#دحض_الباطل
د. #هاشم_غرايبه
في منشور لأحد المتذاكين، يقدم شكره وعرفانه بجميل من يدعوهم بالكفار، على أنهم يقدمون النفع للبشرية، وينشرون المحبة ويحافظون على حقوق الإنسان، فيما المسلمون عالة على اختراعاتهم ولا ينشرون الا الموت والدمار، ولا ينسى في خضم تذكيره بابداعات هؤلاء أن يلحق أتباع كل الديانات (ما عدا الإسلام) بقائمة الخيّرين النافعين.
يعتقد هذا أنه يمكن أن يمرر حديثه هذا بحجة نقد الواقع المريض من أجل إصلاحه، لكن المتمعن في حماسته المبالغة فيها لمعادي الإسلام، لا شك سيتنبه لمسعاه الخبيث بهدف نشر الإحباط والتيئيس لتبرير الإستسلام للأعداء.
إن انتشار عاهة الإسلاموفوبيا بين بعض مثقفينا، ظاهرة استشرت مع الحملة الصليبية الأخيرة (الحرب على الإرهاب)، قد نتفهم النظرة المتعصبة لدى الغرب، فلذلك جذور تاريخية من الصراع المتواصل، لكن أن يتشرب الفكرة ويتحمس لها مثقف من أبناء الأمة، فهذا خلل ولكنه لا يعدو إصابة أصابت أحد إثنين: الأول من المنافقين التاريخيين الحاقدين على الإسلام، وهؤلاء ليس لعلتهم دواء، والثاني شخص عمي عن الصواب، اشترى بآيات الله ثمنا قليلا، قد يكون وظيفة أو دعما في إحدى المنظمات التابعة لأعداء المسلمين.
مشكلة ليست في هؤلاء، فهم آفة موضعية من جسم الأمة، لكن ضررهم في نشر الأفكار التي تضعف من مقاومة الأمة فتفت من صمودها لتسقط في فك الأعداء الشرهين.
دحض حجج هؤلاء المغرضين سهل، ولا تحتاج إلا لكشف تزييفهم للحقائق، لكني لا أكتب بهدف استعادتهم لصف الأمة، فمن أعمى الله بصائرهم عن رؤية الصواب، لا يمكن هداية بصيرتهم لاتباع الحق. إنما لإجل رفع مقاومة أبناء الأمة ممن يستهدفونهم بتضليلهم بهدف إحباطهم وإفقادهم الأمل بالخلاص من براثن الغزاة.
إن ما يدعيه هؤلاء من أن الغرب لا همّ له إلا انقاذ البشرية من الأمراض، وتسخير علمه لصناعة ما فيه خير الناس وسعادتهم، هو تزييف وتدليس، فالدوافع وراء البحوث الطبية هي تحقيق الشركات الربح الهائل، بدليل أن كثيرا من الأوبئة ثبت أنه تم نشرها من قبل تلك الشركات الكبرى.
أما أن الأوروبيون هم ناشرو حقوق الإنسان والتنوير والمعرفة، فيثبت التاريخ عكس ذلك، ولعل قصة الإستكشافات الجغرافية التي علمونا في المدارس أنها رسالة الغرب الحضارية، بينما هي في حقيقتها استعمار واسترقاق وأطماع في خيرات الآخرين.
سأتحدث في هذا الشأن عن منطقة محددة وهي الفليبين
تقع الفليبين في جنوب شرقي آسيا على شكل أرخبيل يضم أكثر من سبعة آلاف جزيرة، وهي الدول العامرة بالخيرات والثروات الطبيعية ممَّا جلب عليها أطماع الدول الأوروبية، لكن الملاحظ ان جيرانها اليابانيين والصينيين تطوروا وتقدموا مع أن خيرات بلادهم أقل، السبب الوحيد هو أنهم لم يُستدفوا بأطماع المستعمرين الأوروبيين.
انتشر الإسلام في جزر الفليبين كما في باقي مناطق جنوب وشرق آسيا في منتصف القرن الثالث الهجري عن طريق التجار، لكنه تعزز بنزوح كثير من العلماء إليها بعد سقوط بغداد بيد هولاكو.
بدأ الاحتلال الأسباني للفليبين سنة 1565 م، أي بعد قرابة الخمسين عامًا من وصول ماجلان لشواطئها، وبعد قتال عنيف ومرير استولى الأسبان على مملكة «راجا سليمان» في الشمال، ودمر عاصمتها (أمان الله) وأقاموا مكانها مدينة جديدة أسموها (مانيلا).
وخلال تلك الحروب كلها استخدم الأسبان كل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية، وتعاون معهم الهولنديون (رغم العداوة الشديدة مع الإسبان) الذين كانوا يحتلون اندونيسيا وصبغوها بصبغة دينية مقيتة، مما يكشف النزعة الصليبية.
