جريدة الرؤية العمانية:
2025-08-06@19:17:56 GMT

الوجدان الإنساني

تاريخ النشر: 6th, August 2025 GMT

الوجدان الإنساني

 

صالح بن ناصر القاسمي

الإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس، التي تشكل شخصيته بناءً على تراكمات زمنية لتلك المشاعر، وهذه المشاعر إما أن تكون إيجابية أو سلبية، تلك الأحداث المؤثرة التي تختزل في الذاكرة الإنسانية، وهي بمثابة البوصلة العاطفية التي تتحكم بعلاقات الإنسان مع الآخر.

وتلك المشاعر والأحاسيس هي التي نطلق عليها الوجدان، وبناءً عليه تتشكل ميول الإنسان واتجاهاته وتحالفاته، وكذلك تلك الترسبات ينتج عنها مخزون الحب والكره.

وللتوضيح أكثر، فإن الوجدان هو مجموع المشاعر والانفعالات التي تسكن الإنسان، سواء كانت في وعيه أو في لا وعيه، وهو يمثل الجذر العاطفي الذي تتغذى منه مواقفه وعلاقاته وتصوراته.

سؤال مهم دائمًا ما نسأله أنفسنا: لماذا نكره شخصًا بعينه، أو حتى شعبًا بعينه؟ والسؤال ذاته: لماذا نحب شخصًا أو شعبًا؟
الحب والكره لا ينتجان نتيجة موقف معين عابر، وإنما نتيجة مواقف متكررة استطاعت أن تتمكن منا ومن وجداننا بالمعنى الصحيح، وسيطرت على مشاعرنا وعواطفنا حتى أصبحنا لا نملك إلا أن ننجرف معها لنصل إلى اتخاذ موقف يحقق لنا الارتياح النفسي.

وهنا لا بد من العودة إلى الطفولة، حيث نبدأ بتكوين مشاعر الحب والكره، فنحب من يقدم لنا أية خدمة، بل من يسدي إلينا الإحسان، فتجدنا نعشق الأم والأب اللذين يحتوياننا برعايتهما وحنانهما، نحب إخوتنا وأخواتنا الأكبر منا، الذين يقدمون لنا ذلك الحب النقي ويشملوننا بتلك العاطفة الصادقة، وفي تلك المرحلة تتعزز، بل وتنشأ الرابطة الأسرية التي تقوى مع مرور الزمن.

وقد صوّر لنا القرآن الكريم قوة ومتانة تلك العلاقة عند معرض ذكر مشاهد يوم القيامة وانفراط عقد الرابط المتين الذي كان يجمع الأسرة، فقال تعالى: "يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" (عبس: 34–37).
فالقرآن الكريم هنا يصوّر لنا أن كل أفراد الأسرة التي كانت تربطها تلك العلاقة القوية في الدنيا، ينشغل كل واحد من أفرادها بنفسه من هول مشهد يوم القيامة.

وما يهمنا هنا أن نؤكد على مسألة تكوين الوجدان لدى الإنسان، الذي يبدأ معه من بداية ترعرعه ونشأته في كنف الأسرة، لينطلق بعد ذلك ويتوسع نطاق الوجدان، فيتفاعل مع ما حوله من تجارب ومؤثرات.

نعم، فالحياة تزخر بالمواقف والتجارب المتنوعة التي تصقل شخصية الإنسان، وتضعه في مواجهة دائمة مع مشاعره وأحكامه، ليخوض تجاربه الإنسانية بحلوها ومرّها، بخيرها وشرّها، ويبدأ معه الوجدان بممارسة دوره وتأثيره على مجريات الأمور في حياة الإنسان، ويبدأ المخزون النفسي بتأثيره المباشر في حالات الحب والكره.

وينبغي علينا هنا أن نعطي الوجدان درجة أعلى من تلك التي نطلق عليها الحالة المزاجية، فهذه الأخيرة إنما تكون مؤقتة بفترة زمنية محددة، وغالبًا ما تكون قصيرة مقارنة بالحالة الوجدانية التي أصبحت جزءًا من التكوين النفسي، بل العقلي، للإنسان.
فالمزاج يتغير في ساعات، أما الوجدان فهو جزء من بنيان الشخصية وثابت في أعماقها، يؤثر في التفكير والسلوك دون أن نشعر أحيانًا.

إذًا، فإن الوجدان الإنساني بهذا الوصف يرتبط بالروح ارتباطًا وثيقًا، وهو المحرك والمؤثر الأول في تحريك المشاعر، والمنسق مع العمليات العقلية التي تعطي الإنسان الخيارات المتاحة، ليتمكن عندها من اتخاذ القرار الذي يراه مناسبًا ويتفق مع الحالة الشعورية التي يوفرها المخزون الوجداني، ويعتمد على مدى قوة تأثير تلك الحالة.

إن الأحاسيس الوجدانية هي خليط بين الحالة الشعورية الواعية، وبين تلك المختزلة في الشعور اللاواعي، فهي تتفاعل بسرعة ودقة متناهية تجعل الإنسان يقدم على اتخاذ قرار حاسم في لحظة مفصلية وتاريخية، نتيجة تفاعلات فكرية في الوجدان.

في تلك اللحظة المفصلية عند اتخاذ القرار السريع، يكون الإنسان في لحظة إدراك تام لمشاعره الوجدانية، وهنا تتفاوت القدرات الإنسانية بناءً على مدى التفاعل الوجداني لكل إنسان، فهناك فروقات في القدرات لدى البشر، تعتمد على مدى تفاعلهم الوجداني، أو ما نستطيع أن نطلق عليه الذكاء الوجداني، أي قدرة الإنسان على إدراك مشاعره ومشاعر من حوله والتفاعل معها بوعي وفعالية.

ومع امتداد تأثير الوجدان في حياة الفرد، يبرز تساؤل أكبر:
هل هناك وجدان جمعي، أو أممي، أو حتى إنساني؟

لا شك أن الوجدان عام وشامل، فهناك الوجدان الجمعي الذي يمثل المجتمع، وهناك الوجدان الأممي الذي يمثل أمة من الأمم، وهناك وجدان أعم وأشمل يمثل الإنسانية، وهو يمثل هرم الأخلاق في سموّها وتجلياتها.

فالمجتمعات إنما يتولد لديها وجدان عام نتيجة التجارب العامة التي مرّت بها، فالتاريخ الخاص بالمجتمعات إنما هو يمثل وجدانها، لذلك نجدها -أي المجتمعات- تتذكر المناسبات التي كانت لها علامات فارقة في مسيرتها، سواء كانت تلك المناسبات إيجابية أو سلبية، فالألم والفرح إنما يمثلان هنا الوجدان، الذي يعتبر القلب النابض للمجتمع، والذاكرة المرجعية لأفراده.

ولعلنا نلاحظ -على سبيل المثال- كيف أن بعض الشعوب تعيش ذكرى نكبة أو نصر كما لو أنها حدثت بالأمس، لا لأنها لم تنس، بل لأن وجدانها ما زال محتفظًا بأثرها الحي.

وكذلك الأمم لها وجدان، وهو أوسع وأشمل، على اعتبار اتساع الرقعة الجغرافية، وما يصاحبها من أحداث عظيمة، تصنع تاريخها وتمثل مبادئها وقيمها، وعلى اعتبار تنوع تلك الأحداث وما تنتجه من آثار ذات وقع عالٍ في حياة الأمم.

فعلى سبيل المثال -وليس الحصر- لو أخذنا تاريخ الأمة الإسلامية، وما مرّت به من عملية تكوين وتأسيس، وما شملته من تنوع في الأعراق والأجناس، وما مرت به من حروب داخلية وخارجية، وما نتج عن كل ذلك من تاريخ وأحداث تجذّرت في داخلها، وصنعت لها وجدانًا لا زال يؤثر في قراراتها حتى اللحظة، والذي سوف يستمر تأثيره مستقبلًا.

وكم شاهدنا الصراعات الفكرية لمجرد أن المجتمع شعر في لحظة أن أحد ركائزه أو معتقداته مهدد من قبل جهة ما، حينها يصحو الوجدان الذي يمثل الأمة، وينبري مدافعًا عن تلك الثوابت.

ولا نغفل أيضًا عن ذلك الوجدان الذي يمثل الإنسانية، وهو هنا يمثل الأخلاق العالمية، مثل: الحرية، والكرامة، والعدالة، وحرية التعبير، وغيرها من المبادئ والقيم العالمية، التي لا تُختصر أو تُختصّ بمجتمع دون الآخر، فكثيرًا ما نجد العالم -الذي يعد نفسه عالمًا متحضرًا ومدنيًا- يرفع صوته عاليًا عند تعرض تلك القيم إلى التهديد أو الانتهاك، بغضّ النظر عن هوية ذلك المجتمع.

ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك: ما حدث من تعاطف عالمي عند رؤية صور أطفال الحروب أو الكوارث البيئية الكبرى، حيث ارتفعت أصوات الشعوب والمنظمات في وجه الظلم أو الإهمال، وهذا بحد ذاته تجلٍّ للوجدان الإنساني المشترك.

ونستطيع أن نطلق على ذلك الوجدان الإنساني العالمي مصطلح الضمير الإنساني، الذي تعدّى حماية الإنسان ليشمل الحيوان، والبحار، والأشجار، والطير، لإيمانه بأن الإنسان معنيّ بحماية العالم الذي يعيش عليه، والذي ميّزه الله وخصّه وكفله بحمايته وعماراته.

وفي الختام، فإننا مطالبون بأن ندرك ونعي أن الوجدان هو مسرح عمليات اتخاذ القرارات، وأن تلك القرارات إنما هي نتاج ذلك المخزون من المشاعر والأحاسيس التي تم تغذية الوجدان بها منذ بداية إدراكه.

فلنتأمل مليًّا: ماذا أودعنا في وجداننا؟ وهل هو اليوم مرشدٌ لنا أم عبءٌ علينا؟ وهل نملك شجاعة إعادة تشكيله بما يليق بإنسانيتنا ووعينا؟

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ما الذي جرى؟

 

 

الدكتور / الخضر مجمد الجعري

 

عاش الشعب منذ حرب ٢٠١٥م ومابعدها عشر سنوات هي الأسوأ في التاريخ الحاضر..فقد عانى الناس من الجوع والفقر المدقع وانتشرت الاوبئة وتدهورت معيشة الناس وانهارت العملة وتدهورت الخدمات من تعليم وصحه وكهرباء وماء وحصلت تغيرات عميقة في المجتمع كبنية وأخلاق وانتشرت حتى المخدرات التي لم يكن لها وجود حتى في. مخيلة أي مواطن ..

ظلت الناس تعاني تدهور مريعا في كل مناحي الحياة..

ضعفت قدرات الناس الماديه ومرض الكثير من المواطنين دون أن يلاقوا حتى قيمة العلاج وفي مقدمتهم الكثير من المبدعين والفنانين..لم يلتفت إليهم أحد ومات كثير من الناس في بيوتهم وحيدون دون أن يعرف بهم أحد ..ظلت الناس ترفع أصواتها وتتظاهر وتكتب في المواقع والصحف عن هذا الوضع المأساوي ..وكل النداءات والمظاهرات والكتابات ذهبت أدراج الرياح..

الى ان جاءت انتفاضة حضرموت المباركة ..بعد بلغ بالناس الوضع مبلغ لم يعد معه أي قدرة على الأحتمال أكثر فخرجوا الناس وتظاهروا بل واقتحموا المؤسسات ليس حبا في الفوضى بل لعل هذا الزلزال يعيد التوازن للسلطة في مراجعة موقفها وان تلتفت إلى معاناة الناس…بعد أن صمت أذانها سنين طويلة..

أدركت الحكومة والتحالف بان الوضع يكاد يخرج عن السيطرة وأن تنتقل العدوى إلى بقية المحافظات لتعصف بالكل..فمن هنا أجتمع أهل الحل والعقد وقرروا فجأة إيقاف التدهور المريع في العملة ومعالجة أسعار الصرف مع مؤسسات الصيارفة واسعار المواد الغذائيه مع مؤسسات التجار..كل هذا تم فجأة ؛

وسواءا كان هذا التدبير للمعالجة صدر من اقتراحات البنك المركزي او من اجراءات الحكومة فإن المهم ان يصبح ماتحقق خلال أيام قليله مكسب في تثبيت قيمة العمله وأسعار الصرف وقيمة المواد الغذائيه وأسعار الوقود..

وان يكون لهذا الإجراءانعكاسه و أثره الإيجابي على تحسن الخدمات

من كهرباء ومياه ورواتب والاستعداد لحل مشكلة المعلمين حتى يعود الطلاب إلى مدارسهم وان تتحسن الخدمات الطبية وان تتحسن أسعار الأدوية اللا معقولة..

ماجرى امر محير لايجد المواطن العادي له تفسير سوى ان الارادة السياسية قد توفرت هذه المرة وان أطراف السلطة قد شعروا بالخطر..وان ماجرى يرجع الفضل فيه إلى انتفاضة أبناء حضرموت المباركة التي أعادت وضع الهرم. إلى وضعه بعد ان كان مقلوبا..

نأمل أن تنفذ الحكومة إجراءاتها بكل حزم وان تتصدى لكل هوامير الفساد ان حاولوا العودة إلى الخلف او وضع عراقيل اقتصادية لتعيد الوضع السابق ؛ وان على البنك المركزي ان يضع حلول عملية ومستدامة وليس إجراءات مؤقته تذهب في مهب الريح أمام ابسط عاصفة تهب.

لاتتركوا الناس تنكسر فربما هذه أول فرحة منذ عشر سنوات..

مقالات مشابهة

  • النمر: كتم المشاعر يؤذي صحة القلب
  • الرئيس المصري: مواقف الأشقاء العرب ستظل راسخة في الوجدان الوطني ولن تُنسى أبدًا
  • «الشوربجي»: تقدير الرئيس السيسي لجريدة الأهرام يمثل دعمًا وحافزًا للصحافة القومية
  • زياد الذي يلهو وينتظر
  • هيئة الاستثمار: التأسيس الإلكتروني يمثل 85% من حجم الشركات التي يتم تأسيسها
  • المتهم بقتل الطالب السعودي في بريطانيا يمثل أمام المحكمة
  • ما الذي جرى؟
  • خبير قانوني:مشروع قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي يمثل رصاصة موت بحق الدستور والإنسانية وكرامة الوطن والمواطن
  • أحمد موسى: الجيش المصري يمثل 108 ملايين مواطن.. وأي حد عنده أطماع عدو