمارس مهنة الخوف، والرعب مما سيكون، الرعبُ الذي نتمسك به كي لا نتوقع أي شيء ولا حتى الاحتفاظ بالقليل الذي نملكه أو يملكنا، كان سماع زياد هو الانغماس في قتال ما لم يُقتل آنذاك. كان يعني أن تسمع ما ينبغي أن تُعرض عنه، حتى بالنموذج الذي يقدمه لا في كلمات أغانيه ولحنه وتوزيعاته التي تشعر أنها تثب، ربما عليّ أن أستخدم كلمة تقفز فهي أدق، بل في طريقته لصناعة إرث خاص بعيدا عن «الآباء»، كأنما زياد لم يولد إلا ليكون نفسه، لن نقول: إنه ابن عاصي الرحباني وفيروز، فهو ظاهرة مستقلة، وحالة، ووجود سيشكل اللغة في لبنان وفي أماكن عديدة من العالم العربي، عبر استعارة نبرته، ووضوحه، ذلك الوضوح الذي رغم شقائه إلا أنه يأتينا بغير تكلف، تماما كما زياد، لا تُحس أبدا بأنه يتعب لكي يؤلف ويلحن ويغني ويكتب مقالات، ويقدم برنامج إذاعي ساخر لن ينساه التاريخ، زياد يفعل هذا كله كما لو أنها فطرته.
طبيعته الحتمية والمسلم بها، ليست الموهبة ما أعنيه فقط، إنها موهبة لا تفعل شيئا انطلاقا من معرفتها بذاتها، إنها تتحقق فقط، تتحقق ببداهة وعادية.
قطعت عهدي مع زياد، عبر تعلقي بشراكته مع فيروز في «أنا فزعانة» أو «شو بخاف» أو «حبوا بعضن تركوا بعضن» «اديش كان في ناس»، أعجبتُ بهذه الأغاني الحزينة جدا، حزن خافت، حزنٌ عادي أيضا، يمكن أن يكون حزن الجميع، أن تقول: أوه هذا حزني أنا، لكنه حزن الآخرين، كان في ألحانه سمة تجعل القصائد عمومية، مع ذلك لا تتنازل عما يجعلها تحفة فنية لن تنسى، إنها تصدر ضجة، لكنها ليست ضجة بليدة، تلك التي تريد أن تفرض سطوتها لذاتها، ضجة زياد تستولي علينا لأجلنا ولأنها ما ينقصنا.
تمثلت عبقرية زياد في أنه وبالإضافة لأغانيه التي وصفتها بالقوة، جعل من أغنياته العاطفية موقعا لتحقيق نضاله والحفاظ على انحيازه نحو ما آمن به، في تحايل مُعلن عنه على السلطة عبر السخرية من سذاجتها، فكان في أغنيات الحب موقع لتجريم الطوائف السياسية والدينية، أو الإعلان عن موقف سياسي ليس محايدا.
لم يكن زياد محايدا أبدا، وكان «لماحا» كما نقول في لهجتنا، لماح، يجيدُ استدراك ما يحدث في لبنان مثلا، أحيانا عبر التورية وأحيانا أخرى عبر تسمية كل شيء، التسمية التي ستصبحُ لغة الناس بعدها.
عندما سيُعلن مهرجان بيت الدين في لبنان عن حفل لزياد عام ٢٠١٨ سأذهب لبيروت، أريد رؤية زياد، المئات ممن حضروا في تلك الأمسية كانوا يرتدون قمصانا بأسماء أغانيه، معظمها لأغنية بـ «لا ولا شي»، بدا أن الجميع مستعد لأن «يحب بلا ولا شي»، أما أنا فكنت أريد أغنية بعينها لن أتخيل أبدا أن رغبتي ستتحقق لكنها تحققت عندما عزف زياد لمغنية شابة أغنية «ما تجي» كان ظهره مقوسا كما لو أنه أحدب، ولذلك فإن وجهه قريب من أصابع البيانو ينظر إليها على نحو قهري، حينها بدا أني حصلتُ على تميمتي أصلية وثمينة. لا أعرف إذا ما كان عمل زياد على أغنية «ما تجي» هو امتداد مقصود لأغنية «مافي حدا» لفيروز التي لحنها الأخوان الرحباني، هذه الأخيرة «مافي حدا ما تندهي ما في حدا» وزياد يقول: «لا تنطري حدا مش رح يجي حدا» ويبدو هذا التحول من النداء إلى الانتظار، أسى مستقبليا مهدت له أغنية الأخوين الرحباني، وزياد هناك في المستقبل يجيب على ذلك السؤال.
