ترجمة: أحمد شافعي -
فيما تخيم المجاعة على غزة، أعلنت دول فرنسا وبريطانيا وكندا عزمها الاعتراف بدولة فلسطينية. وكان الرد الفوري على ذلك من إسرائيل والولايات المتحدة مثيرا للقلق. إذ وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ذلك الفعل بأنه «مكافأة» لحماس المسؤولة عن قتل قرابة ألف ومائتي فرد في هجمتها على إسرائيل يوم السابع من أكتوبر لعام 2023.
ومع ذلك، فمن شأن موجة جديدة من الاعترافات أن تمثل تأكيدا واضحا للاستقلال السياسي وسلامة الأراضي الفلسطينية، وما هذه بالمسألة الهينة بعد عقود من الغموض الدبلوماسي والانتهاك القديم من إسرائيل لحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وفي ضوء أن السيادة هي عملة القانون الدولي، فقد توفر هذه الخطوة لأنصار الحقوق الفلسطينية مزيدا من القوة في الضغط على حكوماتهم من أجل الانصياع للقانون الدولي في ما يتعلق بإسرائيل.
تعترف مائة وسبعة وأربعون دولة بالفعل بالدولة الفلسطينية. ومن شأن إضافة ثلاث قوى غربية ـ من حلفاء إسرائيل الأساسيين ـ أن تمثل خطوة كبيرة، وتجعل الولايات المتحدة أشد انعزالا بوصفها الداعم الكبير لإسرائيل.
غير أن هذا الاعتراف أقل كثيرا مما ينبغي ومتأخر كثيرا عما كان ينبغي. وهو أيضا رد غير كاف بأي حال على المجاعة، ناهيكم بالإبادة الجماعية بحسب تصنيف كثير من جماعات حقوق الإنسان وخبراء الإبادة الجماعية والهولوكوست ومقرري الأمم المتحدة الخاصين لأفعال إسرائيل في غزة بعد عامين تقريبا من الحرب فيها. فضلا عن ربط هذا الاعتراف ربطا مخزيا بشروط.
لقد وضع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاعتراف في إطار التهديد، إذ سيعترف بفلسطين ما لم تتخذ إسرائيل «خطوات جوهرية» تجاه إنهاء «الوضع المريع» في غزة، وتوافق على وقف إطلاق النار وتلتزم بالسلام. وجعل رئيس الوزراء الكندي مارك كارني الاعتراف مشروطا بإصلاح سياسي فلسطيني، وباستبعاد حماس من الانتخابات الفلسطينية ونزع سلاح الدولة. وفي ما يقل عن الاشتراط الواضح، وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالاعتراف مع تذكيره محمود عباس قائد السلطة الفلسطينية بالتزاماته بالإصلاح.
في الوقت نفسه، وبرغم الإجماع المنتشر على أن إسرائيل ارتكبت انتهاكات وجرائم لحقوق الإنسان الدولية، لا تواجه إسرائيل الآن تحديدا ذا شأن لمليارات الدولارات التي تتلقاها من المساعدات العسكرية.
تزامنت إعلانات الدول الثلاث مع مؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي بشأن حل الدولتين، الذي استضافته فرنسا والمملكة العربية السعودية. فقد أثمر التجمع ـ الذي ضم ممثلين لكندا وبريطانيا ـ ما عرف بإعلان نيويورك الذي أوضح خطوات لحل الصراع. إذ يطالب الإعلان بإنهاء الحرب في غزة، وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية فورا، وتوحيد غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية في دولة فلسطينية وإيقاف إسرائيل عن الاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية.
ويرجو المنظمون أن تقرّ أغلبية أعضاء الجمعية العامة الخطة في لقائها السنوي في سبتمبر، وحثوا جميع البلاد التي لم تعترف بدولة فلسطين على الاعتراف بها.
وبهذا الإعلان، إلى جانب الاعترافات رفيعة المستوى المعتزمة وحركات المجتمع المدني المتنامية، تزداد وحدة إسرائيل في المجتمع الدولي.
لكن الإعلان يوضح أيضا أن للعبة السيادة قواعد تختلف باختلاف اللاعبين إذ يطرح مطالب تكنوقراطية ومؤسسية على شعب يتعرض هو وبنيته الأساسية لتدمير ممنهج وتقل كثيرا مطالبه لمن يدبرون هذا الدمار.
فوفقا للإعلان، من المتوقع من الفلسطينيين أن يرفضوا العنف، ويلتزموا بنزع سلاح الدولة ويحافظوا على نظام أمني مفيد لـ»جميع الأطراف» ويجروا انتخابات وينشئوا «حكما رشيدا، وشفافية، واستدامة مالية» بجانب «توفير الخدمات، ومناخ العمل التجاري والتنمية». وفي المقابل يطالب الإعلان إسرائيل بإطاعة القواعد الدولية الأساسية، وبالتبنى العلني لحل الدولة الفلسطينية وبسحب قواتها من غزة.
لم يتعرض حل الدولتين الذي يرجع إلى عقود مضت لأي تعديل يجعله ملائما لعصر الإبادة الجماعية الجديد. في رسائل متبادلة سنة 1993، اعترف رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات بـ»حق دولة إسرائيل في الوجود بسلام وأمن» وألزم منظمة التحرير الفلسطينية بمفاوضات سلمية، وإدانة الإرهاب وتعديل الميثاق الفلسطيني بحيث يعكس هذه الالتزامات. وفي المقابل، تعترف إسرائيل فقط بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلةً للشعب الفلسطيني وذلك فقط «في ضوء» التزامات عرفات. وبقيت السيادة الفلسطينية بعيدة، واستمر الاحتلال الإسرائيلي بوتيرته.
ولقد أثر هذا الظلم الجوهري على كل جهد دبلوماسي منذ ذلك الحين. فقد أقامت السلطة الفلسطينية المتخلفة ما أتاحته لها اتفاقيات أوسلو من مؤسسات محدودة، وتعاونت مع قوات الأمن الإسرائيلية، وأعربت عن تأييدها لعملية سلام التي دأبت إسرائيل طويلا على تقويضها. وبقيادة سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، ارتكزت حملة السلطة الفلسطينية لإقامة الدولة الفلسطينية على اللعب وفقا للقواعد التي وضعتها إسرائيل والمجتمع الدولي الخاضع للسيطرة الغربية. غير أن الاعتراف ظل مرجأ، ومنعت الولايات المتحدة عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، ولم توضع أي شروط على قوة الاحتلال.
واليوم، تطالب الحكومات الغربية الفلسطينيين بتكرار هذا الأداء البيروقراطي بينما يتناقش مسئولون إسرائيليون علنا في «الهجرة الطوعية» من غزة وكذلك في الضم الدائم للضفة الغربية.
تواجه الدول التي أقرت إعلان نيويورك وأعلنت خططها للاعتراف اختباريين عاجلين. أولا: هل ستطبق هذه الدول القانون الدولي في ما يتعلق بأفدح انتهاكات إسرائيل على الأرض، سواء في غزة أو الضفة الغربية؟ وتتضمن هذه الانتهاكات اتهامات بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وإسرائيل تنكر هذه الاتهامات مثلما تنكر الاتهام بأنها تتسبب في مجاعة بغزة.
وتمتلك أطراف مؤتمر الأدوات المتحدة أدوات من قبيل ضمان الوصول الإنساني، ومعاقبة إسرائيل على منع المساعدات، وتعليق العلاقات التجارية. وفي حال عجز هذه الدول عمليا عن إنقاذ الأرواح المهددة بأشد الأخطار، فأي أمل يمكنها أن تقدمه للمستقبل؟
يقوم الاختبار الثاني على محاسبة إسرائيل. والإعلان يذكر «الكارثة الإنسانية» والتجويع لكن في سياق المبني للمجهول، وكأن المجاعة القادمة تقع من تلقاء نفسها وليست مدبرة تدبيرا مثلما يعتقد الكثيرون. وتظهر في الإعلان كلمة «المحاسبة» مرة، بينما لا تظهر كلمة «العدالة» بالمرة. ويستدعي هذا أيضا نظام أوسلو الذي أقام المفاوضات على أساس التخلي عن المحاسبة والعدالة وقول الصدق.
بعد قرابة عامين من فرض قيود مشددة على وصول المساعدات وتفكيك نظام المساعدات الخاص بالأمم المتحدة لصالح تسليح عملية توزيع الغذاء الذي أسفر عن وفاة أكثر من ألف وثلاثمئة فلسطيني، اتفقت الدول الخمس عشرة على إعلان لا يقول بصورة جمعية إن «إسرائيل مسئولة عن التجويع في غزة». فإن لم يكن بوسع هذه الدول أن تعين المشكلة وتسميها باسمها، فقد لا يرجى منها أن تتمكن من حلها.
تبدو اليوم لغة الإصلاح، بل والحل، جوفاء. إذ يعد الإعلان بـ»خطوات لا تراجع عنها» نحو الدولة، لكن بالنسبة لمن يتضورون جوعا اليوم، ما من خطوة لا تراجع عنها إلا الخطوة إلى الموت. وإلى أن يثمر الاعتراف بالدولة أفعالا ـ من قبيل حظر الأسلحة والعقوبات وتنفيذ القانون الدولي ـ فإنه سيبقى وعدا خاويا إلى حد كبير، ولا يخدم بالدرجة الأساسية إلا صرف الأنظار عن تواطؤ الغرب في دمار غزة.
زينيدا ميلر أستاذة القانون والشئون الدولية والمديرة المشاركة لمركز القانون والعدالة العالميين بجامعة نورثإيسترن.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السلطة الفلسطینیة الدولة الفلسطینیة رئیس الوزراء فی غزة
إقرأ أيضاً:
نائب ترامب: لا نية لدى واشنطن للاعتراف بالدولة الفلسطينية حالياً
أكد رامي جبر، مراسل قناة "القاهرة الإخبارية" في واشنطن، أن نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس شدد على أن الولايات المتحدة لا تنوي في الوقت الحالي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مرجعًا ذلك إلى غياب حكومة فلسطينية قادرة على إدارة الأراضي الفلسطينية بشكل فعّال.
وجاءت تصريحات فانس خلال لقائه وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، في منزل الأخير الريفي أثناء زيارة رسمية إلى المملكة المتحدة، ناقشا خلالها الأوضاع الإنسانية في غزة، والحرب الدائرة، إضافة إلى الأزمة الروسية الأوكرانية.
حماس مرفوضة.. والسلطة الفلسطينية ضعيفةقال فانس إن الإدارة الأمريكية تعتبر حركة حماس جهة مرفوضة للحكم في غزة، كما أنها ترى أن السلطة الفلسطينية الحالية ضعيفة وغير قادرة على قيادة القطاع أو فرض سيطرتها، مما يجعل فكرة الاعتراف بدولة فلسطينية "غير واقعية في الوقت الراهن".
التركيز الأمريكي على الجانب الإنسانيوأوضح نائب الرئيس الأمريكي أن التركيز الحالي لواشنطن ينصب على الجانب الإنساني، بما يشمل توفير المساعدات الأساسية والغذاء للفلسطينيين داخل قطاع غزة، في ظل الأزمة المستمرة.
رفض الاعتراف الأحادي وتحذير من تداعياتهونقل جبر عن فانس قوله إن أي اعتراف أحادي بالدولة الفلسطينية من قبل أطراف دولية قد يُلحق ضررًا بالقضية الفلسطينية، ويؤثر سلبًا على جهود السلام والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
وشدد فانس على أن الاعتراف يجب أن يكون جزءًا من عملية تفاوض تشمل الطرفين – الفلسطيني والإسرائيلي، مؤكدًا أن أي تجاوز لإسرائيل في هذا السياق "لن يخدم السلام".
واختتم نائب الرئيس الأمريكي تصريحاته بالتأكيد على أن استعادة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس لا تزال أولوية قصوى للإدارة الأمريكية، ضمن المساعي لتهدئة الوضع في المنطقة.