استمرت المقاومة الإسلامية في الفليبين بقيادة أبطال دوخوا المستعمرين أمثال “ديبتروان قدرات” والسلطان “نصر الدين” ضد الاحتلال الأسباني حتى عام 1898، حينما اضطر الحاكم الإسباني الى الهرب الى هونج كونج، وبعدها باع الإسبان لأمريكا الفلبين وكوبا وبورتريكو لقاء خمسة ملايين دولار.
استكمل الأمريكان محاربة المجاهدين عن طريق تعزيز التنصير ومحاصرة وتجهيل المسلمين حتى اعلان استقلال الفلبين الصوري عام 1946 ، بعده استمر عملاؤها بالبرنامج ذاته، وشكل “ماركوس” منظمة”إيلاجا” الإرهابية التي كانت تثير الذعر في قرى المسلمين.
والى اليوم يعتبر الغرب مجاهدي جبهة تحرير مورو إنفصاليين، ولا يعترف بحقهم بالإستقلال فيما دعم استقلال مسيحيي جزيرة تيمور عن اندونيسيا الإسلامية.
فهل ذلك يتوافق مع حقوق الإنسان التي يقول ذلك المتذاكي أن الغرب يقدسها!؟. مقالات ذات صلة هل سيعيد الأشرار عجلة التاريخ إلى عقد الثمانينات ؟ 2025/08/05
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
مفاجأة زلزلتني: من «العالم العربي» إلى «الملفات».. (1- 3)
د. مجدي العفيفي
كيف تحوّلنا من أُمَّة إلى حدود؟
(1)
حدث أن جلستُ ذات يوم مع رجل كان يحمل على كتفيه ثقل دولةٍ تعدّ من أقدم الديمقراطيات الغربية، ومن أشرس القوى العسكرية في العالم: وزير الدفاع الفرنسي في الثمانينيات.
حوار طويل دار بيننا، تجوّلنا فيه بين خرائط التاريخ وموازين الجغرافيا وإيقاعات القوة والنفوذ..
كان ذلك وانا أعيش في سلطنة عُمان، وكنت مراسلًا صحفيًا لعشر صحف ومجلات عربية وأجنبية في عنفوان الشباب والصحافة، في ضياء عملي التأسيسي المشارك في الإعلام العُماني ابداعا وانتاجا وصناعة وصياغة..
كنت أتحدّث مع ذلك الرجل «الغربي» بعفوية «العربي» الذي تربّى على لغة المجد والقصائد، على الأغاني الوطنية والصور المثالية المكتنزة بالأساطير.
فسألته.. بتوقٍ صحفي أكثر مما هو سؤال واقعي:
كيف ترون العالم العربي؟
هذه قلب العروبة النابض.. وهذه لؤلؤة الخليج.. وتلك بوابة العرب الشرقية.. وهذه سلة الغذاء العربي. وتلك أم الحضارة.. وهذه أصل العرب.. و..و..و..
توقعت أن يبتسم.. أن يوافق.. أن يدير حديثًا دبلوماسيًا.
لكنّه قلب الطاولة بكلمة واحدة زلزلت وجداني، وهدمت ألف نشيد كنت أحمله في صدري:
«ما هذه الألقاب»؟ نحن لا نعرف شيئًا اسمه «عالم عربي» نحن نتعامل مع (ملفات): الملف المصري، الملف السوري، الملف السعودي... وهكذا.
(2)
توقفت الكلمات داخلي.
كانت اللحظة كافية لأفهم أن الفجوة ليست في السياسة فقط، بل في الوعي.
الفجوة ليست في القوة، بل في إدراك القوة.
نحن نحب أن نسمي أنفسنا: أمة.. لكن الآخر لا يرانا كذلك.
نحن نغني: "بلاد العرب أوطاني".. بينما هو يضع كل دولة منا في سطر منفصل، جدول منفصل، خريطة نفوذ منفصلة، و"أجندة" لا تشبه الأخرى.
نحن نتماهى مع صورة رومانسية.. وهو يتعامل مع واقع استراتيجي صارخ.
نحن نحلم.. وهو يخطط.
نحن ننفعل.. وهو يحسب.
(3)
قلت في نفسي: أيّ مأساة هذه؟ من المسؤول عن تحويل الأمة التي امتدت من طنجة إلى بغداد إلى مجرد أوراق في درج موظف عسكري في دولة أجنبية؟
الصدمة ليست في أنه قال ذلك.. الصدمة في أنه كان صادقًا.
نحن من صنعنا هذه الحقيقة.. بتواطؤٍ ناعم، بتفككٍ طوعي، بنظام عربي يشبه "عمارة" قديمة كل شقة فيها تضع لنفسها بابًا حديديًا مضادًا للسرقة.. ليس خوفًا من الأجنبي.. بل من الجيران.
لقد نجحنا بامتياز: أن نحيا معًا.. لكن منفصلين.
أن نتحدث لغة واحدة.. لكن دون وعي واحد.. أن نحمل تاريخًا واحدا.. لكن دون مصير واحد.
الغرب لا يصنع لنا صورتنا.. نحن من قدمنا له الصورة جاهزة على طبق من ضعف.
حين انقسمنا.. قالوا: ملفات.
حين تحاربنا.. قالوا: ملفات.
حين جعلنا كل قُطر "أُمة" بذاته.. قالوا: ملفات.
فالسياسة ليست شعارات.. السياسة سجلات ومصالح وتوازن قوى، والقوة لا تُقاس بعدد الخطب.. بل بمدى حضورك على طاولة القرار.
(4)
لكن ما الذي جعلني أكتب هذا الآن؟
لأننا في هذه اللحظة التاريخية، في هذا الزمن الذي تتفكك فيه الخرائط ويتغير شكل العالم، نكرر الخطأ نفسه:
نصفق للألقاب.. نتمسّك بالروايات.. نرسم صورًا لا يسكنها إنسان.. نقول: واقع عربي واحد، بينما الحقيقة: ألف واقع.. نقول: مصير مشترك.. بينما المصير أصبح مزادات نفوذ.
نقول: تاريخ واحد...والتاريخ يُعاد كتابته كل يوم على يد غيرنا.
المسألة ليست يأسًا، وليست «نوستالجيا» (حنين) واستعادة فارغة للماضي؛ بل هي شهادة على لحظة وعي: لن تُحلّ قضايانا ما دُمنا نُعامل أنفسنا كجزرٍ معزولة.
ولن يحترمنا العالم إذا لم نعد نرى أنفسنا كأمّة أولًا.
القضية ليست سياسية فقط، بل ثقافية:
حين نُربّي جيلًا على أن "الوطن" هو فقط الحدود الجغرافية التي ولد فيها.. سنخسر!
حين ننسى أن اللغة ليست مجرد حروف، بل جسد يفكر.. سنخسر!
حين نسمح لليأس أن يتحول إلى نظام تفكير.. سنخسر!
الأمة ليست شعارًا.. الأمة خيار.. الأمة مشروع.. الأمة مسؤولية.
لم يكن الوزير الأوروبي يتحدث بكُرهٍ أو احتقار، كان يتحدث بمنطق الدول، ولم يكن يطرح رؤية صدامية (shock value) بقدر ما كان مُتفحصًا للواقع (reality check).
لقد أراد أن يقول لي، دون أن يقول: «من لا يتوحَّد.. يُدار».
ومن لا يعرف نفسه.. سيُعرّفه الآخر.
ومن لا يصنع تاريخه.. سيُكتب تاريخه عليه.
واليوم.. ربما نحتاج لتلك الصفعة ذاتها.. لنهدم الصورة القديمة كي نصنع صورةً جديدة، صورة لا تُبنى على الحنين.. بل على الإرادة.
فالسؤال الحقيقي ليس: كيف يروننا؟ بل: كيف نريد أن نكون؟
والأخطر من ذلك: هل نملك الشجاعة أن نتوقف عن الغناء.. لنبدأ العمل؟ لأن الأمم لا تُعرَّف بالأغاني.. بل تُعرَّف بما تفرضه على طاولة العالم.
(5)
اختراع القُطريات..
إذا أردنا فهم كيف خرجنا من صورة «الأمة» إلى حالة «الملفات»، فيجب أن نعود إلى اللحظة التي تغيّر فيها شكل الوعي العربي نفسه.. فالأمة ليست جغرافيا، وليست حتى تاريخًا؛ الأمة تخيّلٌ جماعي. وما يُكسر أولًا في الأمم هو المخيّلة المشتركة.
أولا: عندما قسّمونا.. فلم نمانع؛ فبعد الحرب العالمية الأولى، وبتحديدٍ أدقّ بعد إسقاط الامبراطورية العثمانية، لم يسأل الغرب العرب: «إلى أين تريدون أن تذهبوا بمستقبلكم؟» بل طرح سؤالًا آخر تمامًا: «كيف نُقسّمكم؟». ثم جلس البريطاني والفرنسي حول خريطة لا تعرف الشعب ولا اللغة ولا الذاكرة ولا القبيلة ولا الحضارة… خطّوا حدودًا باردة بقلم رصاص، ثم مرّروا فوقها قلم حبر، فأصبحت دولًا.
ولأول مرة منذ 14 قرنًا، أصبح العربي ينتمي إلى دولة قبل أن ينتمي إلى الأمة.. صار المصري «مصريًا قبل أن يكون عربيًا» واللبناني «لبنانيًا قبل أن يكون عربيًا» والعراقي «عراقيًا قبل أن يكون عربيًا»، ولم يكن ذلك صدفة.. كان مشروعًا كاملًا.
ولهذه السردية المؤلمة بقية!!
رابط مختصر