زياد أحببناك ولم نتعب أبدا، أنت لم تتعب أيضا، كنا مستعدين لنحبك لفترة أطول من هذه، من أجلنا ومن أجل فيروز، أما وقد غادرت عالمنا، فلنا أن نقول للحياة القصيدة التي لحنتها لفيروز، في التسليم بالخسارة الكبيرة، والاستعداد لهزائم أخرى قادمة في الطريق، وانتظار خيبة الأمل من استحالة التحرر الجماعي، خيبة الأمل من عدم القدرة على الحب بعد الآن (يمكن حبك جد... بس أنا تعبانة).
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ما الدعاء الذي لا يرد يوم الجمعة؟.. آية تقيك المصائب وتنصرك
يبحث الكثيرون كل أسبوع عن ما هو الدعاء الذي لا يرد في يوم الجمعة ؟، لما عرفوا فضله العظيم ، وذلك ليس فقط من كون دعاء يوم الجمعة من الأدعية المستجابة وإنما لأنه أيضًا أحد الوصايا النبوية الشريفة الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، حيث حثنا على اغتنام دعاء يوم الجمعة وتحري ساعة الاستجابة، ولعل هذا ما يفسر بحثهم عن ما هو الدعاء الذي لا يرد في يوم الجمعة ؟، فبه تفتح أبواب الفرج وتُقضى حوائجهم وينالوا السعادة في الحياة والفوز في الدنيا والآخرة.
ورد في سؤال : ما هو الدعاء الذي لا يرد في يوم الجمعة ؟، أن يوم الجمعة هو يوم عظيم مبارك، حيث تتنزل فيه الرحمات وتحتفل فيه الملائكة في السماوات العُلى وهو عيد المُسلمين، كما أن فيه ساعة إجابة، لذا ينبغي أن يتحراها الإنسان.
وجاء في إجابة سؤال: « ما هو الدعاء الذي لا يرد في يوم الجمعة ؟»، أن في يوم الجمعة ساعة إجابة، لذا ينبغي أن يتحراها الإنسان، والعمل فيه أعمالًا صالحة، وأن يذكر الله، وأن تخشع القلوب، والجوارح ساكنة خشية لله تعالى.
وورد في إجابة سؤال: ما هو الدعاء الذي لا يرد في يوم الجمعة ؟، أنه ما ورد بقوله تعالى: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» الآية 286 من سورة البقرة.
وفي تفسيره، ورد أن ( ربنا لا تؤاخذنا إن [ نسينا ] ) أي : إن تركنا فرضا على جهة النسيان ، أو فعلنا حراما كذلك ، ( أو أخطأنا ) أي : الصواب في العمل ، جهلا منا بوجهه الشرعي ، وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة : " قال الله : نعم " ولحديث ابن عباس قال الله : " قد فعلت " .
وروى ابن ماجه في سننه ، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن عطاء قال ابن ماجه في روايته : عن ابن عباس . وقال الطبراني وابن حبان : عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .
وقد روي من طرق أخر وأعله أحمد وأبو حاتم والله أعلم . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه " قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .
وقوله : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) أي : لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثت نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ، من الدين الحنيف السهل السمح .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : نعم " ، وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : قد فعلت " . وجاء الحديث من طرق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " .
وقوله : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) أي : من التكليف والمصائب والبلاء ، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به ، وقد قال مكحول في قوله : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : الغربة والغلمة ، رواه ابن أبي حاتم ، " قال الله : نعم " وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : ( واعف عنا ) أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، ( واغفر لنا ) أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، ( وارحمنا ) أي : فيما يستقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره . وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم . وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : ( أنت مولانا ) أي : أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك ( فانصرنا على القوم الكافرين ) أي : الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ، ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم . وفي الحديث الذي رواه مسلم ، عن ابن عباس : " قال الله : قد فعلت " .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، أن معاذا ، رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة ( فانصرنا على القوم الكافرين ) قال : آمين ، ورواه وكيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل : أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين .
أفضل دعاء يوم الجمعةوكذلك قوله تعالى: «رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ » الآية 192 من سورة آل عمران، وقوله تعالى: «رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ» الآية 193 من سورة آل عمران.
وهناك أدعية أخرى تعد من أفضل دعاء يوم الجمعة ، هي: ربي اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، فإنك أنت الأعز الأكرم، اللهم إنا نسألك بموجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، بالإضافة إلى أن كل ما يأتي على لسان الإنسان من دعاء طيب، فليدعو به ربه، فالمسألة ليست مُقيدة في موضوع الدعاء.
فضل يوم الجمعةوأوضحت دار الإفتاء، أن من خصائص الأمة المحمدية، مستشهدة بحديث رسول الله« أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا؛ فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا فَهَدَانَا اللهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ، وَالسَّبْتَ، وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ»
وأضافت أن يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين، ذاكرةً أنّ من مات في يوم الجمعة، أو ليلتها وقاه الله فتنة القبر، مستشهدة بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حيث قال: قال رسول الله صل الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا وَقَاهُ اللهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ،
وفي سياق حديثها عن فضل يوم الجمعة، ذكرت حديث رسول الله« خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ»